لقد بعث الله تعالى نبيه الخاتم محمدًا في بيئة جاهلية اعتادت على أنماط من السلوك المنحرف عن صراط الله المستقيم، وكان يصعب اقتلاع جذورها وتغييرها وتخليهم عنها دفعة واحدة.
لقد كان من الحكمة أن يقوم التغيير على أساس الامتثال لأحكام الشريعة الإلهية بصورة تدريجية، يراعى فيها ظروف هذا الجيل الأول من المسلمين، الذين انتقلوا من بيئة الشرك إلى الوحدانية بمجرد قرار إيماني.
من أجل ذلك لم ينزل القرآن دفعة واحدة، وارتبط نزوله بحكمة التشريع الإلهي، فلم يُحرم الجمع بين المرأة وأختها في نكاح واحد، وترك المسلمين على ما هم عليه، ثم نزل التحريم، فكان يوجد في عصر التنزيل من جمع بين الأختين، وفي نفس الوقت من يحرم عليه الجمع بين الأختين، «إلى يوم الدين»، لقوله تعالى في سياق الحديث عن المحرمات من النساء:
«وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ»
والأمثلة على مسألة التدرج التشريعي كثيرة، وأهمها التدرج في تصفية الرق.
والذي يهمنا بيانه، في سياق الحديث عن أحكام الصيام، هو قوله تعالى:
«أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ، هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ، عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ، فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ…»
والسؤال: من هم الذين «علم الله أنهم كانوا يختانون أنفسهم، فتاب عليهم»؟!
هم الجيل الأول من المسلمين، الذين انتقلوا من المجتمع الجاهلي إلى المجتمع الإسلامي، وعاشوا في عصر التنزيل واكتمال الدين، في إطار منظومة التدرج التشريعي.
وخيانة النفس أن توقعها في المعصية، يُفهم من ذلك أنهم كانوا يخالفون أمر الله في حكم إتيان النساء في شهر الصيام، فتاب الله عليهم، ونزلت الآية تحدد أن إتيان النساء لا يحل إلا في فترة الليل: «أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ».
وهؤلاء هم أيضا الذين خاطبهم الله تعالى «في المقام الأول»، بقوله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ، فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ، فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ، وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ، إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ»
إن قوله تعالى: «أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ»، يبين لنا كيف كانت منظومة التدرج التشريعي تتعامل مع هذا الجيل الأول من المسلمين، فلم يقل لهم شهرا كاملا متواصلا، تطمينا لنفوسهم، ولبيان أنه لا مشقة عليهم في هذه الفريضة، وخيرهم بين الصوم والفدية، فمن شاء صام، ومن شاء أطعم، مع بيان أن الصوم لهم أفضل:
«وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ، فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ، وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ، إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ»
ثم نزل بعد ذلك التشريع النهائي، الذي حدد أيام الصوم، وألغى حكم التخيير لانتهاء الغرض من تشريعه، فقال تعالى:
«شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ، فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ، وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ، يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ، وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»
إن قوله تعالى: «فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ»، جعل الصوم فريضة على كل مسلم لا خيار له فيها، ولذلك لم يأت في سياق هذه الآية بحكم «الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ»، وإنما جاء مكانها بقوله تعالى: «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ».
إن قوله تعالى: «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ»، جاء مكان «الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ»، وبعد قوله تعالى: «وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ»، وذلك لبيان:
١- أن قوله تعالى: «فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» للمريض والمسافر اللذان يستطيعان صيام هذه الأيام بعد انتهاء شهر رمضان.
٢- أما المريض الذي لا يُرجى شفاؤه فهذا لا شيء عليه.
٣- والذي يؤدي عملا من طبيعته بذل الجهد الشاق، وصيامه يؤثر على أدائه لهذا العمل، فهذا في حكم المريض، يدخل في حكم: «فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ»
٤- والذي يؤدي عملا مستديما من طبيعته بذل الجهد الشاق، وصيامه يؤثر على أدائه لهذا العمل، فهذا في حكم المريض الذي لا يُرجى شفاؤه، فلا شيء عليه.
مع ملاحظة أن مسألة «الناسخ والمنسوخ»، من المسائل المفتراة على كتاب الله، ولا علاقة لها بالتدرج في التشريع الذي اقتضاه عصر التنزيل، والذي أشار إليه قوله تعالى:
«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينً»
والسؤال: كيف يجرؤ مسلم، أن يُفتي بأن من يطيق الصوم فعنده خياران: اﻷول: أن يصوم، والثاني: أن يفدي بإطعام مسكين كحد أدنى؟!
«أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا»
محمد السعيد مشتهري