نحو إسلام الرسول

(470) 12/6/2016 (خلاصة القول في أحكام الصيام، ولا نسخ ولا تردف في القرآن)

الشبهة: يقولون إن الله تعالى خيّر المسلم السليم المقيم، الذي لا هو مريض ولا هو مسافر، بين أن يصوم، أو يفطر، في شهر رمضان، بشرط أن يُفدي بإطعام مسكين عن كل يوم إذا أراد أن يفطر، وذلك استنادا إلى قوله تعالى في سورة البقرة «الآية ١٨٤»:

«..وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ».

وقبل الرد على هذه الشبهة، علينا أن نفرق بين فعل «يطيق»، وفعل «يستطيع».

إن اللافت للنظر، أن السياق القرآني لم يستخدم فعل «يطيق» للتعبير عن التخيير في أداء الحكم الشرعي، مطلقا، وإنما استخدم فعل «يستطيع»، فقال تعالى:

«وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ ٱلْمُحْصَنَتِ ٱلْمُؤْمِنَتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَنُكُم مِّن فَتَيَتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَتِ»

وقال تعالى: «فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً»

إن فعل «يطيق»، يتعلق بما يحمله الإنسان في داخله من طاقة، تساعده على القيام بالعمل المكلف به.

أما فعل «يستطيع»، فيتعلق بالوسائل المتاحة التي تساعد الإنسان على القيام بالعمل المكلف به، سواء كانت مادية أو غير مادية.

فقد يملك الإنسان «الطاقة» ليقود سيارته، ولكنه لا «يستطيع» التحرك بها لعدم وجود وقود.
ولذلك لم يُخير الله تعالى المسلم «السليم المقيم» أن يصوم أو لا يصوم، ولم يترك للإنسان تقدير الاستطاعة أو عدم الاستطاعة، وإنما أمر المسلمين جميعًا بالصيام، وبيّن أن على كل من يمنعه مرضه أو سفره من الصيام، فعليه استكمال عدة الصوم بعد زوال المرض أو السفر.

والآن تعالوا نضع أمامنا الآيات التي جاء حكم «الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ» في سياقها، ونتدبرها، لنقف على تهافت هذه الشبهة.

علينا أن نتدبر جيدًا الآيات التي تحدثت عن أحكام الصيام، وهي قوله تعالى في سورة البقرة «الآيات ١٨٣ – ١٨٧»:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» [١٨٣]

«أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ، فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ، وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ» [١٨٤]

«شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ، فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ، وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» [١٨٥]

«وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ» [١٨٦]

«أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» [١٨٧]

أولا: فرضية الصيام

جاءت بها الآية «١٨٣»: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ»، وكذلك الآية «١٨٥»: «فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ».

ثانيا: مدة الصيام

جاءت بها الآية «١٨٤»: «أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ»، ثم بيّنها في الآية «١٨٥»: «شَهْرُ رَمَضَانَ».

ثالثا: الصيام فريضة على كل مسلم

استثنى ما ورد في قوله تعالى «الآية ١٨٤»:

«فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ»

وقوله تعالى في الآية «١٨٥»:

«وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ»

نفهم من هذه الآيات أن صيام شهر رمضان فريضة على كل مسلم، «مقيم، سليم، قادر»، لا خيار له ولا تخيير في صيام شهر رمضان.

رابعا: والآن نأتي إلى السؤال المحير:

لماذا ورد حكم «الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ» في الآية «١٨٤»، بعد بيان حكم العدة،ولم يتكرر بعد بيان نفس الحكم في الآية «١٨٥»، وقال تعالى مباشرة:

«يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ، وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»؟!

الجواب: في الآية الأخيرة «١٨٧» من أحكام الصيام، وهي قوله تعالى:

«أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ…عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ، فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ…»

ومن تدبر سياق الآية نعلم، بما لا يدع مجالا للشك، أن تطبيق أحكام الصيام جاء على مراحل، حسب مقتضيات ظروف وتحديات عصر التنزيل واكتمال الدين.

إن خيانة النفس، الواردة في قوله تعالى: «عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ»، تعني أن توقع النفس في معصية الله، مما يبيّن أن من المسلمين، في عصر التنزيل، من كان يأتي النساء ليلة الصيام، وأن ذلك كان محرما في بداية الأمر، ثم نزل التشريع في مرحلته النهائية بقوله تعالى:

«أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ»

ولقد تاب الله تعالى عن الذين كانوا يختانون أنفسهم: «فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ»، ثم قال تعالى بعدها: «فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ».

إن ورود الآية «١٨٧» في سياق بيان أحكام الصيام، «١٨٣-١٨٧»، يلفت النظر إلى أن الآية «١٨٣»، التي ورد فيها حكم «الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ»، كانت هي أيضا داخل مرحلية العمل بأحكام الصيام، ثم نزلت الآية «١٨٥»، بالأحكام النهائية المبينة والمفصلة، وبرهان ذلك ما يلي:

١- لقد بيّن الله تعالى ما هي «الأيام المعدودات»، بقوله تعالى في الآية «١٨٥»: «شَهْرُ رَمَضَانَ».

٢- وأكد على فرضية الصوم: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ»، فقال تعالى في الآية «١٨٥»: «فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ».

٣- كما أكد على فرضية العدة «فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ»، فقال تعالى في الآية «١٨٥»: «وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ».

٤- ولم يرد حكم «الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ» في الآية «١٨٥»، مما يعني كما ذكرت سابقا أنه كان حكمًا استثنائيًا خاصا بمرحلة ما قبل نزول قوله تعالى في الآية «١٨٧»:

«أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ … فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ».

٥- لقد نزلت الآية «١٨٥» بالتشريع النهائي لأحكام الصيام، وأنه فريضة على المسلمين جميعا: المقيم والمسافر، السليم والمريض، وأن من يضطره المرض أو السفر إلى الإفطار، عليه أن يستكمل عدة الشهر بعد انتهائه، وبذلك يكون قد أدى صيام الشهر كاملا كباقي المسلمين، استنادا إلى قوله تعالى: «وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ».

٦- نفهم من قوله تعالى «وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ»، أنه إذا استحال إكمال العدة، لأي سبب من الأسباب، كالمريض الذي لا يرجى شفاؤه، أو العامل الذي تمنعه طبيعة عمله الشاق من الصيام..، فإن هذه الحالات لا شيء عليها، لا عدة ولا فدية.

٧- ولقد ترك الله تعالى الآيات الدالة على مرحلية العمل بأحكام الشريعة لبيان أن هذه المرحلية كانت من مقتضيات عصر التنزيل، وفرق كبير بين مرحلية العمل بأحكام الشريعة، حسب تحديات العصر، وبين نسخ الأحكام القرآنية، فلا نسخ، ولا ترادف، في القرآن مطلقا.

وسأضرب مثالا تفصيليا يبيّن مرحلية العمل بأحكام الشريعة في منشور مستقل.

«يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ، وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ، وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»

محمد السعيد مشتهري

أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى