نحو إسلام الرسول

(451) 8/5/2016 (القواصم التي قصمت ظهر المذاهب)

لقد كان على علماء «مرصد الأزهر»، أن يبيّنوا للناس أولاً، ماذا يقصدون بقولهم «معصية الرسول»، و«مخالفة أمره»، و«إنكار سُنته»، هذه الاتهامات التي ذكروها في سياق ردهم على المقال الذي نشرته لي جريدة «المقال»، بتاريخ «٢٢-٥-٢٠١٥م»، بعنوان «السُّنة حقيقة قرآنية في عصر النبوة.. وبعدها اجتهادات أئمة»، ثم ما الفرق بين معصية الرسول ومخالفة أمره وإنكار سُنته، ومعصية المحدثين ومخالفة مذاهبهم العقدية والتشريعية وإنكار مروياتهم المذهبية؟!

لقد خالف علماء «مرصد الأزهر» أصول النقد العلمي عندما اعتبروا أنفسهم يمثلون الأمة الإسلامية، يعيشون مع رسول الله في عصر الرسالة، يعلمون من الذي أطاع الرسول ومن الذي عصاه وخالف أمره، ثم نراهم يسقطون الآيات القرآنية المتعلقة بمعصية الرسول على كل من خالف مذهب أهل السنة والجماعة، الذي لم يكن قد وُلد بعد!

لقد خالف علماء «مرصد الأزهر» أصول النقد العلمي، عندما جعلوا «السند الروائي» المذهبي، الذي إن صح عند مذهب لم يصح عند آخر، حاكمًا على مقام النبوة، فتوافر شروط العدالة والضبط في الراوي هو الذي يقرر ما إذا كان النبي قال هذا الحديث أم لم يقُله، وهذه مسألة احتارت فيها عقول جهابذة علم الجرح والتعديل، ومع ذلك نراهم يصدرون أحكام التكفير على من يطعن في هذا السند الروائي!

أولا: يقول علماء «مرصد الأزهر»: «إن الذين يطعنون في السنة إنما يطعنون في أخص خصوصيات هذه الأمة وهو الإسناد الذي ميز الله به أمة الإسلام وألهمها إياه – ولم يكن في أمة من قبل – لحفظ كتابه وسنة نبيه»!

تدبر قولهم: «الإسناد الذي ميز الله به أمة الإسلام وألهمها إياه»!

الحقيقة أنني توقفت كثيرا عند هذه الجملة، باعتبار أني أحمل قدرًا من العلم بقواعد ما يُسمى بعلم الحديث، وشعرت أن الذين يكتبون مثل هذا الكلام، من علماء الفرق المختلفة، يجب أن يقدموا للمحاكمة بتهمة «التدليس والتلبيس» على عامة المسلمين، وذلك لأنهم:

عندما يتحدثون عن «الإسناد» باسم «الأمة الإسلامية»، ويقولون إن الله ميزها بهذا «الإسناد» وألهمها إياه، هم في الحقيقة لا يقصدون «الأمة الإسلامية»، التي لا وجود لها أصلا، وإنما يقصدون مذهبهم العقدي الذي ينتمون إليه.

ولا يصح قولهم: إن كلمة الأمة اسم مشترك يطلق على الجماعة من الناس الذين يجمعهم جامع، وهم قد جمعهم مذهب أهل السنة والجماعة، لأن مصطلح «الأمة الإسلامية» عندما يُطلق يقصد به أمة النبي الخاتم محمد، عليه السلام، التي تفرقت في الدين، ولم يعد لها وجود أصلا.

لذلك فعندما يتحدثون عن «الإسناد» باسم «الأمة الإسلامية»، فإنهم يجعلون «الحديث» الذي صح في مذهبهم، يأخذ في ذهن السامع حجية إجماع الأمة التي لا وجود لها أصلا!!

فإذا قام أحد شيوخ السلفية وروى حديثا يحرض أتباعه على الخروج في مظاهرات دفاعًا عن مذهبهم العقدي، فإن المتظاهرين سيخرجون يدمرون ويحرقون الممتلكات العامة والخاصة، ويسفكون الدماء بغير حق، وهم يعتقدون أنهم يدافعون عن الإسلام وعن الأمة الإسلامية وعن السنة النبوية وليس عن فرقة أو مذهب من مذاهبها!!

لقد شهدت كثير من البلاد، في الصومال وأفغانستان وباكستان.. هذا التحريض الدموي دفاعا عن العقيدة السلفية، ويرفعون راية الدفاع عن «الأمة الإسلامية»، ويقولون لأتباعهم: إن أعداء الإسلام يطعنون في سُنة نبيكم، ويريدون القضاء على أمتكم الإسلامية، وأنتم صامتون نائمون، فهيا إلى الجهاد!

ثم يأتي علماء «مرصد الأزهر»، وهم ينتمون إلى «المذهب الأشعري»، أحد مذاهب فرقة أهل السنة والجماعة، ويتحدثون باسم «الأمة الإسلامية»، ردا على الذين يطعنون في السنة النبوية، فيقولون:

«إنهم يريدون للأمة الإسلامية أن تكون كالذين من قبلهم، حيث طال عليهم الأمد؛ فقست قلوبهم ونبذوا دينهم وراء ظهورهم، واشتروا به ثمنا قليلا، فبئس ما يشترون»!!

إن الاتهامات التي ذكرها علماء «مرصد الأزهر» في الفقرة السابقة، خاطب الله بها الذين أوتوا الكتاب، فقال تعالى:
« وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ، فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ».

ولم ينص الله تعالى على عقوبة في الدنيا لهؤلاء الذين نبذوا الكتاب « وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا»، قال فقط: « فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ»، أما مرويات الرواة المذهبية، التي وسمها المحدثون باسم «السُنة النبوية»، فقد حملت عشرات العقوبات لمَن حاول أن يطعن في صحة ما حكموا بصحته من هذه المرويات بدعوى إنكار السنة!

إن علماء «مرصد الأزهر» لو جاؤوا بمن يتهمونهم بإنكار السنة في جمْع عام، وأشار أحدهم إلى المتهمين قائلا: هؤلاء هم منكروا السنة فانظروا أيها الجمع الغفير ماذا تريدون أن نفعل بهم، لسمعنا مَن يقول: «تكبير»، ثم يندفع هذا الجمع نحو المتهمين ويقتلونهم وهم يكبّرون، فهذه هي الثقافة الدينية التي تربوا عليها، ثقافة الجهل والتخاصم المذهبي والتقليد الأعمى!

ثم يقول علماء «مرصد الأزهر»: «وما كان ضلال الأمم السابقة وتحريفهم لكتبهم إلا لفقدهم ما حبانا الله به من حفظ الإسناد، فهل المقصود أن نكون مثل الذين من قبلنا، فنترك ونهدم شطر الدين؛ فنضل ونحرف ونغير ونبدل كل ما ليس له تفصيل في القرآن؟!».

* القاصمة: انظر كيف أقاموا ضلال الأمم السابقة، وتحريفهم لكتبهم على قاعدة متهافتة أصلا اسمها «الإسناد»، الذي لا حجية له في دين الله، وإنما حجيته عند من صنعوه بأيديهم، ثم اتهموا من يطعن فيه بهدم شطر الدين، يعني كافر!

ثانيا: إن أصل بدعة «الإسناد»، ومسألة حفظ الله له، أن المحدثين أرادوا إعطاء قدسية لمروياتهم عن طريق إيجاد علاقة بين الرواة الذين نقلوا الحديث، والقرّاء الذين نقلوا القرآن، فقالوا إن الرواة الذين نقلوا الحديث بـ «سند الرواة»، هم الذين نقلوا القرآن بـ «سند القراء»، فإذا طعنّا في الحديث فهذا معناه أننا نطعن في القرآن لأن الناقل لهما واحد!!

وهذه هي مصيبة المصائب، لأنها تمس ملة الوحدانية، وتنزيه الله عن أن يكون حفظه لآيات الذكر الحكيم قد شمل أيضًا حفظ مرويات السنة، التي تشهد بذاتها أنها لم تُحفظ حتى من الذين نقلوها، ولا من الذين دوّنوها!!

إن على أئمة وعلماء وشيوخ الفرق الإسلامية مجتمعين، أن يعلموا أن أقصى ما يمكن أن يتوصل إليه علم الإسناد هو إثبات صحة ما نسَبه الرواة إلى الرسول، وهو أمر مشكوك فيه أصلا، ولذلك نجدهم يصفون مروياتهم بأنها «ظنية الثبوت» عن رسول الله، أما دين الله فلا تثبت حجية نصوصه بصحة السند إلى الرسول، وإنما بصحة النسبة إلى الله تعالى.

إن صحة النسبة إلى الله تعالى تحتاج إلى برهان من الله، وليس من المحدثين، وهذا البرهان لا يملكه علم «الإسناد»، وإنما تملكه «الآية الإلهية» الدالة على أن هذه «الأحاديث» وحي إلهي، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فأين هذا البرهان يا أهل الحديث؟!

إن الدراس لعلم الحديث يعلم أن «السند الروائي» أخذ ينمو وينمو، حتى توقف عند عصر تدوين المحدثين وعلماء الجرح والتعديل لكتبهم، بعد ما يزيد عن قرنين من الزمن من وفاة النبي، عليه السلام، فلماذا لم يتوقف «السند الروائي» عند خليفة المسلمين الأول؟!

لماذا لم يُدوّن خليفة المسلمين الأول «الأحاديث» تحت إشرافه باسم الخلافة الإسلامية، وفي هذه الحالة ما كان لعلم الحديث أن يولد أصلا؛ لأن المسلمين كانوا سيرثون جميعًا كتابًا واحدًا للحديث، بسند خليفة المسلمين أبي بكر الصديق، صاحب النبي في الغار؟!

* القاصمة: لقد غاب عن أئمة السلف والخلف هذه الحقيقة الإيمانية، فأنا عندما أريد الاستدلال بكلام الله أقول: قال الله تعالى، وأقرأ الآية مباشرة من المصحف، دون إسنادها إلى أحد من البشر، ولو كان الرسول نفسه، لأن الذي يحتاج إلى «سند» هو الشيء المائل الذي لا يقوم إلا به وإلا وقع، وكلام الله تعالى لا يحتاج إلى مَن يسنده.

ثالثا: يقول علماء «مرصد الأزهر»: «أليس الذي أخبرنا بالقرآن هو صاحب السُنة، الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى؟! أليس رواة القرآن هم رواة السنة من خير القرون وخيرة الأجيال؟!…فلماذا يقبل منكرو السنة رواية الصحابة والتابعين للقرآن ولم يقبلوها في السنة؟!».

أقول: عندما خرج الصادق المصدوق على قومه بكلام غير الذي اعتادوا سماعه منه وعرفوه به، اتهموه بالضلال والغواية، فنزل القرآن يُبيّن لهم أن الذي نطق به الرسول ليس من كلامه، وإنما هو كلام الله الذي أوحاه إليه عن طريق جبريل عليه السلام، فقال تعالى:

« وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى»

إذن فنحن أمام شخص عرفه قومه وصاحبوه، وعرفوا أسلوب كلامه، وعندما اصطفاه الله رسولًا، وقال لهم أنا رسول الله، وتلى عليهم كتاب الله، اتهموه بالضلال والجنون، أي أنهم لم يوجهوا إليه هذا الإتهام، إلا عندما نطق بالقرآن، وقال إنه كلام الله، الذي نزل به جبريل عليه السلام: « عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى»، وقال في موضع آخر:

« قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ، فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ، مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ».

فكيف يجرؤ مسلم أن يقول: إن اتهام الرسول بالضلال والجنون كان بسبب الكلام الذي خرج على لسانه، سواء كان كلامه المعروف لقومه، أو كلام الله الذي أوحاه إليه؟!

إن السياق القرآني لآية سورة النجم، بدأ بالرد على الطعن الموجه لنبوة الرسول، والضمير «هو»، الوارد في قوله تعالى: « إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى»، يشير إلى كلام الله وليس إلى كلام الرسول، فما علاقة كلام الله، الذي تعهد الله بحفظه، بكلام رواة الفرق الإسلامية المختلفة، التي وسمها أئمة السلف باسم «السنة النبوية»، لتأخذ قدسية في قلوب أتباعها؟!

أين هم رواة السنة، الذين قال علماء «مرصد الأزهر» عنهم بعد ذلك: «الذين استرعاهم الله على الكتاب فكانوا أمناء وشهداء بالقسط في حفظه وصيانته وروايته»، وإلى أي فرقة من الفرق الإسلامية ينتمون؟!

ثم كيف يقول علماء «مرصد الأزهر» بعدها: «ألم يكن منهجهم في الحفظ والتثبت والرواية واحدًا، وإن اختلف في جعل الصدارة والأولوية للمصدر الأول للدين وهو القرآن، إلا أنه لم يهمل المصدر الثاني وهو السنة»؟!

أين هي بصمات هذا المنهج الواحد في الحفظ والتثبت؟! لذلك لم يكن غريبًا على علماء «مرصد الأزهر» اتهامي بافتراء الكذب على الله، فيقولون بعدها:

«وأما ادعاؤه بأن: السنة لم يحفظها الله كما حفظ القرآن؛ فهذه دعوى كاذبة مجردة من البرهان والحجة، فما دليله على ذلك؟!».

* القاصمة: إنهم يسألونني عن الدليل «أن السنة لم يحفظها الله كما حفظ القرآن»، وقد جئت لهم بخمسة مقالات في بيان ذلك، وتهافت بدعة: «إن رواة القرآن هم رواة السنة»، فكيف لا يرى علماء «مرصد الأزهر» الفرق بين كلام الله وكلام الرواة، وقد وصل القرآن إلينا بطريق واحد محفوظ بحفظ الله له، أما مرويات السنة فوصلت إلينا من خلال آلاف الطرق المذهبية؟!

رابعا: يقول علماء «مرصد الأزهر» عن حفظ الله للسنة، ردا على قولي إن الله لم يحفظها: «ربما هو يستند إلى قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، حيث اقتصر فهمه على أن المراد بكلمة الذكر في الآية هو «القرآن الكريم» فقط، والحقيقة أن ما وعد الله به من حفظ الذكر لا يقتصر على القرآن وحده، بل المراد به شرع الله ودينه الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو أعم من أن يكون قرآنا أو سُنة»!!

انظروا إلى هذا التعريف الهلامي للذكر: «شرع الله ودينه الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو أعم من أن يكون قرآنًا أو سُنة»!!

يعلم المسلمون، أتباع الفرق والمذاهب المختلفة، الصغير منهم قبل الكبير، أن مصادر التشريع الرئيسية «كتاب وسُنة»، ولا يعلمون شيئا عن هذا «الشرع الأعم من أن يكون قرآنًا أو سُنة»، أما الذي يعلم هذا «الشرع الأعم» هم نخبة من العلماء، فقالوا:

«وإذا رجعنا إلى الكتب المتخصصة نجدها تعدد معاني الذكر التي وردت في القرآن، فقد وردت كلمة (الذكر) في القرآن اثنين وخمسين مرة، ولها معان كثيرة؛ فهي تأتي بمعنى القرآن، وبمعنى الرسالة والشريعة، وبمعنى الحفظ، وبمعنى السنة، وبمعنى التذكرة، وبمعنى الشرف، وبمعنى العبادة… إلخ، وفي ذلك نقل صاحب كتاب «بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز» عن أحد العلماء قوله: «ذكر الله الذكر في القرآن على عشرين وجها، وفيها الذكر بمعنى رسالة الرسول»!!

وبعد بيان المعاني المتعددة للذكر، خرجوا علينا بالمعنى المناسب لهم، فقالوا:

«إذن فالمعنى المناسب للذكر في قوله عز وجل: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) هو رسالة الرسول – صلى الله عليه وسلم – بصفة عامة، بما في ذلك الكتاب والسنة، وذلك أن القرآن والسنة وحي من الله عز وجل، ولم يكن النبي – صلى الله عليه وسلم – ليقول شيئا من عنده: ( إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) فلماذا يتكفل الله تعالى بحفظ القرآن، ولا يتكفل بحفظ السنة مع أن كليهما وحي من عنده سبحانه وتعالى؟!»

لقد استبدلوا جملة «الشرع الأعم» بجملة «الرسالة بصفة عامة»، والحقيقة أنا شخصيا لا أعلم ماذا يقصدون بقولهم «بصفة عامة»، ولا أعلم حدود هذه الرسالة التي تعدى محتواها «الكتاب والسُنة»، ولا أعلم مرجعية هذه الرسالة كي أطلع عليها!!

ثم ينقلون عن ابن حزم قوله: «ولا خلاف بين أحد من أهل اللغة والشريعة في أن كل وحي نزل من عند الله – عز وجل – فهو ذكر منزل، فالوحي كله محفوظ بحفظ الله – عز وجل – له بيقين»!!

* القاصمة: فهل قضيتنا في حفظ الله للوحي أم في هل هذا الوحي المحفوظ يمكن أن يتحول إلى «مرويات» مذهبية، إن صحّت عند مذهب لم تصح عند آخر؟!

يكفينا أن ننظر إلى كتاب الله، فنشكر الرواة الذين جعلهم الله سببًا في نقله إلى الناس جميعًا، محفوظًا بحفظ الله له، دون أن تمسّه بصمات الرواة العقدية والتشريعية.

ثم ننظر إلى مرويات «السنة»، على مستوى الفرق الإسلامية كلها، وإلى انتماءات رواتها العقدية والتشريعية، وهل كانت هذه الانتماءات سببا في قبول أو رفض علماء الجرح والتعديل لمروياتهم، وعندها سنعلم كيف قصمت القاصمة ظهر المذهبية!!

خامسا: إن «الذكر»، ليس وحيا إلهيا مستقلا عن وحي «الكتاب»، يُدوّنه المحدثون كلٌ حسب مذهبه العقدي، وشروطه في الجرح والتعديل، والتصحيح والتضعيف، وإنما هو اسم من أسماء الكتاب المنزل: « ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛهُدًى لِّلْمُتَّقِينَ»، الذي يحمل صفة من صفاته التي يُعرف بها، ومن هذه الصفات:

القرآن: « إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ»
الفرقان: « تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا»
النور: « يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً»
الذكر: « وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ»

وهذا ما بيّنه الله تعالى بقوله: « إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ – لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ».

وقوله تعالى: «ص، وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ«

وقوله تعالى: «وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ»

وقوله تعالى: « قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا، رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ»

حتى أعداء الرسول كانوا يعلمون أن الذكر اسم من أسماء الكتاب، وليس مصدرا تشريعيا مستقلا عنه، فقالوا:

« يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ»، وقال تعالى: « وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ – وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ».

فيا أهل اللسان العربي، ويا علماء وفقهاء المسلمين: هل اتهم الكافرون الرسول بالجنون عندما سمعوا منه «الكتاب»، ومرويات «السنة»، التي لم تولد بعد، وأشياء أخرى لم يشر الله تعالى إليها في كتابه، وإنما أوحى إليكم بها؟!

إن الظالم سيعض على يديه يوم القيامة ويقول:

«يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً – يَا وَيْلَتا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً – لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً».

فهل كان هذا الظالم يعلم، أن «الذِّكْرِ» يعني «الكتاب»، ومرويات «السنة»، وأشياء أخرى، كلٌ حسب الفرقة أو المذهب العقدي الذي ينتمي إليه؟! إذن فلماذا تُكفّرون القاديانية والبهائية وغيرهما، عندما يستدلون بمرويات «السنة»، وهذه «الأشياء الأخرى» على شرعية مذاهبهم العقدية، وولاية أئمتهم الربانية؟!

* القاصمة: لقد جاء القرآن بعدها يكذب ادعاءاتكم، ويبين المقصود بالذكر تحديدا، بقوله تعالى:

« وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً».

سادسا: إن منهج التفكير العلمي، يفرض على علماء المسلمين عند حديثهم عن طاعة الرسول ومعصيته، أن يتحدثوا باعتبارهم يعيشون مع رسول الله في عصر الرسالة، فإن لم يفعلوا ذلك، إذن فهم يفترون على الله ورسوله الكذب، لأنهم يساوون بين طاعة الرسول وطاعة المحدثين، الذين قسموا أحاديث الرسول كلٌ حسب رؤيته المذهبية، على النحو التالي:

«حديث صحيح، حسن، ضعيف، مرفوع، موقوف، موصول، مرسل، مقطوع، منقطع، معضل، معلق، مدلس، غريب، شاذ، منكر، مضطرب، موضوع..»

وطبعا كل هذه الأنواع تنقلب رأسًا على عقب عند مذهب آخر، فيجعل الصحيح ضعيفًا، ويجعل الضعيف صحيحًا… وهكذا، وأمهات كتب الحديث خير شاهد على ذلك، وموسوعة الشيخ الألباني الحديثية، التي صحح فيها ما ضعّفه أئمة السلف، وضعف ما صححوه، ثم جاء الشيخ حسن بن علي السقاف فهدم منهج الألباني في التصحيح والتضعيف، وكتب كتبًا في تناقضات الألباني، فأين تتحق طاعة الرسول وسط هذه المنظومة الحديثية الهلامية؟!

* قاصمة القواصم: إنه لا توجد آية واحدة في كتاب الله تحدثت عن طاعة الرسول أو عن معصيته، إلا وكانت تخاطب المعاصرين للرسول فقط، فكيف يُطاع الرسول وهو ميت؟!

مثال: قوله تعالى في سورة النور عن صفات المؤمنين:

«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ …، إلى أن قال تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

إن أئمة السلف وعلماء الخلف، يستقطعون هذه الجملة القرآنية: « فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» من سياقها الذي يخاطب الذين كانوا مع رسول الله «عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ»، ثم يسقطونها على المخالفين لمذاهبهم، بعد قرون من وفاة النبي، ويتهمونهم بمعصية الرسول ومخالفة أمره!!

فيا من تقولون إن رواة القرآن هم رواة السنة، وإن حفظ الله للقرآن قد شمل حفظ السنة وحفظ مصادرها الثانية للتشريع، ألا تتقون الله في دينكم، وفي المسلمين الذين يتبعون مذاهبكم، ويظنون أنهم يتبعون «السنة النبوية»، التي حملتها نصوص «الآية القرآنية»، المحفوظة بحفظ الله لها؟!

لقد ذكرت في المقال الأول، أن مشروعي الفكري لا يخاطب فرقة من الفرق الإسلامية، وإنما يخاطب أتباع الفرق جميعهم، فلو أن علماء «مرصد الأزهر» أرادوا الرد على المقالات الخمسة، أرجو أن يكون ردّهم موضوعيًا على مشروعي الفكري، وليس دفاعًا عن فرقة أهل السنة والجماعة.

محمد السعيد مشتهري

أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى