على هامش منشور: «خلاصة القول في أحكام الصيام»
إن الذي يدرس القرآن ويستنبط أحكامه، بمعزل عن «المنهجية العلمية» التي أمر الله اتباعها، بدءًا بعلم الوحدانية، سيَضِل، ويُضِل الناس بغير علم، لأن الله تعالى يقول:
«شَهِدَ (اللَّهُ) أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَ(الْمَلَائِكَةُ)، وَ(أُولُو الْعِلْمِ)، قَائِمًا بِالْقِسْطِ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»
ويقول الله تعالى: «أَفَلَا (يَتَدَبَّرُونَ) الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ (أَقْفَالُهَا)»
والقلوب تُغلق عندما لا تعمل آليات التفكر والتعقل والتفقه والنظر.. إلى آخر آليات عمل القلب.
إن الذي لا يعلم، أن القرآن نزل يخاطب في المقام الأول، الذين آمنوا برسول الله في عصر التنزيل، ثم بعد ذلك الناس جميعا إلى يوم الدين، سيتوقف عند آيات كثيرة لا يدري جدوى وجودها في كتاب الله، كقوله تعالى:
«الْآنَ (خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ) وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا، فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ»
وكقوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ (لَا يَعْقِلُونَ) . وَلَوْ أَنَّهُمْ (صَبَرُوا) حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ، وَاللَّهُ (غَفُورٌ رَّحِيمٌ)»
إن الذي لا يعلم، أن هناك أحكاما نزلت لمواجهة ظروف وتحديات عصر التنزيل، وليست لكافة العصور، سيجد نفسه مضطرا لاتباع السلفية في قبول النسخ والترادف..، واستنباط أحكام ما أنزل الله بها من سلطان، وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعا.
لقد أمر الله المسلمين باجتناب الخمر، وبيّن لهم أسباب تحريمها، ووجوب كراهيتها، فقال تعالى:
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) (فَاجْتَنِبُوهُ) لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»
إن الرجس: «مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ»، لا يقبل القلب المؤمن فعله، فهل يمكن أن تكون أعمال الشيطان حلالا؟!
وإن الاجتناب: معناه ألا يتوقف المسلم عند عدم فعل المحرم، وإنما يجب عليه أن يكره هذا المحرم، ولذلك وردت كلمة الاجتناب مع كل محرم خبيث، فقال تعالى:
«وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ»، «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ»، «وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ»، «اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ»
لقد بيّن الله تعالى أن الخمر «رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ»، وأمر باجتنابه «فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»، فهل يمكن أن يتحقق الفلاح في الآخرة، دون اجتناب المحرمات، التي يسعى الشيطان بكل جهده أن يُوقع المؤمنين فيها؟!
«إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ»
ولا شك أن هناك علاقة بين قوله تعالى: «وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ»، وقوله تعالى مخاطبا الجيل الأول من المسلمين:
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ»
إن «السكارى»، جمع «سكران»، مشتق من «السَّكْر»، وهو الغلق، وهم الذين ذهبت تدريجيًا آليات عمل قلوبهم، «آليات التفكر، والتعقل..»، حتى أُغلقت تماما، فلا يعلمون ما يقولون، سواء كان ذلك بسبب شرب الخمر، أو لأسباب أخرى.
لقد عاش الجيل الأول من المسلمين، في مجتمع كان شرب الخمر فيه كشرب الماء، ثم انتقلوا إلى المجتمع الإسلامي، وكان الخمر محرما من أول يوم، وغير صحيح أن شرب الخمر كان حلالا في «غير أوقات الصلاة»، ولكن الله تعالى تركهم فترة يشربون فيها الخمر، ولا يقربون الصلاة وهم سكارى، وذلك لعلاج حدة الإدمان تدريجيا.
نفهم من ذلك، أن العمل بتحريم الخمر كان لابد أن يمر بمراحل، تتربى فيها النفس تربية إيمانية، حتى يصبح سلطان «الإيمان» هو الحاكم على سلطان «الهوى»، فيستطيع الإنسان العمل بالحكم الشرعي دون مشقة.
وعندما قال الله تعالى لهم: «فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ»، كان في ذلك إشارة إلى وضع أحكام تحريم الخمر موضع التنفيذ.
لقد واجه الجيل الأول من المسلمين تحديات لن تتكرر، إلا إذا عادت الجاهلية الأولى مرة أخرى، وقد ارتبطت هذه التحديات بسيطرة سلطان الشهوة على النفس، وفي مقدمته سلطان الخمر، والرفث إلى النساء!!
ولذلك كان مما شغل بال الجيل الأول من المسلمين في عصر التنزيل، كيف سيتخلصون من سلطان الخمر، لذلك سألوا رسول الله:
«يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ، وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا»
فانظر وتدبر: لم تأت الإجابة مباشرة: إن الخمر والميسر حرام، وإنما جاءت الإجابة بأسلوب يُرجّح كفة الإثم، وهم يعلمون أن الإثم محرم أصلا، قال تعالى:
«قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ (الْفَوَاحِشَ) مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَ(الإِثْمَ) وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ…»
لقد كان الغرض من مرحلية العمل ببعض أحكام الشريعة، علاج مشاكل تجذَّرت واستحكمت في قلوب الجيل الأول من المسلمين، الذين لا شك أنهم لن يسمحوا لذريتهم، والأجيال القادمة، أن يعودوا إلى عصر الجاهلية الأولى.
إن الذين يفتون أن الخمر حلال، بدعوى أن الله تعالى لم ينص على تحريمها، قوم لا يفقهون.
محمد السعيد مشتهري