نحو إسلام الرسول

(509) 28/9/2016 (أزمة التوجهات الفكرية القرآنية)

عندما قررت الانتقال من مرحلة الإيمان الوراثي إلى الإيمان العلمي، سألت نفسي:

أولا: هل تستطيع أن تقرأ القرآن بدون الخلفية الثقافية العربية الموروثة؟!

هنا علمت فضل المرحلتين الإبتدائية والإعدادية في تعليمي كيف أنطق الحرف، وأكتب الكلمة، وأتعرف على معاني الأسماء والمسميات، ودلالات الأفعال والحروف، من قبل أن أقرأ القرآن أصلا.

واليوم: نزل على العالم العربي من السماء، من يدّعون أن القرآن يمكن أن يُفهم وتستنبط أحكامه، دون الاستعانة بأي مصدر معرفي خارجي، فإذا سألناهم: أين تعلمتم التحدث بالعربية وقراءة حروفها وكلماتها؟! قالوا: في السماء!

ثانيا: افترض أن المسؤلين عن التعليم في العالم العربي، تآمروا على المسلمين، وعلموهم حروف الهجاء بطريقة غير صحيحة، وقالوا لهم إن الـ «أ» اسمها «هـ»، وإن الـ «هـ» اسمها «ع»…، هل كان المسلمون سيفهمون القرآن كما فهمه رسول الله والذين آمنوا معه؟!

وهنا فهمت لماذا استخدم السياق القرآني كلمة «الذكر»، عند حديثه عن تعهد الله بحفظ كتابه الخاتم، ولم يستخدم كلمة «القرآن»، لأن حفظ «الذكر» يشمل حفظ النص القرآني، ومقابله الكوني في الواقع الخارجي.

واليوم: خرج على العالم العربي من الكهف، من يدّعون أن القرآن يمكن أن يُفهم وتستنبط أحكامه، دون فهم مقابله الكوني الموجود خارج القرآن، فإذا سألناهم: أين تعلمتم دلالات الكلمة القرآنية «اسم – فعل – حرف»؟! قالوا: في الكهف!

وبناء على ما سبق، وأن القرآن يستحيل أن يفهمه من نزلوا من السماء، أو من خرجوا من الكهف، فقد وضعت لنفسي منهجية علمية للتعامل مع القرآن، تحمل أدوات مستنبطة من ذات النص القرآني، وهي مفصلة في كتاب «المدخل الفطري إلى الوحدانية».

فإذا اتفقنا على أن العرب، الذين أنهوا المرحلتين الابتدائية والإعدادية، كمستوى أول لتعلم اللغة العربية، لم يكن بإمكانهم قراءة القرآن وفهم كلماته، بمعزل عن هاتين المرحلتين، فأرجو ألا ننسى هذه الحقيقة العلمية عند تعاملنا مع النص القرآني.

لقد أردت أن أبيّن، بهذه المقدمة، أننا أمام فوضى فكرية كبرى في التعامل مع القرآن واستنباط أحكامه، فقد أصبح لكل من عرف «كلمتين» موقع أو صفحة أو حساب على شبكة الإنترنت، ويمكن تقسيم هذه الفوضى الفكرية إلى ثلاث مجموعات:

المجموعة الأولى: «القرآن وكفى»، تدعي أنها تفهم القرآن من داخل القرآن فقط، دون الاستعانة بأي مصدر معرفي خارجي، والحقيقة أنهم يستعينون بخلفيتهم الثقافية العربية الموروثة، التي كونت عندهم صورة ذهنية للكلمة عند النظر إليها، أفلا تعقلون؟!

المجموعة الثانية: «الأصدقاء الترانزيت»، وهؤلاء يزورون المواقع والصفحات والحسابات، يقتطفون منها الأفكار التي تتمشى مع هواهم، ويدافعون عنها بغير علم، فإذا طلبت منهم البراهين العلمية الدالة على صحة هذه الأفكار، أمطروك بوابل من الكلام الإنشائي المرسل، لا حجة فيه ولا برهان!

المجموعة الثالثة: «المبتدعون»، وهؤلاء أقاموا مشاريعهم الفكرية على قاعدة «خالف تُعرف»، فكل حكم قرآني صحيح، يتفق مع فهم السلف للقرآن، يرفضوه شكلا وموضوعا، ثم خرجوا علينا بمنظومة من الأحكام معلقة في الهواء، لا علاقة لها لا بفهم السلف ولا بتدبر القرآن!

ويمكنكم الوقوف على أمثلة عملية تمثل هذه المجموعات، تمثيلا حقيقيا، بتدبر ما جاء في تعليقات الأصدقاء على المنشور السابق.

إن القول الفصل في علاج هذه الأزمة، وهذه الفوضى الفكرية، أن نتذكر دائما:

من علّمنا كيف نقرأ حروف الهجاء، ونُكوّن منها كلمة عربية، وموضوعا إنشائيا، حتى استطعنا أن نفتح مراجع اللسان العربي، ونفهم المكتوب فيها؟!

فاذهب يا صديقي إلى من علمك كيف تقرأ القرآن، واعترف له بالفضل، ثم اقرأ القرآن، وستجد نفسك تجهل كثيرا من كلماته، وستقف عاجزا، ماذا أفعل؟!

وأنا عندما وقفت عاجزا، عكفت على دراسة القرآن، باحثا عن الحل، وعندما وجدته أقمت مشروعي الفكري على أساسه.

والنتيجة: أنه يستحيل فهم الكلمة القرآنية «اسم – فعل – حرف»، دون الاستعانة بهذه الأدوات:

١- علم اللسان العربي، الحامل للغة العربية، والحاكم الضابط لها.

٢- علم السياق القرآني، يشمل سياق الكلمة، سياق الآية، سياق السورة.

٣- آليات عمل القلب، ومنها آليات التفكر والتعقل والتدبر والتفقه والنظر.

٤- الآيات الكونية، وتشمل آيات الآفاق والأنفس.

٥- منظومة التواصل المعرفي، وهي المحور الأساس الذي تسبح في فلكه الأدوات الأربع السابقة.

و«منظومة التواصل المعرفي» من إبداعي، لم يسبقن إليها أحد في العالمين، وهي ما تُميز مشروعي الفكري عن غيره، وهي ليست «التواتر العملي»، وليست الثقافة المعرفية، وحجيتها لا تقوم إلا بوجود نص قرآني هو الذي يُحيلنا إليها.

ومن الغريب، والعجيب، إني فصلت وبيّنت مفهومي لهذه المنظومة كثيرا، باعتبار أني الوحيد الذي أستطيع أن أشرح ما أبدعته بيدي، وقد شرحتها في حلقتين من برنامج «نحو إسلام الرسول – المشكلة والمنهج»، ومع ذلك يخرج علينا من يقول في تعليقه:

«هذا منطق غريب ومبهم، ومنظومة التواصل المعرفي هذه هي نفسها التي نقلت إلينا حد الرجم وحد الردة والسبي و استعباد البشر، كونها معرفة فرضتها الظروف السياسية والإجتماعية والإقتصادية للمكان والزمان، وهي ليست مقياسا لصحة أو خطأ هذه المعرفة أكثر من كونها تاريخا لتطور الأحداث والمفاهيم»

وهذا الذي ذكره في تعليقه لا علاقة له مطلقا بـ «منظومة التواصل المعرفي»، الذي يستحيل فهم القرآن دون الاستعانة بها.

إن الأزمة الحقيقية، أننا لم ندخل محراب القرآن بتواضع العلماء، بجميع تخصصاتهم العلمية، الذين يعلمون قدر أنفسهم وهم يتعاملون مع القرآن، باعتباره «آية إلهية»، وليس «كتابا إلهيا» فقط.

« أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا، وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ . وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ، إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ »

محمد السعيد مشتهري

أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى