لقد فرض الله «الوضوء» على المصلين، وجعله شرطًا لصحة صلاتهم، وبيّن كيفية أدائه تفصيلا: « (فَاغْسِلُوا) وُجُوهَكُمْ – وَأَيْدِيَكُمْ (إِلَى) الْمَرَافِقِ – (وَامْسَحُوا) بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ (إِلَى) الْكَعْبَيْن»، فلماذا لم يذكر عدد ركعات الصلوات، التي لن يزيد عدد كلماتها عن كلمات آية الوضوء؟!
لقد ضيّع «المفكرون الإسلاميون» جهدهم ووقتهم، في دراسات وبحوث وشفرات رقمية، لإثبات «إعجاز القرآن»، في مسائل يُعد نقل المسلمين لها بالتقليد والمحاكاة عبر «منظومة التواصل المعرفي»، آية كآية الشمس، التي لا تحتاج إلى من يثبت حجيتها على العالمين!!
إن حجية «منظومة التواصل المعرفي» هي القاعدة التي قامت عليها حجية القرآن، وقد بيّنت ذلك بالبراهين القرآنية في الحلقتين الثالثة والرابعة من برنامج «نحو إسلام الرسول»، أما «الإعجاز العددي»، فقام على «فتنة الرقم ١٩»!!
لقد بعث الله نبيه الخاتم محمدا، وكانت مسألة «الإعجاز العددي» موجودة عند أهل الكتب السابقة، ويستخدمون نفس القوانين والمعادلات الرياضية، ومضاعفات الأرقام، التي استخدمها الناس على مر العصور، مرورا بالبهائية، ويسهل الوقوف على هذه الحقيقة عن طريق شبكة الإنترنت!!
وفي كتاب الله الخاتم منظومات عددية تُذهل العقول، تحكمها منظومات ومعادلات رياضية تشمل كثيرا من الأرقام، منها الرقم «١٩»، ولكن الله تعالى حذر الناس من فتنة هذه الأعداد، تماما كما حذرهم من فتنة تعلم السحر:
«.. وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا، يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ، وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ..»
إن الرقم «١٩» هو عدد ملائكة خزنة جهنم، فهل يُعقل أن تقوم منظومة «الإعجاز العددي في القرآن» علي عدد خزنة جهنم، الذين سيقومون بتعذيب أهلها؟!
إن المتدبر لسياق آيات سورة المدثر، يعلم أن جدلا كان قائما بين الناس قبل نزولها، حول خزنة جهنم وعددهم، فنزلت الآيات تُبيّن هذا الأمر، وقال تعالى:
« سَأُصْلِيهِ سَقَرَ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ . لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ . لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ . عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ »؟!
ولقد بيّن الله للناس أن العدد «١٩» فتنة للكافرين، فقال تعالى:
« وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً، وَمَا جَعَلْنَا (عِدَّتَهُمْ) إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا »
فكيف يُعطي أصحاب بدعة «الإعجاز العددي» ظهورهم لهذه الفتنة، ويقيمون الدراسات والبحوث الرياضية عليها، ليصلوا إلى ماذا؟!
إلى إثبات صحة الحقائق الكونية المشاهدة لكل ذي بصيرة؟! أم ليقولوا للعلماء المكتشفين لفاعلية هذه الحقائق، أن الإسلام سبقكم إليها منذ أربعة عشر قرنا، فيردون عليهم:
فلماذا إذن لم يكتشفها المسلمون، حملة القرآن، الذين أمرهم الله أن يكونوا شهداء عليهم؟!
لقد جعل الله الحديث حول العدد «١٩» فتنة للكافرين: «وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا»، لماذا؟!
« لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً، وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً»
إذن القضية ليست في العدد «١٩» وفتنته، ولا في العدد «٨»، الذي هو عدد حملة العرش « وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ»، ولا في غيرهما من المنظومة العددية التي حملها القرآن!!
إن القضية في بيان وجوب الإيمان بالبعث والحساب والجزاء والجنة والنار، ولفت نظر المكذبين المشككين إلى وجوب انشغالهم بالهدف وليس بالعدد، لذلك قال تعالى بعدها:
« وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً »
إن هؤلاء «الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرضٌ..»، الذين قالوا: «مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً»، هم الذين قال الله تعالى عنهم في سورة آل عمران:
«فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّه»
والمهتدون المؤمنون، الذين قال الله عنهم: « وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً»، هم الذين قال تعالى عنهم في سورة آل عمران:
« وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا»
إن الذين في قلوبهم مرض والكافرين، هم الذين سيُفتنون بالعدد «١٩»، فهل يُعقل أن يقوم «الإعجاز العددي» لكتاب الله على «فتنة» حذر الله منها، وقال بعدها:
« كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ . وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ . وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ »؟!
إن قوله تعالى: «وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ» يُبيّن أن القضية ليست قضية العدد «١٩»، وإنما قضية الإيمان بفاعلية أسماء الله الحسنى في هذا الوجود، واستحضار عقاب الآخرة، وأن هناك من الجنود ما وراء هذا العدد، لذلك ختم توجيهات هذه الآيات بقوله تعالى:
«وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ»
إن قوله تعالى: «وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ» هو البرهان قطعي الدلالة، على أن القضية لا علاقة لها بالرقم «١٩»، ولا بقول المكذبين: «مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً»
إن حكمة منظومة الأرقام والأعداد والأمثال في كتاب الله، لا يعلمها إلا الله، وهذا ما بيّنه الله تعالى عندما قال في سورة البقرة:
« إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ (مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلا)»
ثم تدبر ماذا قال الله تعالى بعدها:
« يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً، وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ»
وماذا قال تعالى في سورة المدثر:
« كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ»
إنه مهما كانت النتائج المبهرة التي توصل إليها أصحاب بدعة «الإعجاز العددي»، فإنهم أولا وأخيرا يفتقدون «المنهجية العلمية» التي كان يجب أن تقوم عليها نتائج دراساتهم!!
إن جميع الذين يعملون في مجال «الإعجاز العددي في القرآن»، أقاموا حساباتهم على أساس عدد كلمات وحروف مصحف «حفص عن عاصم»، المنتشر في الجزيرة العربية ومصر، وغيرها من البلاد.
وهناك مصاحف أخرى موجودة بين أيدي المسلمين اليوم في بلاد أخرى، تختلف عدد آياتها وكلماتها عن مصحف «حفص عن عاصم»، وهذه المصاحف هي:
مصحف «ورش»: ومن البلاد المنتشر فيها، المغرب العربي، وغرب إفريقيا.
مصحف «قالون»: ومن البلاد المنتشر فيها، ليبيا وتونس.
مصحف «الدوري»: ومن البلاد المنتشر فيها، الصومال والسودان وأواسط إفريقيا.
ولقد قمت ببيان ذلك للمهتمين بقضية «الإعجاز العددي»، فأصبحوا اليوم يقولون: إن النتائج التي توصلوا إليها، قامت على حسابات «مصحف حفص عن عاصم»، وليس على غيره!!
والسؤال: وماذا عن «إعجاز» المصاحف الأخرى وحفظ الله لها؟!
إن «المنهجية العلمية» تفرض أولا على أصحاب بدعة «الإعجاز العددي»، وقبل أي خطوة نحو بيان هذا «الإعجاز»، أن يُحددوا لنا موقفهم من قضية المصاحف الأخرى، وتكون عندهم الشجاعة لإعلان ذلك في مقدمة الدراسات والنتائج التي توصلوا إليها!!
لقد استمعت وقرأت معظم ما كُتب في هذا الموضوع، وسجلت ما استخلصته من نتائج، ولكني وجدت أن بيان ذلك للناس «فتنة»، لذلك قلت لأصحاب هذه البدعة:
لو سمحتم، قبل إجهاد أنفسكم، وإجهاد المسلمين معكم في متابعة المعادلات الرياضية التي توصلتم عن طريقها إلى إثبات أن عدد ركعات الصلوات الخمس موجود في القرآن، أن تجيبوا أولا على هذه الأسئلة:
أولا: هل اتفقتم على المعايير والمعادلات الرياضية التي على أساسها توصلتم إلى هذه النتائج، وعلى كيفية حساب الأحرف، وهل يُحسب الحرف المشدد حرفاً أم حرفين، وهل يدخل في الحساب الحروف غير الملفوظة، وغير ذلك من إشكاليات تعرفونها جيدًا؟!
ثانيا: هل اتفقتم على تحديد معنى الكلمات، والمصطلحات القرآنية، التي أقمتم على أساسها النتائج التي تم نشرها؟!
فعندما يقول المهندس عدنان الرفاعي، في سياق استنباطه من القرآن عدد ركعات الصلوات المفروضة:
«لدلوك الشمس من الزاوية التي تبدأ فيها الشمس بالميل عن الحالة التي هي عمودية فيها على الأرض، يعني بداية فريضة الظهر، إلى (غسق الليل)، إلى ما كان قبل فريضة المغرب»
فمن أين جاء بتعريف «دلوك الشمس»، و«غسق الليل»؟! ألا يعلم أن من شروط البحث العلمي تحديد المصطلحات في بداية البحث؟!
ثم من قال من علماء الفلك في العالم أجمع، أن «غسق الليل» هو ما كان قبل غروب الشمس»؟! ومن قال ذلك من أئمة اللسان العربي؟!
ثم يقول: « يعني هذه العبارة « لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ»، تصور لنا الساحة من الزمان، التي تتعلق بفريضتي الظهر والعصر»، فإذا أخذنا العبارة « لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ»، مع كلمة «الظهيرة»، مع كلمة «تظهرون»، لحصلنا على تحديد عدد ركعات فريضة الظهر»!!
لا تعليق!!
ثالثا: هل المصاحف الموجودة بين أيدي المسلمين اليوم، غير مصحف «حفص عن عاصم»، محفوظة بحفظ الله لها؟!
وإذا كان الجواب بنعم، فلماذا لم تقم حسابات «الإعجاز العددي» في كتاب الله على أساس هذه
المصاحف مجتمعة؟!
محمد السعيد مشتهري