نحو إسلام الرسول

(457) 19/5/2016 (عندما تتخلف خير أمة أخرجت للناس)

إننا نعيش أمام شاشة عرض كبيرة، تشمل كل ذرة من ذرات هذا الكون، تشهد أن لا إله إلا الله، وأن هذا القرآن الذي بين أيدينا اليوم، هو كتاب الله، وآيته الدالة على صدق نبوة رسوله محمد، القائمة بين الناس إلى يوم الدين.

إن أفضل كتاب يحدثنا عن الله وعن دلائل وحدانيته، بأسلوب علمي سهل، لا تكلف فيه ولا تعقيد، هو هذا القرآن، الذي يتفاعل سريعا مع القلوب السليمة، التي تحمل آليات التفكر والتعقل والتفقه والنظر، فتقف على التناغم القائم بين آيات الذكر الحكيم، ومقابلها الكوني في الآفاق والأنفس، بطرق الاستدلال المنطقية.

لقد ضرب الله تعالى المثل بإبراهيم، عليه السلام، في استخدام منهج الاستدلال العقلي للتعرف على خالقه، من خلال دلائل الوحدانية المنتشرة في الكون من حوله، بعد أن رفض عبادة الأصنام كما يفعل قومه:

« وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ »

لقد خرج إبراهيم يبحث عن الإله الحق خالق هذا الكون، وسط الآلهة المزيفة التي كانت تُعبد من دون الله:

« فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ »
وأخيرا اتخذ قراره:

« إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ »

لقد أقام إبراهيم، عليه السلام، قناعته بالوحدانية على الحجة والبرهان، فقال:

« وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ »

ويقول الله تعالى في سياق آخر عند الحديث عن الوحدانية:

« أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ »

وفي سياق آخر عند الحديث عن المحرمات، يقول تعالى:

« قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ »

إذن فلا حديث عن الإسلام، ولا حوار علمي، بدون حجة وعلم وبرهان:

* «أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً»

* «قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ»

* «وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ»

أولا:إن الطريق الموصل إلى «الوحدانية»، هو «العلم»، ولا طريق غيره، ففي سياق بيان تفاعل الآيات القرآنية مع مقابلها الكوني في الآفاق والأنفس، ذكرت الآيات التالية من سورة فاطر، أن «العلم» هو الطريق إلى «خشية الله»، فتدبر هذه الآيات، التي تعبر بذاتها عن المراد بيانه.

« وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ »

« وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ»

«وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»

« يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى، ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ، وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ »

« وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ، وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ، وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ، وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ »

« أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا، وَمِنْ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ »

« وَمِنْ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ، (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ »

إن ما سبق بيانه من آيات الآفاق والأنفس، تكتب فيه المجلدات، وهو يشمل التخصصات العلمية المختلفة، ولكن المراد التوقف عنده، هو قوله تعالى في الآية الأخيرة: « إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ »

فأين هم العلماء المسلمون، أصحاب التخصصات العلمية المختلفة، الذين تولّدت عندهم «خشية الله» نتيجة تفعيل آليات عمل قلوبهم، آليات التفكر والتعقل والتدبر والنظر، في سبر أغوار آيات الآفاق والأنفس، للتعرّف على سنن الله الكونية، وكيف تعمل في هذا الوجود، فأخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، ولم يفسدوا في الأرض، ولم يلوثوا البيئة؟!

انظر وتدبر ماذا قال الله تعالى بعد قوله: « إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ »:

« وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ، مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ »

إن البرهان على أن هذا الكتاب حق، هو المقابل الكوني لمنظومة آياته السابق ذكرها، والتي يكشف عن كنوزها وعطاءاتها العلماء، الذين يخشون ربهم، فأين هم؟!

يقول الله تعالى بعدها:

« ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا، فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ، ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ »

لقد تخلى المسلمون الذين ورثوا الكتاب، عن شرف اصطفائهم ليكونوا رواد التقدم الحضاري، الذين أحاطوا علما بمنظومة الآيات الكونية، وسبروا أغوارها، ظاهرها وباطنها، وها هم يعيشون في ذيل الحضارة، عالة على الأمم المتقدمة، والسبب:

أنهم يوم أن تخاصموا وتقاتلوا وتفرقوا في الدين، انشغلوا بعلوم شرعية صنعوها بأيديهم، وجعلتها كل فرقة سندها في إثبات أنها الفرقة الناجية، فاتسعت دائرة التقول على الله بغير علم اتساعا كبيرا، فغاب نور «العلم» عن قلوبهم، وهو أساس التقدم الحضاري، فخرجوا من النور إلى الظلمات.

لقد افترى أتباع الفرق والمذاهب المختلفة على الله مصادر تشريعية ما أنزل بها من سلطان، والآية السابقة تنطق بهذه الحقيقة ليل نهار، وتقول إن الله لم ينزل على رسوله نصًا تشريعيا يرثه المسلمون بعد وفاة النبي غير كتاب الله: «

« ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا »

فمن أين جاء أئمة السلف بالمصدر الثاني للتشريع؟!

ثانيا: كلما بعد الزمان عن عصر الرسالات الإلهية، ازداد التحريف والتبديل لها، واختلط ما هو بشري بما هو إلهي، ولولا تعهد الله بحفظ رسالته الخاتمة، لحدث لها مثل ما حدث للرسالات السابقة، من تحريف وتبديل!

لقد قست قلوب المسلمين كما قست قلوب السابقين، فتفرقوا واختلفوا وتخاصموا وتقاتلوا، ولكن المصيبة أن يحدث هذا بينهم، وهم يحملون القرآن الذي تعهد الله بحفظه، وقد أمرهم بالاعتصام بحبل الله، وحذرهم من التفرق، فقال تعالى:

« وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ، فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا، وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا، كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ »

لقد حذر الله المؤمنين من البغي والاختلاف في الدين، فهل اهتدى أتباع الفرق والمذاهب المختلفة إلى نعمة تأليف القلوب، فأصبحوا بها إخوانا، بعد أن خاطبهم الله بقوله: « كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ (لَكُمْ) آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ »؟!

إنه عندما يقسو القلب، يخرج من دائرة الدين الذي ارتضاه الله للناس، إلى دائرة الدين الذي ارتضاه له أئمة وعلماء ومشايخ الفرقة التي ينتمي إليها، وهي دائرة « التقليد الأعمى »، والاتباع بغير علم، فكيف يقف المرء على الحق بدون «علم» والله تعالى يقول:

« وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ، وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ »

إن «الإسلام» دين العلم، والذين «أوتوا العلم» هم الذين يهتدون إلى الحق المنزل، فلماذا لم يجتمع أتباع الفرق والمذاهب المختلفة حول هذا الحق المنزل، ولم ينبذوا الفُرقة والمذهبية والتفرق في الدين، بعد أن جاءهم الحق من ربهم؟!

الجواب: لأنهم يعيشون داخل منظومة «الإسلام الوراثي»، والقرآن جاء لإعلاء قيمة «العلم»، وبيان أنه الطريق الوحيد الموصل إلى دلائل الوحدانية، وصدق النبوة، وفاعلية الرسالة الإلهية، في مواجة الإسلام الوراثي، وإعادة النظر في ميراث «الآبائية»، فتدبر:

« وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا، أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ (لَا يَعْقِلُونَ) شَيْئًا وَ(لَا يَهْتَدُونَ) »؟!

ثالثا: لقد خلق الله تعالى الإنسان بآليات التفكر والتعقل والتفقه والنظر، آليات عمل القلب، ليكون مسؤولًا أمام الله عن تديّنه هو، وليس عن تديّن غيره واتباعه بغير علم، قال تعالى:

« وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً »

وعندما تكون المسؤولية الدينية فردية، تصبح أنت مسؤولا عن تدينك، وبالتالي مسؤولا عن تحصيل «العلم» الذي على أساسه ستتحمل هذه المسؤولية، وفي مقدمة ذلك العلم بالوحدانية ومقتضياتها، فتدبر:

« شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ (وَأُوْلُوا الْعِلْمِ) قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ »

إن «الجاهل» يضل الناس بغير علم، لأنه يعلم علما يخالف الحقيقة، وغروره بعلمه الضال يجعله يعتقد أنه على الحق، فتراه يُقحم نفسه في مسائل علمية لا يملك أداة واحدة من أدوات فهمها، والله تعالى يقول: « قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ »

إن الجاهل لا يحب أن يسمع، والله تعالى يقول: « إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ »

وإذا سمع لا يعقل، والله تعالى يقول: « إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ »

وإذا تعقل لا يتفكّر، والله تعالى يقول: « إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ »

وإذا تفكر لا يتدّبر، والله تعالى يقول: « أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا »؟!

لقد جاء الأمر بتدبر القرآن للناس كافة، وليس لفئة معينة، لذلك كانت مهمة علماء المسلمين العمل على تعليم الناس كيف يتدبرون القرآن، وذلك بنقل خبرة وآليات وأدوات التدبر إليهم، وليس بنقل تدين أئمة السلف، واجتهاداتهم في فهم القرآن!

إن القرآن «آية» تتحرك فاعلية نصوصها على مر العصور، لذلك فهي تحتاج إلى خبرات علماء العصر، من كافة التخصصات العلمية المختلفة، وليس خبرات علماء السلف، الذين أعطوا كل ما يملكون من علم، وفق إمكانيات عصرهم!

إن علماء العصر مصابيح هداية وإرشاد، ونقل خبرات علمية وتقنية، إنهم والناس جميعا طلاب علم أمام كلام الله، فليس في الإسلام وظيفة يتقاضى عليها المسلم أجرًا نظير تخصصه في علم من العلوم الدينية، أو الشرعية، وإنما العالم المسلم يتقاضى أجره من وظيفته المهنية التي تخصص فيها، وهو في نفس الوقت دارس للقرآن ومتدبر لآياته.

رابعا: إن المسلم الذي تعلم ودرس القرآن، بالإضافة إلى تخصصه المهني، وقام بتفعيله في حياته، سلوكا عمليا، هو الذي يعلم معنى « كُونُوا رَبَّانِيِّينَ»، في قوله تعالى:

« مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ »

إن « الربانيّين » هم الذين عَلّموا القرآن ودرسوه، وتحملوا مسؤولية الشهادة على الناس، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وهي مسؤولية علمية، تجعلهم يشعرون بمزيد من الخشية من الله: « إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ».

إن القرآن مدرسة تربوية علمية، يتخرج منها « الربانيّون »، لتكون مهمتهم الرئيسية هي إخراج الناس من الظلمات إلى النور، قال تعالى مخاطبا رسوله محمدا، عليه السلام:

« الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ ( لِتُخْرِجَ النَّاسَ ) مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ »

فكيف يُخرج المسلمون الناس من الظلمات إلى النور، وهم يعيشون أصلا في الظلمات، داخل دائرة مغلقة، يخاطبون فيها أنفسهم بخطاب سلفي، عبر منابر الدعوة المختلفة، يأخذون منه شريعتهم التي ارتضاها لهم أئمة الفرقة التي ينتمون إليها، بمعزل عن «الربانية» التي جاء بها النبي الخاتم، عليه السلام، وأمر باتباعها: « وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ »؟!

إن البرهان الوحيد، الذي يملكه المسلمون على صدق نبوة رسولهم محمد، هو «الآية القرآنية»، التي يقتضي الإيمان بها أن يكون المسلم «ربّانيا»، لا يتقول على الله ما لا يعلم، ولا يتخذ مصدرا تشريعيا ما أنزل الله به من سلطان، ولا يعمل وفق هواه، لأن الله تعالى يقول:

« أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ، وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ، وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ، وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً، فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ، أَفَلَا تَذَكَّرُونَ »

ويسبق «الربانية» الإيمان بـ «النبوة»، ويسبق الإيمان بـ «النبوة» الإيمان بـ «الآية» الدالة على صدق «النبوة»، ولقد كانت الآيات حسية حجة فقط على من شاهدها، ثم تنتهي فاعليتها بوفاة النبي.

وانتهى عصر «الآيات الحسية» ببعثة النبي الخاتم محمد، عليه السلام، وجاء عصر «الآية العقلية»، التي تراها القلوب بآليات التفكر والتعقل والنظر..، وعن طريق هذه الآليات يتعلم الناس الكتاب ويدرسونه « بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ ».

لقد جاء عصر « الآية القرآنية »، التي هي الباب الوحيد للدخول في الإسلام، على مر العصور وإلى يوم الدين، عصر العلم والبحث والدراسة، عصر « الربانية »، التي يشترط للالتحاق بمدرستها أن يملك الإنسان قلبا حيا يعمل بآليات التفكر والتعقل والتدبر والتفقه والنظر، ولسانًا عربيًا يفهم به معاني القرآن، ومنهجية علمية يستنبط على أساسها أحكامه.

خامسا: لقد نزل القرآن على قلب النبي محمد، عليه السلام، بلسان عربي مبين:

« وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ »

إن تعلم «اللسان العربي» هو الباب الوحيد إلى فهم القرآن وتدبر آياته، ولقد اصطفى الله تعالى نبيه الخاتم محمدًا من بيئة عربية، لسانها عربي، لأنه اللسان الوحيد بين ألسن الشعوب والقبائل المختلفة، الذي يحمل المواصفات التي تجعل رسالة الله الخاتمة «آية قرآنية»، يعجز الإنس والجن أن يأتوا بمثلها.

لقد فهم أهل الجزيرة العربية القرآن، وتفاعلوا مع آياته، حسب إمكانياتهم المعرفية، ولكن هل فهمهم لآياته وكلماتها العربية، جعلهم يستطيعون أن يأتوا بمثلها، على أساس أن الله تعالى يقول: « وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رّسُولٍ إِلاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ »؟!

إن أهل الجزيرة العربية لم يستطعوا أن يأتوا بمثل سور القرآن، وقد نزلت بلسانهم العربي، لأن القضية ليست في الإتيان بكلمات وحروف عربية مماثلة، وإنما في تركيب هذه الكلمات، وهذه الحروف، على نحو محكم، يعجز أهل اللسان العربي أن يأتوا بمثله.

ولذلك عندما يخبرنا الله تعالى أن الرسول أُرسل إلى قومه بلسانهم العربي ليبين لهم: « وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رّسُولٍ إِلاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ »، فإن المقصود اللسان العربي الذي كان يتحدث به الرسول مع قومه، ويتحدثون به معه، وذلك « لِيُبَيّنَ لَهُمْ » ما أنزله الله عليه، وليس هو «اللسان العربي المبين» الذي نزل به القرآن، إلا عندما ينطق الرسول بالقرآن أثناء حديثه مع قومه:

« وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى »

إن القرآن كلام الله الذي نزل « بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ »، لذلك: « لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ »، وكلمة « مبين » تعني أنه مبين بذاته لايحتاج إلى من يُبيّنه، فكيف يدّعون أن مرويات «السنة المذهبية» جاءت لتبين القرآن، وتستكمل أحكامه؟!

أما كلام النبي، عليه السلام، مع قومه، وكلام قومه معه، فكلام «عربي»، قاموا بتركيب كلماته وحروفه، حسب قواعد اللسان العربي، ولذلك لا يصح وصفه بأنه «مبين»، لأنه كلام بشر يمكن أن يأتيه الباطل: « قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ، يُوحَى إِلَيَّ »

لقد هجر المسلمون، أتباع الفرق والمذاهب الإسلامية المختلفة، « اللسان العربي »، وعلموا أبناءهم « اللسان الأعجمي »، وأوقفوا فاعلية آليات عمل قلوبهم، إذن فكيف سيفهمون القرآن الذي نزل « بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ »؟!

سادسا: لقد أرسل الله رسوله محمدا رحمة للعالمين: « وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ »، وتعهد بحفظ رسالته إلى يوم الدين، الأمر الذي يقتضي أن يصبح المسلمون على المستوى العلمي والتقني، الذي يمكنهم من مخاطبة «العالمين» بلغة العصر، ومن موقع القوة العلمية والتقدم الحضاري، الذي يجعل الناس يقفون على حقيقة الإسلام، وهل هو حقا رحمة للعالمين؟!

إننا في أشد الحاجة إلى الارتفاع إلى مستوى الفهم الواعي لمقتضيات إيماننا بأن كتاب الله، يحمل في ذاته «آية قرآنية»، لا تفتح كنوزها إلا للعلماء الذين يخشون ربهم، هؤلاء الذين يحملون أدوات وآليات الكشف عنها، وفي مقدمتها «اللسان العربي»، وآليات التفكر والتعقل والتدبر..، وليس هؤلاء الذين يحملون الإجازات العلمية المذهبية، من مؤسسات الفرق والمذاهب الإسلامية!

إن « العلم » هو الطاقة الدافعة والمحركة لفاعلية نصوص « الآية القرآنية »، التي لم ينجح المسلمون إلا في تفعيل ما يتعلق منها بالشعائر التعبدية، ثم عندما أرادوا تجديد الخطاب الديني، تحركوا من قاعدة التراث الديني للفرقة التي ينتمون إليها، وجعلوا هدفهم المقدس، الذي يدافعون عنه حتى الموت، هو تنقية أمهات كتب الفرقة التي ينتمون إليها، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا!

لقد سقطت « النهضة الإسلامية » عندما سقطت «خشية الله» من قلوب علماء المسلمين، بعد أن أُصيبت بفيروس المذهبية والتغييب العقلي، وبعد أن أصبح الشغل الشاغل لهم هو معالجة «العَرَض» وليس «المَرَض»، فظنوا أن تجديد الخطاب الديني، وتنقية تراث الفرقة التي ينتمون إليها هو الحل، و«المريض» قد أوشك على الموت!

لقد أضاع أئمة وعلماء ودعاة المسلمين قرونا من الزمن في علاج أعراض المرض بالخطب المنبرية المعلبة، وتركوا مرض « التقليد الأعمى »، و« الاتباع بغير علم »، و« التديّن الوراثي »، و« التفرق في الدين » يسري في دماء المسلمين، فماذا كانت النتيجة؟!

لقد غاب نور « الخشية » والخوف من الله عن قلوبهم، ليعودوا مرة أخرى أعداءً، ولكن من الذي سيؤلف بين قلوبهم هذه المرة، وينقذهم بعد أن أصبحوا: «عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ»؟!

محمد السعيد مشتهري

أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى