ورد إلى بريدي الخاص أسئلة، حول بعض الآيات القرآنية، التي قد يُفهم منها أن من أهل الكتب السابقة، من ظلوا على ملتهم التي كانوا عليها في عصر الرسالة الخاتمة، ولم يدخلوا في الإسلام، ولم يتبعوا النبي الخاتم، ولقد وعدهم الله بالجنة، وسماهم الله بأهل الكتاب، ولم يسمهم بالمؤمنين، ومن ذلك قوله تعالى في سورة آل عمران «الآيات ١١٣-١١٥»:
* « لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ»
* « يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ»
* « وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ»
وكما سبق أن قلت في أكثر من مقال ومنشور، إنه يستحيل فهم القرآن دون منهجية علمية، تحمل أدوات لفهم الآيات القرآنية، وفي مقدمتها «اللسان العربي»، وما يتفرع عنه من علوم، منها «علم البيان»، وكذلك علم «السياق القرآني»، ومنظومة التواصل المعرفي.
والذين استقطعوا هذه الآيات من سياقها، لا دراية لهم لا باللسان العربي، ولا بعلم السياق القرآني، ولا بمنظومة التواصل المعرفي.
إن سياق هذه الآيات يبدأ بالآية «١١٠» من سورة آل عمران، حيث يقول الله تعالى:
« كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ»
« وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم»
« مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ»
تدبر قوله تعالى: « وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم»
والسؤال: لو آمنوا (بمن)، لكان خيرًا لهم؟!
الجواب: السياق القرآني، في كتاب الله، يدعو جميع الملل والنحل التي كانت موجودة في عصر الرسالة، إلى الإيمان بالنبي الخاتم وبرسالته.
والذين لم يؤمنوا بالنبي الخاتم: هم الفاسقون، وهم أكثر هذه الملل، التي قال الله تعالى عنها بعدها «الآية ١١١»:
« لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ»
وقال بعدها «الآية ١١٢»:
« ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ»
« ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ»
ولذلك كان من الطبيعي أن ينصف الله تعالى من آمن من هذه الملل، وينعتهم بما كانوا عليه، ليبيّن للناس أنهم ليسوا جميعا سواء «الآية ١١٣»:
« لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ»
« يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ»
« وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ»
ونعت الذين آمنوا منهم بـ «أهل الكتاب»، يُسمى في علم البيان بالمجاز المرسل، والذي من شواهده القرآنية ما يلي:
١- تسمية الشيء بما كان عليه في الزمن الماضي:
يقول الله تعالى: « وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ»، سماهم «يتامى»، حال البلوغ، لما كانوا عليه من اليتم في صغرهم.
ويقول الله تعالى: « إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا»، سماه مجرما في الآخرة، باعتبار ما كان عليه في الدنيا.
٢- النظر إلى الشيء مما سيكون عليه في الزمن المستقبل:
يقول الله تعالى: « وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا»، لقد سمى المولود «فَاجِرًا كَفَّارًا»، باعتبار ما سيصير إليه من الكفر والفجور.
ويقول الله تعالى: « إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا»، لقد سمى العصير الذي يُعصر في الحال «خَمْرًا» باعتبار ما سيؤول إليه في المستقبل.
ثم بعد ذلك يقول أصحاب القراءات القرآنية العصرية الشاذة:
لقد يسر الله القرآن للذكر، فلا يحتاج إلى منهجية علمية، ولا إلى أدوات لفهمه، ولا إلى علم باللسان العربي، ولا بالسياق القرآني، ولا بمنظومة التواصل المعرفي!!
إنني أحترم اللادينيين في حوارهم، الذين ينطلقون من منهجية علمية، تجعلهم يعلمون ما يقولون، ويعترفون صراحة بما يؤمنون به، وما لا يؤمنون به.
ولا أحترم الدينيين في حوارهم، الذين لا ينطلقون من منهجية علمية، تجعلهم يعلمون ما يقولون، ولا يعترفون صراحة بما يؤمنون به، وما لا يؤمنون به، ويتقولون على الله بغير علم.
«أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا»
محمد السعيد مشتهري