نحو إسلام الرسول

(500) 16/8/2016 (يسألون عن معنى ملك اليمين)

أن يمتلك الإنسان إنسانا، بالأسر أو الشّراء أو الإرث، كان أمرا سهلا ومعروفًا عند الشعوب، وبلوة عمت الأمم، حتى بعث الله رسوله محمدًا، ونزل القرآن بتشريعات تعمل على تصفية «الاسترقاق»، فالإنسان ولد حرًا، ويجب أن يعيش حرًا.

لقد نزل القرآن يخاطب الناس بما عرفوه وألفوه، وكان «الاسترقاق» مما عرفه الناس في عصر الرسالة الخاتمة، وأن «العبد» لا يملك من أمر نفسه شيئًا، كما أن «الأصنام» التي تُعبد من دون الله، لا تقدر على فعل أي شيء.

«إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا، إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا، فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ، وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ، إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»

ولقد كانت الشعوب تفرق بين «الحر» و«العبد»، لذلك وصف الله تعالى العبد بأنه إنسان «مملوك» لا يقدر على شيء، لبيان أن المقصود ليس الإنسان العابد «عبد الله» الحر، الذي يتصرف في رزقه كيف يشاء، وإنما المقصود «العبيد» الذين عرفهم الناس في عصر الرسالة.

« ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَّمْلُوكًا لَّا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا، هَلْ يَسْتَوُونَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ»

لقد عرف الناس «العَبْدَ» و«الأَمَةَ»، ولذلك، وفي سياق الحديث عن أحكام «النكاح»، خاطب الله المسلمين بما عرفوه، وأباح لهم نكاح «الأَمَةَ» المؤمنة، و«العبد» المؤمن، وحرم نكاح «الحرة» المشركة، و«الحر» المشرك.

«وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ، وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ، وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا، وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ»

لقد نزل القرآن وقد عمت بلوى «الاسترقاق» شعوب العالم، وكان من الممكن أن تنزل آية واحدة تحرمه، فلماذا لم يحدث هذا؟! لأنه كان يشكل منظومة مالية واقتصادية محلية وعالمية، يستحيل هدمها بقرار مفاجئ، تترتب عليه آثار سلبية تفوق أزمة «الاسترقاق» نفسها.

لذلك كان من الضروري إدارة أزمة «الاسترقاق» بحكمة، واتباع منهج «التدرج التشريعي» الذي كان متبعًا في عصر الرسالة، عصر التزيل واكتمال الدين، وليس معنى إقراره ما كان قائمًا، أن يصبح مما يجب أن يكون مستقبلا.

مثال ذلك: لقد ترك الله للمسلمين نكاح ما نكح الآباء، والجمع بين الاختين في نكاح واحد، فترة من الزمان، حتى نزلت الآيات بتحريمهما، وأبقت على ما سبق نزول التحريم:

«وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ» – «وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ».

وكذلك تعاملت الشريعة القرآنية مع بلوى «الاسترقاق»، فبدأت بتضييق منابعه وتوسيع مصارفه، ولم تبح من منابعه إلا «أسرى» الحروب، لا لترك باب «الاسترقاق» مفتوحًا، وإنما لمعاملة العدو بالمثل، واتباع شريعة المن والفداء:

«فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا»

ومن باب توسيع مصارف «الرق»، جاءت الشريعة القرآنية بـ «العتق» كفارةً لكثير من الذنوب، ككفارة القتل الخطأ، وكفارة اليمين..، وجعلت «المكاتبة» بابًا لحصول «ملك اليمين» على حريتهم، مقابل دفع مبلغ من المال لمالكهم، بموجب اتفاق مكتوب بينهما.

« وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً»

إن استخدام كلمة «ما» في قوله تعالى «مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» التي تستخدم لغير العاقل، وعدم استخدام «من»، إنزال «ملك اليمين» منزلة غير العاقل، فقد كانت شعوب العالم تتعامل مع «ملك اليمين» باعتبارهم سلعة، تباع وتشترى في الأسواق، المحلية والعالمية.

إن التعبير بـ «الملكية»، في قوله تعالى: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا (مَّمْلُوكًا) لَّا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ» بيان لما كان معروفا في عصر التنزيل بـ «ملك اليمين»، فتعالوا نتعرف عن معنى «الملك»، و«اليمين»، في السياق القرآني.

إن «الملك»، في السياق القرآني واللسان العربي، هو الحيازة التي تعطي لصاحبها حرية التصرف في المملوك بالانتفاع أو البيع.

« قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ (لا يَمْلِكُونَ) مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ، وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ»

و«اليمين» يأتي كناية عن القدرة والنصرة والغلبة:

«يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الْأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ»

فالأيدي، في قوله «فِي أَيْدِيكُم»، مستعارة للقدرة والغلبة، أي ما أصبح في وثاقكم.

كما يأتي «اليمين» للتعبير عن «اليد اليمنى»، التي تستخدم في أغلب الأحيان لقضاء حاجات الإنسان:

«وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ـ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى»

«وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ»

إذن فالذين خاطبهم الله تعالى بهذا المصطلح، «ملك اليمين»، كانوا يعلمون معناه، وهو ما ملكه الإنسان بالمال، أو بالغلبة والقدرة، ويستطيع التصرف فيه بالبيع، لذلك يستحيل أن تكون «زوج الرجل» الحرة مما «ملك يمينه»، لقوله تعالى:

«يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ، وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ، مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ»
لقد بينت الآية أن «الأزواج» قسمان: حرائر وملك يمين، فـ «الحرة» زوج للرجل، و«ملك اليمين» زوج للرجل، وقوله تعالى للنبي «وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ» جاء لبيان ما كان متبعا قبل تجفيف منابع «الرق».

إن قوله تعالى في بداية الآية «إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ»، يُبيّن أن الحديث كان عن ما هو موجود من أزواج، وليس لفتح باب «الاسترقاق» من جديد، وإباحة نكاح «ملك اليمين»، بدليل تقييد «مَلَكَتْ يَمِينُكَ» بكونه «مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ»، لبيان حرمة الإمساك بالأزواج اللاتي جئن عن طريق غير الفيء.

وأحكام هذه الآية ليس خاصة بالنبي، كما قد يفهم البعض، فإذا أراد الله تعالى تخصيص حكم أو تقييده نص على ذلك، وقد ذكر في سياق هذه الآية حكمًا خاصًا بالنبي من دون المؤمنين، فقال تعالى:

« وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ، إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا، خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ»

إن المتدبر لكتاب الله، يعلم علم اليقين، أن أحكام «ملك اليمين»، جاءت لتصفية منابعه، وتوسيع مصارفه، للقضاء عليه نهائيًا، لذلك كثر الحديث عنها في السياق القرآني، وسلوكيات المسلمين بعد وفاة النبي ليست مصدرًا للتشريع.

محمد السعيد مشتهري

أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى