يقول الله تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ»
تعالوا نتوقف كثيرًا عند قوله تعالى: « لِيُبَيِّنَ لَهُمْ »
إن مهمة اللسان البيان، والبيان «علم»، ليس قاصرًا على إظهار قواعد اللغة العربية وأساليبها البلاغية، التي تضبط تركيب الجملة وتُبيّن معناها، وإنما يشمل أيضا دلالات الكلمة، «اسم، فعل، حرف»، المتعلقة بمختلف العلوم والمعارف، التي تجعل للجملة قيمة بيانية.
ودون دخول في تفاصيل الفرق بين «اللسان» و«اللغة»، وهل اللسان هو اللغة، واللغة هي اللسان، فإن التحقيق العلمي في هذه المسألة، أن «اللسان» هو الوعاء الجامع لكل ما تميزت به لغات ولهجات الأمة الواحدة.
ولقد بعث الله النبي الخاتم محمدًا، والقبائل العربية تتحدث بأكثر من لغة: لغة قريش، وقيس، وكنانة، وتغلب، وربيعة، ومضر، وتميم، وغطفان..، وأنزل عليه الكتاب بـ «لسان عربي مبين»، تفهمه جميع القبائل.
« نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ . عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ . بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ »
إن العرب لم يتعلموا «اللسان العربي المبين» من القرآن، فقد كانوا يتحدثونه وقت نزول القرآن، أي أن القرآن نزل بلسانهم الذي ورثوه عن آبائهم، فأين ذهب هذا «اللسان العربي المبين»؟!
أولا: هل تَعَلَّمَ العرب في طفولتهم «اللسان العربي المبين»، الذي نزل به القرآن؟!
لا: لقد تعلم العرب، في مراحل التعليم المختلفة، قواعد اللغة العربية وبعض أساليبها البيانية، ثم بعد أن حصلوا على الشهادات، تبخر كل شيء في الهواء، وأصبحت «العامية» لسانهم، وأصبحوا أعاجم أمام لسان القرآن « العربي المبين »!
* فلا تنسوا وأنتم تتعاملون مع القرآن، وتستنبطون أحكامه، أن تسألوا أنفسكم:
من أي المصادر المعرفية تعلمتم كيف تقرؤون الكلمة القرآنية، هل من داخل القرآن؟!
ثانيا: هل حَمَلَ القرآن مسميات الأسماء، وكيفيات أداء الأفعال، ودلالات الحروف؟!
لا: إن القرآن عبارة عن جمل، تحمل كلمات عربية، أما مسمياتها ودلالاتها فليست في القرآن، وإنما تعلمها العرب من خارج القرآن، من منظومة المعارف المحيطة بهم، والتي حفظها الله من لدن آدم عليه السلام، لتكون للرسالات الإلهية فاعلية بين الناس.
« وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ »
إن قوله تعالى: « ثُمَّ عَرَضَهُمْ »، يعني أن الله عرض «المسميات» على الملائكة، وليس «الأسماء»، وإلا لقال تعالى: «ثم عرضها»، ثم طلب من الملائكة أن يذكروا «أسماء» هذه الأشياء التي أمامهم: « أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ »، فقالوا: « سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ».
* فلا تنسوا وأنتم تتعاملون مع القرآن، أن الكلمة القرآنية، «اسم، فعل، حرف»، لها واقع خارج القرآن اسمه «المسمى»، محفوظ بحفظ الله له، وتفاعل هذا الواقع مع الكلمة القرآنية، في جميع مجالات العلوم المختلفة، حمله «اللسان العربي المبين».
ثالثا: إن حفظ «الذكر» هو حفظ «الاسم» و«المسمى»، لأنه يستحيل أن يتذكر الإنسان أشياءً لم تتكون عنده صورة ذهنية لها، لذلك تعهد الله بحفظ «الذكر»، فحفظ «القرآن»: الكلمة «المقروءة»، ومقابلها الكوني «المشاهد».
«إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»
* فلا تنسوا أننا نتعامل مع القرآن اليوم بخلفية ثقافية، تقوم على أبجديات اللغة العربية التي تعلمناها في البيئة التي ولدنا فيها، وعبر مراحل التعليم المختلفة.
وبهذه الخلفية الثقافية نقرأ القرآن قراءة مبتورة، فنتعامل مع الكلمات القرآنية بمعزل عن تفاعلها مع المقابل الكوني، المحفوظ بحفظ الله له.
لذلك خرج علينا من يتقولون على الله بغير علم، ويُحرّفون دلالات الأسماء ومسمياتها، التي تواصلت معرفيا، أمميا وعالميا، بدعوى «القراءات العصرية للقرآن»!
رابعا: هل يمكن التعرف على آيات الآفاق والأنفس، المذكورة في القرآن، دون مشاهدة «مقابلها الكوني»، وسؤال أهل التخصص العلمي عنها؟!
عندما يقسم الله تعالى بـ: «الشَّمْس»، فمن أي المصادر المعرفية عرف العرب معنى كلمة «الشمس»، هل لها صورة في كتاب الله، أم عرفها العرب في سن الطفولة قبل أن يعرفوا القرآن أصلا؟!
وعندما يقسم الله تعالى بـ: «ضُحَاهَا»، فمن أي المصادر المعرفية عرف العرب هذه الظاهرة الفلكية التي تسمى «الضحى»، هل لها تفصيل في كتاب الله، أم تفصيلها عند علماء الفلك؟!
* فلا تنسوا أن القرآن لم يحمل صور مسميات كلماته العربية، ولا دلالاتها البيانية والبلاغية، وهذا القدر الذي تعلمه العرب من «اللسان العربي»، ومن «اللغة العربية» مسحته «العامية» من الذاكرة.
خامسا: عندما نريد استنباط أحكام الشريعة من القرآن، علينا أن نتعامل مع النص القرآني بحيادية تامة، ونعطي للخلفية الثقافية العربية الموروثة ظهورنا.
فلا يصح مثلا:
١- أن آتي على آيتين في كتاب الله، وأستنبط منهما مواقيت الصلاة، بمعزل عن المتخصصين في علم الفلك:
أ- « وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ »
ب – « أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا »
فيخرج علينا من يقول: إن الصلوات إثنان، وآخر يقول ثلاث، والحقيقة أنها خمس، حسب ما فهمه أهل «اللسان العربي»، ونقلته «منظومة التواصل المعرفي»، وأيده علماء الفلك، حسب الإشارات الفلكية الواردة في الآيتين.
ثم تعالوا نسأل الذين يريدون أن يتعاملوا مع النص القرآني مباشرة، دون الاستعانة بما فهمه أهل «اللسان العربي» في عصر الرسالة، ونقلته لنا «منظومة التواصل المعرفي»:
ما معنى فعل «أقم» ـ «قائما» – «قياما»؟! هل يوجد وصف في القرآن لما يجب أن يفعله المسلم، استجابة لفعل الأمر «أقم»، وكذلك الركوع والسجود؟!
ثم ما معنى «الصَّلَاةَ»؟! وما معنى « طَرَفَيِ النَّهَارِ »؟! وما معنى «زُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ»، وما معنى « لِدُلُوكِ الشَّمْسِ »؟! وما معنى « غَسَقِ اللَّيْلِ »؟!
فهل في القرآن وصف لكيفية هذه الصلاة، ولهذه الظواهر الفلكية؟!
٢- هل أسماء الأشهر العربية، وأيام الأسبوع، موجودة كلها في القرآن، أم تعلمناها من «منظومة التواصل المعرفي»؟!
٣- وعلى سبيل المثال:
عندما نقرأ قصة نوح، عليه السلام، ونجد أمامنا قوله تعالى: « وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ»، فهل بيّن القرآن نوعية هذه «الألواح»، وما هي «الدسر»، أم سنلجأ إلى علم «اللسان العربي المبين» تبحث فيه عن معناها؟!
إن الذين يتصورن أن النص القرآني يمكن أن يُفهم بذاته، دون الاستعانة بعلم «اللسان العربي المبين»، الذي نقلته لنا «منظومة التواصل المعرفي»، هؤلاء ينطلقون من خلفيتهم الثقافية العربية الموروثة، والقرآن «آية إلهية»، تحتاج لكشف أسرارها إلى التخصصات العلمية المختلفة، وليس فقط إلى «اللغة العربية».
لقد خاطب الله تعالى بالقرآن أهل «اللسان العربي المبين»، وهؤلاء القوم هم الذين فهموا نصوص «الآية القرآنية»:
« قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ » – « إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ » – « إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ » – « إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ » – « قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ » – « قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ».
لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ – يَتَفَكَّرُونَ – يَعْقِلُونَ – يَسْمَعُونَ – يَفْقَهُونَ – يَذَّكَّرُونَ
إن المسلمين لم يشكروا الله تعالى على هذه النعم، فأخذها منهم:
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ
وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا
كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ