نحو إسلام الرسول

(515) 7/10/2016 (هل كان الرسول متبعا لملة إبراهيم حنيفا؟)

هل كان الرسول متبعا لملة إبراهيم حنيفا؟!

إن التعامل مع القرآن الكريم يجب أن يكون من منطلق أنه كلام الله تعالى، وكلام الله يجب أن نتعامل معه بتقديس وعلم وأدب، وأعلم من الأصدقاء من استهانوا بقيمة القرآن العلمية، وتصوروا أن مجرد حضورهم المواعظ واللقاءات الفكرية، سيعصمهم من العشوائية الفكرية التي تهدم كل ما تعلموه.

لذلك عندما وضعت لنفسي منهجًا علميًا للتعامل مع القرآن، كان يجب أن يحمل هذا المنهج، أدوات لفهم القرآن، مستنبطة من ذات النص القرآني، بعد رحلة علمية واجهت فيها أنواع من التحديات، كان من الممكن أن يتحول منهجي من العلمية إلى العشوائية، لولا أن هذه الأدوات تم استنباطها من القرآن على أساس منهجي، كان من المستحيل أن أفهم القرآن بدونها، وهي:

أولا: اللسان العربي، « مصدر معرفي خارج القرآن »

لو أنني كنت غير عربي، ما استطعت أن أتعامل مع القرآن، ولا أن أستنبط منه أدوات فهمه، ولذلك كان يجب أن أعترف بالفضل للمدرسة التي تعلمت فيها كيف أنطق حروف اللغة العربية، وأكوّن منها جملة مفيدة، يفهما الناس، قبل أن أعرف القرآن أصلا.

كما يجب أن أعترف بالفضل للغة العربية، فبدونها ما استطعت أن أعلم أن القرآن نزل بلسان عربي مبين، وأن الوقوف على هذا اللسان العربي وعلومه، يحتاج إلى دراية بالمراجع التي حملت للناس قدرًا كبيرًا من هذا اللسان وعلومه، وفي مقدمة هذه العلوم «علم البيان».

ثانيا: آليات عمل القلب « مصدر معرفي داخل الإنسان »

عندما درست القرآن لأستخرج منه أدوات فهمه، علمت أن القرآن لا يُفهم إلا بآليات مركزها القلب، وهي: آليات التدبر والتفكر والتعقل والتفقه والنظر..، وفهمت لماذا أنزل الله تعالى القرآن على قلب النبي:

« وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ . نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ . عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ . بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ »

وبدون تفعيل هذه الآليات، يستحيل فهم القرآن واستنباط أحكامه.

ثالثا: السياق القرآني « مصدر معرفي داخل القرآن »

عندما أبحث عن مفهوم أو معنى كلمة من كلمات القرآن، في مراجع اللغة العربية أو اللسان العربي، يستحيل أن أقبلها إلا إذا قبلها سياق الآية التي وردت فيه، فالسياق القرآني هو الحاكم أولا وأخيرًا على مراجع اللغة العربية واللسان العربي.

رابعا: آيات الآفاق والأنفس « مصدر معرفي خارج القرآن »

يستحيل أن أفهم كلمة من كلمات القرآن، تتعلق بآيات الآفاق والأنفس، دون الاستعانة بأهل التخصص العلمي.

خامسا: منظومة التواصل المعرفي « مصدر معرفي خارج القرآن »

وهي المحور الأساس الذي تدور حوله الأدوات السابقة، وهي مفصلة في حلقتين « الثالثة والربعة » من برنامج «نحو إسلام الرسول – المشكلة والمنهج ».

وخلاصة هذه المقدمة، أنه يستحيل أن نفهم القرآن من ذات النص القرآني، يستحيل يستحيل، وأن الآيات التي يستدل بها من ليس لهم دراية بكيفية التعامل مع كتاب الله، ومنها قوله تعالى:

وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا » ، « وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ »، « وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ » ..، إلى آخر الآيات، أقول لهم:

اذهبوا بهذا القرآن الميسر، المفصل، واعطوه لغير عربي، واطلبوا منه أن يتلوه عليكم ويفسر لكم آياته، أفلا تعقلون؟!

أولا: إن من مناسك « الحج »، التي تؤدى في البلد التي نزل فيها القرآن بلسان أهلها العربي، منسك اسمه « الإفاضة »، يقول الله تعالى:

« ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ، وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ »

والسؤال: من هم هؤلاء « الناس»، الذين جعلهم الله مصدرًا معرفيًا خارج القرآن، لنتعلم منهم مكان وكيفية أداء « الإفاضة »، التي هي من مناسك فريضة الحج، ومنصوص عليها في كتاب الله؟!

أخبرونا يا من تعيشون داخل دائرة اسمها « الوهم »، بدعوى فهم القرآن من ذات القرآن، كيف تفهمون هذه الآية « على سبيل المثال » من داخل النص القرآني؟!

ثانيا: لقد أمر الله رسوله محمدًا والمؤمنين، باتباع ملة إبراهيم حنيفا، فقال تعالى:

« إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ، وَهَذَا النَّبِيُّ، وَالَّذِينَ آمَنُوا »

ويقول الله تعالى:

« ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا، وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ »

ومن الأصول التي قامت عليها ملة إبراهيم، التي وردت في كتاب الله، بعد الإقرار بأصول الإيمان الخمسة، فريضة الصلاة، التي أقامها إبراهيم وذريته:

« رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ »

ويقول الله تعالى، على لسان إبراهيم عليه السلام:

« رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً
مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ »

فهل أقام إبراهيم وذريته الصلاة أم لا؟! نعم أقامها، ولكن كيف؟! سنعلم بعد قليل، ولكن أليست ذرية إبراهيم هي التي سكنت الوادي، الذي عند البيت المحرم؟!

فأين هذا « البيت المحرم »، ومن أي المصادر المعرفية عرفنا مكانه، هل من خريطة جغرافية موجودة في كتاب الله؟!

ثالثا: لقد أمر الله تعالى إبراهيم، عليه السلام، أن يتخذ مساحة من الأرض، يبني فيها بيتًا للعبادة،
يقول الله تعالى:

« وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ، أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا، وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ »

ويقول الله تعالى:

« وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ، رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا، إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ »
ثم بيّن الله تعالى مكان هذا البيت، فقال تعالى:

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ . فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ »

فمن أي المصادر المعرفية نعلم الفرق بين « بكّة » و« مكة »؟! وأين الموقع الجغرافي الذي تقع فيه « بكّة » أو « مكة »، التي وضع الله فيها أول بيت للناس؟! هل موجود في القرآن؟!

ثم هل ذكر أحد من المؤرخين، في العالم أجمع، أن « مكة » هذه لا وجود لها على الخريطة العالمية منذ قرون، ولا البيت الحرام، وأن أعداء الإسلام هم الذين ضحكوا على المسلمين وأوجدوا لهم هذا البيت؟!

وبناء على « نظرية المؤامرة » هذه، تصبح « الكعبة » ليست هي البيت الحرام، ويصبح كتاب الله محرفًا، لأن الله تعالى يقول: « جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ »، وتصبح « الجزيرة العربية »، التي بعث الله فيها النبي الخاتم محمدًا، أكذوبة!!

رابعا: عندما قال الله تعالى عن البيت: « فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ »، وقال تعالى: « وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى »، فهل « مقام إبراهيم » هو الموجود في البيت الحرام إلى يومنا هذا، أم أن أعداء الإسلام هم الذين وضعوه؟!

وعندما يخبرنا الله تعالى أنه أمر إبراهيم بالآتي:

« وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ »
فمن أي المصادر المعرفية نستطيع أن نقف على ماذا كان يفعل هؤلاء « الطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ »؟!

فما هي هذه الهيئة، التي يتلازم فيها الركوع مع السجود، والتي أمر الله إبراهيم، عليه السلام، أن يطهر البيت للذين يقيمونها؟! ولماذا لم يقل الله تعالى في هذا السياق: « وَالْعَاكِفِينَ وَالرَّاكِعِين والسَّاجِدِين »؟!

الجواب: لأن تلازم الوصفين « وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ » دليل على أنهما يؤديان بكيفية أداء واحدة، فإذا عطف أحدهما على الآخر تفرقا واستقلا، وفي ذلك دليل قطعي على صحة هيئة الصلاة، التي نقلتها لنا « منظومة التواصل المعرفي ».

وإذا كان الله تعالى قد جعل استقبال « القبلة » شرطا لصحة وقبول الصلاة، وهذه المعلومة وصلتنا أيضا عن طريق « منظومة التواصل المعرفي »، تفعيلا لقول الله تعالى:

« قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ، فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ »

فعلى أي أساس « منطقي »، قبل أن يكون « شرعيًا »، لا نقبل مفهوم « إقامة الصلاة »، الذي حمله المسلمون جميعًا، بجميع الفرق والمذاهب العقدية المختلفة، في أذهانهم، من هيئة القيام والركوع والسجود، منذ عصر الرسالة وإلى يومنا هذا، بصرف النظر عن خلافهم حول الفروع، كما بيّنت ذلك عند شرحي لـ « منظومة التواصل المعرفي »؟!

لقد ذكر الله تعالى ما ينص على صحة ما نقلته لنا « منظومة التواصل المعرفي » من هيئة الصلاة، وذلك عند بيانه لكيفية أداء الصلاة في حالة « الخوف »، ولو أن الصلاة كانت تعني ذكر الله والتسبيح والدعاء فقط، لاستطاع المرء أن يفعل ذلك في حالة الخوف بسهولة ويسر.

إن الآية التالية تثبت تهافت القول بأن الصلاة تعني الدعاء وتلاوة بعض آيات الكتاب، وذلك وقت الفجر، ووقت العشاء، لأن الذي يفعل ذلك يكون قد أعطى ظهره لكل الآيات السابقة وهو يحسب أنه يُحسن صنعا!!

يقول الله تعالى:

وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ، وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ، فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ، وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ.. »

فما معنى « أَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ »، وما معنى « فَإِذَا سَجَدُوا »، في سياق الحديث عن ظروف معركة تسفك فيها الدماء؟!

وإذا كانت إقامة الصلاة سهلة وبسيطة بهذا الشكل الذي يدعيه من ليس لهم علاقة بمنظومة تدبر القرآن، إذن فقد كان كل مقاتل يستطيع أن يقيمها بتلاوة بعض آيات الكتاب وهو على فرسه حاملا سيفه، فلماذا يجمع الرسول فريقًا من الجيش ليقيموا الصلاة، وفريقًا يكون من وراء الفريق الأول، ليحميه وقت « سجوده »، استجابة لقول الله تعالى بعدها:

« وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً »

ينصحني بعض الأصدقاء، ألا أهتم كثيرا بما يقوله اللادينيون، وأصحاب القراءات الشاذة للقرآن، وأن أتوقف عن بيان البراهين الدالة على تهافت توجهاتهم الفكرية.

والحقيقة أني مطلع على التوجهات الفكرية لمعظم هؤلاء، وأعلم جيدًا من أين يأتي الأصدقاء المخالفين لي في الرأي بتعليقاتهم على هذه الصفحة، ولكني لا أكتب من أجل أشخاص، وإنما من أجل تأصيل حقائق بأدلتها العلمية القرآنية، حسب ما يمليه عليّ مشروعي الفكري.

محمد السعيد مشتهري

أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى