نحو إسلام الرسول

(481) 30/6/2016 (يسألون عن الزكاة)

أولا: لا يوجد اتفاق بين علماء السلف، للفرق والمذاهب المختلفة، حول مسائل باب «الزكاة»، وما يظن أتباع فرقة من الفرق أن هناك مسألة عليها إجماع، فهو في حقيقة الأمر إجماع مذهب من مذاهبها الفقهية، ولكنهم لا يعلمون ذلك، لأنهم مقلدون بغير علم!

ثانيا: أفضل وأهم المراجع التي كُتبت في باب «الزكاة»، في المكتبة الإسلامية، هو كتاب «فقه الزكاة» للدكتور يوسف القرضاوي.

ولكن لماذا هذا الكتاب؟!

لأن الكتاب، دراسة علمية أكاديمية مقارنة، حصل صاحبها الدكتور يوسف القرضاوي (بصرف النظر عن توجهه الفكري)، على درجة العالمية «الدكتوراة» من جامعة الأزهر، بتقدير امتياز، عام ١٩٧٣م.

ثالثا: من النتائج التي توصل إليها الدكتور يوسف القرضاوي في دراسته، بعد أن ناقش علميا أدلة الذين يشترطون حولان الحول، أي أن يمر على الملك في ملك المالك اثنا عشر شهراً عربياً، قوله:

«وبهذا البيان يتضح لنا أنه ليس في اشتراط الحول حديث ثابت مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم»، وأن الذين اشترطوا الحول في الزكاة استندوا إلى روايات ضعيفة، وإلى آراء لأئمة الحديث تقوي هذا الضعف!

لقد بدأت الحديث عن موضوع «الزكاة» بهذه المقدمة، حتى أقطع الطريق على «المذهبيين»، في الاستدلال بأي رأي فقهي يتعلق بهذا الباب، وليس لأني أستند في مشروعي الفكري إلى آراء علماء السلف أو الخلف.

ومن منطلق مشروعي الفكري، فإن أول آية ذُكر فيها الإنفاق في سبيل الله، جاءت بالمفهوم العام لكلمة «الإنفاق»، وهي الآية «٣» من سورة البقرة، وقوله تعالى في سياق بيان صفات «المتقين»:

« الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ»

أولا: كلمة «مما» هي «من ما»، ومن للتبعيض، أي أن المُنفِق لا ينفق ماله كله في سبيل الله، وإنما ينفق جزءا منه.

ثانيا: أن الجزء المُنفَق، يكون من كل رزق يحصل عليه المسلم، سواء كان هذا الرزق من تجارة، أو وظيفة، أو مهنة، أو من الزروع، أو من الركاز، وهي ما في باطن الأرض من معادن، وذلك لقوله تعالى: «وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ»، وقوله تعالى:

«وَأَنْفِقُوا ( مِنْ ما رَزَقْناكُمْ ) مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ (فَأَصَّدَّقَ) وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ»

ومما يؤكد هذا الفهم، قوله تعالى:

« وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ، كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ)، وَلَا تُسْرِفُوا، إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ»

«وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ»: أي عندما يصبح الرزق المعد للادخار أو البيع حقيقة ملموسة في واقع حياة المنفق.

ثالثا: من عطاءات هذه الجملة: «وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ»، أن الفقير لو رُزق رغيف خبز، يأخذ منه قطعة ويعطيها لفقير آخر، قد يكون أكثر فقرًا، وهي من التوجيهات التي تساعد على تربية النفس وتزكيتها.

مع أننا نعلم أن الفقراء، و«المساكين»، غير القادرين على الحصول على لقمة العيش، هم أصلا من المصارف التي تستحق الإنفاق.

رابعا: يفصل المسلم الأموال المستقطعة من الرزق الذي حصل عليه، ويحتفظ بها لحين إنفاقها في مصارفها المختلفة، وهذا الوعاء الذي فيه هذه الأموال المستقطعة، يُسمى:

١- وعاء الزكاة: إذا نظرنا إليه بمفهوم التزكية والنماء والتطهير لأصل الرزق الذي حصل عليه المسلم.

* « خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ( تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا ) وَصَلِّ عَلَيْهِمْ، إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ»

* «وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى . الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى»

٢- وعاء الصدقات: إذا نظرنا إليه من زاوية أصل كلمة «الصدقة» ومادتها، وهي «الصدق»، حيث يتلازم ما في قلب المسلم، مع قوله، مع فعله.

* «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ…»

* «إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ»

* «إِنَّمَا (الصَّدَقَاتُ) لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ، ( فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ )، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»

وسواء سُمي المال المستقطع بالزكاة، أو بالصدقات، فإن المقصود أن يكون المُنفق لهذا المال، على الفهم الواعي للمفاهيم السابق ذكرها في الوعائين.

هنا نكون قد قطعنا شوطا كبيرا في باب مصادر «الزكاة»، أو «الصدقات»، نأتي بعد ذلك للحديث عن مصارف «الزكاة – الصدقات»، وهي تنقسم إلى قسمين:

١- حق معلوم: يعلمه الناس جميعا، لقوله تعالى:

« وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ ( حَقٌّ مَّعْلُومٌ ) . لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ»

والذي يحدد هذا الحق هو ولي الأمر المسؤول عن جمع أموال «الزكاة».

لذلك ترك الله تعالى «الحق المعلوم» دون تحديد نسبته، لاختلاف وتطور مستوى معيشة الفرد، واختلاف حد كفاية الفرد باختلاف الأحوال والعصور، وإحلال النقود الورقية محل الدينار الذهبي والدرهم الفضي، والتلاعب بالغطاء الذهبي للأموال، واختلاف قيم الأشياء وتطورها، واستحداث صنوف جديدة من الأموال لم تكن معروفة في عصر التنزيل.

لذلك فإن الذي يحدد «الحق المعلوم»، المفروض على كل رزق يحصل عليه المسلم، مؤسسة عالمية تضم خبراء من كافة التخصصات الاجتماعية والاقتصادية والمالية، تضع الأسس والمعايير التي تحكم سعر الزكاة وأوعيتها ومصارفها، لمختلف بلدان العالم، برؤية شاملة فاحصة للمتغيرات المعاصرة، وما استحدث من أموال لم تكن معروفة من قبل، على أن تتغير المعايير مع مقتضيات كل عصر.

وبما أن هذه المؤسسة غير موجودة، يصبح على المسلم أن يحدد هذا «الحق المعلوم» الواجب استقطاعه، حسب طبيعة وحجم الرزق الذي يحصل عليه، فكل إنسان أعلم بحاله، بشرط ألا يغيب عنه مفهوم «الزكاة» ومفهوم «الصدقة» السابق بيانهما، وأن يتدبر قوله تعالى:

«فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ، (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»

أما عن قوله تعالى:

«وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ، فَأَنَّ لِلَّهِ (خُمُسَهُ) وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ..»

فالسياق الذي وردت فيه هذه الآية، وسياقات آيات أخرى، تؤكد أن هذه النسبة خاصة بما يغنمه المسلمون في الحرب.

٢- حق تطوعي: يُلزم به المسلم نفسه حسب ما تيسر معه من فائض مالي بعد إخراج الحق المعلوم، يقول الله تعالى:

« وَفِي أَمْوَالِهِمْ (حَقٌّ) لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ»

وهذ الحق هو «العفو» الذي ذكره الله في قوله:

« وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ (الْعَفْوَ) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ»

هو «الخير» الذي ذكره الله في قوله:

« يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ، قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ (خَيْرٍ) فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ»

وبذلك نكون قد وقفنا على القواعد الرئيسية التي يقوم عليها باب «الزكاة» في الشريعة القرآنية»، وأهم قاعدة هي «وعاء الإنفاق» الذي يجب أن يوجد في بيت كل مسلم، والذي يُنفق منه على المصارف التي حددتها الآيات، سواء كان ذلك في المناسبات، كعيد الفطر، أو في غيرها، بالقدر
الذي يتناسب ما يحصل عليه من رزق، وبالشروط السابق ذكرها.

وأخيرًا:

فإن أحكام «الشريعة القرآنية»، لن تجد لها فاعلية حقيقية، ولا يسر في تطبيقها، ولا التزام الصغير بها قبل الكبير..، إلا في مجتمع «الإيمان والعمل الصالح»، لأن الله تعالى يقول:

« وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ ( بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ )، يَاًمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ، وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ، وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ، إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»

أما مجتمع «النفاق والعمل الطالح»، فهؤلاء يقول الله تعالى عنهم:

«وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ، إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى، وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ»

ويقول الله تعالى:

« الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ، يَاًمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ، ( وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ )، نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ، إنَّ المُنَافِقِينَ هُمُ الفَاسِقُونَ»

محمد السعيد مشتهري

أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى