الحقيقة لا أدري، لماذا يصر « الأصدقاء الترانزيت » على السقوط بـ « البراشوت » مباشرة على الموضوع الذي أنشره، ولا يبذلون جهدا للتجول في ساحة مشروعي الفكري، للتعرف على مسيرتي الفكرية، ورحلتي من الإيمان الوراثي إلى الإيمان العلمي، وها أنا أعيد ما سبق أن قلته على هذه الصفحة أكثر من مرة.
في أوائل الثمانينيات، انتهيت من تدوين مشروعي الفكري كله، والذي نشرت جانبا منه على موقعي، وعلى هذه الصفحة، ولم أستطع نشره كاملا عن طريق دور نشر، لاعتبارات أمنية وعائلية، فقد كان والدي يعمل مديرا عاما للوعظ بالأزهر، وإماما لأهل السنة، ورئيسا عاما للجمعيات الشرعية.
ولقد كان اسم مشروعي الفكري وقتها «السنة والحديث كمصدر ثان للتشريع »، كما هو منشور في صحيفة الأخبار في ١٤ / ٤ / ١٩٨٨م، ولقد قمت بطبع بعض النسخ، وتوزيعها على نخبة من علماء الفرق الإسلامية، تمهيدا لعقد مؤتمر تحت عنوان: « السنة والتشريع، بين أزمة التخاصم والتكفير ».
فهل يعلم الأصدقاء الترانزيت هذه المعلومة؟!
إن كثيرا من الأصدقاء، يتعاملون مع ما جاء في المنشور من أفكار، ويكتبون تعليقاتهم، وهم لا يعلمون شيئا عن مشروعي الفكري، ولا عن المنهجية العلمية التي اتبعتها لفهم القرآن، ولكن لماذا لم تصلهم أخبار محمد مشتهري؟!
لأن النجومية الفكرية تحتاج إلى وسيلة لإخراجها إلى دائرة الضوء، فيشاهدها الناس، ويعرفونها.
إن « أ. جمال البنا » عندما أفتى بأن التدخين في نهار رمضان لا يُفطر الصائم، خرج من عزلته، وأصبح نجما، يشاهده الناس على الفضائيات، شبه يوميا، وكان من أثر ذلك، أن باع كل مؤلفاته التي كانت تملأ مخزنا بالكامل، وازداد نشاطه، وتوسعت شعبيته.
وعندما استطاع « أ. إسلام البحيري » أن يصل إلى قناة لها وزنها الإعلامي، وأصبح له برنامج ثابت، وفجر قضايا قد قُتلت تفجيرا منذ عقود من الزمن، وما كان منه إلا أن نقلها عمن فجّروها، ظهر نجمه وأصبح حديث الساعة، فالناس لم تشاهد غيره، إعلاميا، فجّر هذه القضايا.
وعندما خرج د. شحرور بمشروعه الفكري، وفجر قضايا لم يسمع عنها المسلمون من قبل، وأسقط عنهم كثيرا من أحكام الشريعة القرآنية، بدعوى القراءة المعاصرة للقرآن، ظهر نجمه وأصبح حديث العالم.
فإذا نظرنا إلى الدائرة التي ظهرت فيها نجومية هؤلاء، وجدناه دائرة مذهبية، تابعة لفرقة أهل السنة والجماعة، تتعامل مع أحكام الشريعة القرآنية بمرجعية أئمة السلف، ويبدو أن هؤلاء النجوم يعتقدون أن فرقة أهل السنة هي « الفرقة الناجية »!!
إن الأستاذ جمال البنا، يريد تنقية « السنة »، بمفهوم أئمة أهل السنة، فيكتب كتاب « تجريد البخاري ومسلم من الأحاديث التي لا تلزم ».
والأستاذ إسلام البحيري، يريد تنقية « السنة »، بمفهوم أئمة أهل السنة، فيدخل السجن لأنه قال في أئمة أهل السنة، ومنهم أئمة الحديث، وأصحاب الكتب الستة، وفي مقدمتهم البخاري ومسلم، قال فيهم ما يُنقص من قدرهم ومكانتهم العلمية.
والدكتور المهندس محمد شحرور، يريد تنقية « السنة »، بمفهوم أئمة أهل السنة، وجميع المراجع التي استند إليها في مؤلفاته، سواء بنقد نصوصها أو لتدعيم مشروعه الفكري، هي مراجع أئمة أهل السنة والجماعة.
فلماذا فرقة أهل السنة والجماعة بالذات؟! ولماذا نفس أمهات الكتب التي تخرجت من مدرستها المنظمات التكفيرية والجهادية؟!
لأنها الفرقة التي تربوا فيها، وتعلموا دينهم على مائدتها.
ولبيان تهافت وسقوط هذه المشاريع الفكرية، التي « ضحكت على الناس » بدعوى الاستنارة والمعاصرة، والوصول إلى العالمية، أقول:
إذا كنتم حقا تبتغون وجه الله من نشر مشاريعكم الفكرية، فإن الله تعالى لم يأمركم باتباع مرويات السنة، ولا تنقيتها، لأنه هل يُعقل أن ينزل الله على رسوله نصوص وحي ثان، ثم يأمر المسلمين بتنقيته؟!
إن الله تعالى لم يأمر المسلمين إلا باتباع كتابه، وهذا الاتباع يحتاج إلى تدبر، وهذا التدبر يحتاج إلى أدوات، وإلى منهج علمي يبين كيفية استخدام هذه الأدوات.
فهل فعل د. م. شحرور ذلك عند استنباطه مفهوم « السنة النبوية » من كتاب الله؟! لم يفعل، وكانت الأداة الوحيدة التي يملكها هي هواه، وسأضرب مثالا واحدا على ذلك.
من النتائج التي توصل إليها د. م. شحرور، ودونها في ختام كتابه « السنة الرسولية والسنة النبوية »، رؤية جديدة، وهو حسب علمي آخر ما كتبه، تقريبا عام « ٢٠١٤م »، حتى لا يخرج علينا التابعون ويقولون، هذا الذي قاله كان في أول دعوته، « عام ١٩٩٠م »!!
قال د. م. شحرور عن السنة برؤيته المعاصرة:
(٥) الرسول (ص) معصوم من مقام الرسالة فقط …، ولكنه غير معصوم من مقام النبوة في الاجتهاد.
* أقول:
إذن فمقام الرسالة « مقام عصمة »، يستحيل مطلقا أن يأتيه الباطل.
* ثم يقول:
(٨) هناك نوعان من السنة الثابتة عن الرسول:
أولا: السنة الرسولية:
وهي الممثلة في ما ثبت عنه في الشعائر والقيم الإنسانية التي نجدها في الفرقان العام والخاص.
ثانيا: السنة النبوية:
التي نجدها موزعة في القصص المحمدي والأحاديث النبوية الخاصة بعين اجتهاداته من مقام النبوة.
* أقول:
وهل هناك سنة ثابتة وسنة غير ثابتة، والثابتة هي التي لها نوعان؟!
ثم تدبر قوله وهو يتحدث عن « السنة الرسالية »، أي عن مقام الرسالة:
« وهي الممثلة في ما ثبت عنه »، يقصد طبعا ما ثبت عن الرسول!!
فمن الذي سيقول للدكتور شحرور، ما الذي ثبت عن الرسول، وما الذي لم يثبت؟! أليس هم أئمة الحديث، لفرقة أهل السنة والجماعة!!
إذن، فقد سقط كتابه « السنة الرسولية والسنة النبوية »، رؤية جديدة « معاصرة »، من قواعده، لأنه بهذا المنهج المتهافت، عليه أن يتبع علماء الجرح والتعديل، والتصحيح والتضعيف، لفرقة واحدة فقط، وهي فرقة أهل السنة، فكيف بحال « السنة » عند باقي الفرق الإسلامية؟!
* يقول مؤكدا على إسقاط موضوع كتابه « السنة الرسولية والسنة النبوية »:
(١٠) تكون الطاعة المتصلة للسنة الرسالية في الشعائر الواردة في ما ثبت عنه من أحاديث رسولية في الشعائر، وفي القيم الإنسانية الواردة في الفرقان العام والفرقان الخاص.
* أقول:
أما الأحاديث الرسولية المتعلقة بالشعائر، وخاصة الصلاة، فهي بحر متلاطم الأمواج، وقد بيّنت ذلك في كتابي إشكاليات الخطاب الديني، فصل: « الرواية وأحكام الصلاة ».
لذلك أقول: إن د. م. شحرور أقام مشروعه الفكري علي قوائم متهافتة، ويبدو أنه تصور أنه يستطيع أن يُخفي وراء نجوميته، تهافت هذه القوائم، والمنهج الذي أقام عليه قراءته المعاصرة للقرآن.
ومن هذه القوائم المتهافتة، قوله إن الرسول معصوم من مقام الرسالة فقط، « وهذا صحيح »، ولكنه جاء بعد ذلك وقذف بمقام الرسالة في الهواء، بقوله عن الطاعة المتصلة للسنة الرسالية في الشعائر: « ما ثبت عنه من أحاديث رسولية »!!
إذن فهو يؤمن بحجية المصدر الثاني للتشريع، الذي حمل الأحاديث الرسولية، ولكنه لا يتبع إلا ما « ثبت عن رسول الله »، أي لا يتبع إلا الرواة والمحدثين، وذلك في أهم باب وهو « السنة »، وفي آخر مرحلة من مراحل تطوره الفكري، الذي أصدر على أساسه هذا الكتاب.
ثم قال:
(١٥) طبقا لهذا كله علينا إعادة النظر جذريًا في ما يُسمى علوم الحديث، حيث رأيت أنها السنة، وصحة الحديث لا تعني أنه ملزم، وأنه قابل للقياس عليه، وأنه مصدر تشريعي.
أقول:
بعد أن اكتشف د. م. شحرور، « عام ٢٠١٤م » أن علوم الحديث هي السنة، فإذا به يقول: « صحة الحديث لا تعني أنه ملزم »، أي حسب فهمه الجديد للحديث، فإن صحة السنة لا تعني أنها ملزمة، لذلك يريد إعادة النظر في هذا المصدر الذي استقى منه السلف، ويستقي منه الخلف، علوم الحديث!!
ما هذا المنهج العشوائي، الذي لا أساس له، ولا برهان يحمله؟!
لقد أسقط د. م. شحرور بمنهجه العشوائي هذا، الطاعة المتصلة للسنة الرسالية، التي قال في (١٠)، إنها في الشعائر الواردة في ما ثبت عن الرسول من أحاديث رسولية!!
« وافرحوا يا مسلمين، فقد أسْقَطَ د. م. شحرور الشعائر عنكم أيضا »!!
وأخيرا يقول:
(٢١) وهكذا يتبين لنا تهافت أصول الفقه، التي وضعها الشافعي، والتي أطلق عليها: « الكتاب – السنة – الإجماع – القياس »!!
أقول:
وهكذا يتبيّن لنا، كيف يقرأ المفكرون المستنيرون القرآن قراءة معاصرة، قوامها التراث الديني للفرقة التي ولدوا فيها، وتربوا على مائدتها الفكرية الدينية، ثم يدّعون أنهم يحملون فكرًا مستنيرًا للعالم، وأفئدتهم هواء.
محمد السعيد مشتهري