نحو إسلام الرسول

(458) 23/5/2016 (عندما تحرف القراءات العصرية مفهوم النبوة)

لقد جاءت الآية الدالة على صدق «النبي» الخاتم محمد، آية عقلية، تشاهدها القلوب بآليات التفكر والتعقل والتدبر والنظر..، ولا تنتهي فاعليتها بوفاة النبي، وتظل قائمة بين الناس إلى يوم الدين.

وعندما يحمل القرآن الآية الدالة على صدق «النبي» الخاتم، ويطلب الله تعالى من الناس جميعا، بجميع مللهم ونحلهم، التحقق من صدق هذه «الآية»، ويقول لهم:

« وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ »

ثم لا يستطيعون أن يأتوا بسورة من مثله، وإلى يومنا هذا، فهذا دليل على أن هذا الكتاب حقا «آية»، تقتضي الإيمان بها، وبالرسول الذي بلغها للناس.

إنني انطلق في هذا الموضوع من قاعدة الإيمان بأن هذا القرآن كلام الله، وآيته الدالة على صدق نبوة رسوله محمد، عليه السلام، وأنقل ما بينه القرآن في هذه المسألة، للرد على الشبهات التي يثيرها أصحاب القراءات القرآنية العصرية، دون أي إسقاط على الواقع المعاصر.

لقد استقطع أصحاب القراءات القرآنية العصرية، بعض الآيات من سياقاتها، وقاموا بعزلها عن هذه السياقات، ثم جعلوها البرهان على أن جميع الملل والنحل المختلفة ستدخل الجنة، وإن لم تتبع النبي الخاتم محمدًا، مادامت تؤمن بالله، واليوم الآخر، وتعمل صالحا، استنادًا إلى الآيات التالية:

١- قوله تعالى في سورة البقرة «الآية ٦٢»:

« إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ »

٢- قوله تعالى في سورة المائدة «الآية ٦٩»:

« إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ »

٣- قوله تعالى في سورة الحج «الآية ١٧»:

« إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ »

ولبيان حقيقة هذه الشبهة والرد عليها، علينا أن نتدبر السياق الذي وردت فيه هذه الآيات الثلاث.
أولا: قوله تعالى في سورة البقرة «الآية ٦٢»:

« إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ »

لقد جاءت الآية «٦٢» من سورة البقرة، في سياق الحديث عن بني إسرائيل، وكيف قابلوا نعم الله بالكفر، فاستحقوا الذلة والمسكنة والغضب، فقال تعالى «الآية ٦١»:

* « وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ … وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ ذَلِكَ، بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ »

ثم قال تعالى «الآية ٦٢»:

* « إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ »

ثم يستكمل السياق الحديث عن بني إسرائيل فيقول بعدها «الآية ٦٣»:

* « وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ…، ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ…، وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ…»

فكما نلاحظ أن «الآية ٦٢»: « إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ..» جاءت وسط سياق يخاطب ذرية بني إسرائيل، الموجودين في عصر الرسالة، المعاصرين لرسول الله محمد، عليه السلام، وهذا السياق يبدأ بالآية «٤٠»، وقول الله تعالى:

* «يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ»

إن قوله تعالى: «يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ»، لا يخاطب الموجودين في عصر موسى، عليه السلام، وإنما يخاطب ذريتهم المعاصرين لرسول الله محمد، يذكرهم بمواقف أسلافهم من الرسل، وكفرهم بنعم الله عليهم، لعلهم يراجعون أنفسهم، ويؤمنون بالنبي الخاتم محمد، ويتبعون رسالته.

إن « الَّذِينَ آمَنُوا »، و« الَّذِينَ هَادُوا »، و« النَّصَارَى »، و« الصَّابِئِينَ »، هم الذين اتبعوا رسلهم، كلٌ في عصره، ثم تمسكوا بعد وفاة الرسل بأصول الإيمان، ولم يشركوا بالله شيئا، وعملوا الصالحات، حتى بعث الله لهم رسولا فاتبعوه، لذلك وعدهم الله بقوله:

« فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ».

ولقد بعث الله نبيه الخاتم محمدًا، وأرسله للناس جميعًا، يقول الله تعالى في سورة المائدة «الآية ١٥»:

* « يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ »
فمن هم الذين يخطابهم الله هذا السياق: « قَدْ (جَاءَكُم) مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ »؟! لتعلم أن أصحاب الكتب الإلهية مأمورون باتباع الكتاب، الذي جاء به النبي الخاتم محمد، عليه السلام.

وتدبر قوله تعالى في سورة المائدة «الآية ١٩»:

* « يَا أَهْلَ الْكِتَابِ، قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ، أَن تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ، فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ، وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ »

فمن هم الذين يخطابهم الله هذا السياق: « أَن تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ، فَقَدْ (جَاءَكُم) بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ »؟! لتعلم أن أصحاب الكتب الإلهية السابقة مأمورون باتباع النبي الخاتم، رسول الله محمد، عليه السلام.

ثانيا: قوله تعالى في سورة المائدة «الآية ٦٩»:

« إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ »

جاءت الآية «٦٩» من سورة المائدة في سياق يبدأ بالآية «٦٨»:

* « قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ »

ثم قال تعالى «الآية ٦٩»:

* « إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ »

ثم قال تعالى بعدها «الآية ٧٠»:

* « لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ »

ولقد جاءت أيضا «الآية ٦٩» من سورة المائدة، في سياق بيان تذكير أهل الكتب السابقة بما فعله أسلافهم مع رسلهم، وقتلهم الأنبياء بغير حق..، ولذلك نقول فيها ما قلناه في «أولا» عن الآية «٦٢» من سورة البقرة.

ثالثا: قوله تعالى في سورة الحج «الآية ١٧»:

« إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ »

ولقد جاءت الآية «١٧» من سورة الحج في سياق يبدأ بالآية «١٥»:

* « مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ »

ثم قال تعالى «الآية ١٦»:

* « وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ »

ثم جاءت الآية «١٧»:

* « إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ »

ثم قال تعالى بعدها «الآية ١٨»:

* « أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ »

وهنا نلاحظ أن السياق الذي وردت فيه الآية «١٧» من سورة الحج، جاء مختلفًا عن سياق آيتي البقرة والمائدة، فهو هنا يتحدث عن تأييد الله ونصره للمؤمنين، أتباع الدين الحق، وبيان أن الفصل بين أهل الملل المختلفة سيكون يوم القيامة، وأضاف إلى الملل المجوس والمشركين.

ولم يذكر في هذا السياق جملة: « مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً »، التي ذُكرت في آيتي البقرة والمائدة، ذلك أن المجوس والمشركين لا يؤمنون «بالله واليوم الآخر»، ولا يوحدون الله تعالى، فالمجوس يعبدون إلهين: إلها للخير، وإلها للشر، والمشركون يشركون بالله ما لم ينزل به سلطانا!

كما لم يذكر جملة: « فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ »، ذلك أن آية سورة الحج لا تتحدث عن الشروط الواجب توافرها للنجاة في الآخرة، وإنما عن الفصل بين الملل المختلفة يوم القيامة، لذلك فهي خارج موضوع آيتي البقرة والمائدة.

رابعا: وحسب ما يقتضيه علم «السياق القرآني»، كان علينا أن نتوقف عند قوله تعالى: « وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ »، الذي ورد في آية سورة البقرة، وقوله تعالى: « فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ » الذي ورد في آية سورة المائدة، وعلاقتهما بسياق سورة البقرة، الذي يخاطب الله تعالى فيه أهل الكتب السابقة، والذي يبدأ بالآية «٤٠»، وقوله تعالى:

« يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ، وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ»

تدبر قوله تعالى: « وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ »

إذن فـ « الَّذِينَ هَادُوا »، مأمورون بالإيمان بالكتاب الخاتم، القرآن الكريم، واتباع النبي الخاتم، رسول الله محمد، عليه السلام.

ثم بعد بيان جانب من قصة بني إسرائيل مع رسولهم موسى، عليه السلام، وضع الله القانون العام للحساب في الآخرة، فقال تعالى «الآية ٦٢»:

« إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ »

ثم استكمل السياق قصة بني إسرائيل، وأنهم افتروا على الله الكذب، وقولهم «الآية ٨٠»:

« وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَاتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ »

ثم ذكر الله القانون العام للحساب في الآخرة، فقال تعالى «الآية ٨١ ـ-٨٢»:

« بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ »

وعلينا أن نلاحظ ونتذكر، أن « الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ »، هم الذين آمنوا بالرسل كلٌ في عصره، ثم بالنبي الخاتم محمد، عليه السلام، كما بيّنت ذلك الآية «٤٠».

ثم يستكمل السياق قصة بني إسرائيل وموقفهم من رسلهم، فيقول الله تعالى «الآية «٨٧-٨٨»:

* « وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ »

* « وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ، بَلْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ »

تدبر قوله تعالى: « أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ »، وهو البرهان على أن أتباع الرسل السابقين، مأمورون أن يؤمنوا بكل رسول يرسله الله إليهم، وأن عليهم اتباع رسالته.

ولقد كانت آخر الرسالات، هي الرسالة التي أرسل الله بها نبيه الخاتم محمدًا، عليه السلام، القرآن الكريم، وهذا ما بيّنه الله بعد ذلك بقوله «الآيات ٨٩-٩١»:

* « وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ »

* « بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ »

* « وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا، وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ، قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ »

ويستكمل السياق قصة بني إسرائيل، ويؤكد على وجوب الإيمان بالنبي الخاتم واتباع رسالته، فيقول الله تعالى «الآية «٩٩-١٠١»:

* « وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ »

* « أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ »

* « وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ »

ثم ينتقل السياق للحديث عن ملل الكفر التي كانت موجودة في عصر الرسالة، فيقول الله تعالى «الآية ١٠٥»:

« مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ »

ثم يبين السياق كيف كانت هذه الملل تفتري على الله الكذب، فيقول تعالى «الآية ١١١»:

« وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ»

ثم يضع الله الميزان، والقانون العام، الذي سيحاسب على أساسه الناس جميعا يوم القيامة، فقال تعالى بعدها «الآية ١١٢»:

« بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ »

وعند هذه الآية نكون قد وصلنا إلى ما أريد بيانه، وهو أن هذا الوعد: « وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ » يقوم على قاعدة إسلام الوجه لله تعالى: « بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ »

فهل الملل التي وعدها الله بهذا الوعد، في سياق الآية «٦٢» من سورة البقرة، والآية «٦٩» من سورة المائدة: ظلت متمسكة بإسلام الوجه لله تعالى بعد وفاة رسلهم؟!

فتعالوا نتعرف على معنى «إسلام الوجه لله» في السياق القرآني؟!

يقول الله تعالى في سورة آل عمران «الآيات ١٩ ـ٢٠»:

* « إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ، وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ، وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ »

* « فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ، وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ، فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا، وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ »

تدبر قوله تعالى: « فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ »

ثم بيّن بعد ذلك ما يجب أن تفعله الملل التي كانت موجودة في عصر الرسالة بقوله: « فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا ».

إذن فـ «إسلام الوجه لله»، بعد وفاة النبي الخاتم، وإلى يوم الدين، يقوم على الإيمان بالنبي الخاتم محمد، واتباع الكتاب الذي أنزله الله عليه: «فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا»، وهذا ما بينته بعد ذلك «الآيات٨٤ ـ ٨٥» من سورة آل عمران:

« قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ »

تدبر قول الله تعالى: « وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ »، ثم قوله بعدها:

« وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ »

ولقد وردت «الآية ٨٤»، السابقة، في سياق مشابه في سورة البقرة «الآية ١٣٦»، وقال الله تعالى بعدها:

« فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ »

وبمقابلة الآيتين نعلم، وبالدلالة القطعية، أن الله تعالى أمر جميع الملل والنحل التي كانت موجودة في عصر الرسالة، الإيمان برسول الله محمد، واتباع رسالته، وهذا ما جاءت «الآية ١٧٠» من سورة النساء تؤكده، فيقول الله تعالى:

« يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً »

والسؤال: إذا كان جموع الناس، بجميع مللهم ونحلهم، الذين خاطبهم الله بهذه الآية في عصر الرسالة، مأمورين بالإيمان برسول الله محمد:

« فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ »

وباتباع رسالته:

« قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ »

فكيف يدعي مسلم، يؤمن بالوحدانية، وبأن هذا القرآن كلام الله تعالى، أن دخول الجنة لا يُشترط فيه الإيمان بالنبي الخاتم، واتباع رسالته؟!

محمد السعيد مشتهري

ملاحظة هامة:

أعلم أن هذا المقال سيفتح بابا من الجدل، أعرفه منذ ما يزيد عن ثلاثة عقود، ولذلك لن ألتفت إلى التعليقات المرسلة التي لا حجة فيها ولا برهان، وأرحب بالتعليقات التي تناقش الأدلة والبراهين الواردة في المقال، مناقشة علمية تستند إلى الآيات القرآنية

أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى