إن الذي يدخل في حوار مع أي إنسان تحمل مسئوليته العلمية في ما يكتب، يجب أن يكون هو أيضا قد تحمل مسئوليته العلمية في ما يكتب، ولا يكون تابعا مقلدا بغير علم، فيضع نفسه في موقف محرج مؤسف.
إن بدعة خروج أهل النار، بعد أن يأخذ كلٌ جزاءه، لا يستحق الرد عليها أكثر مما ذكرته في عشرة أسطر في المنشور السابق، ولكن القراءات العصرية للقرآن، التي تريد إرضاء اللادينيين تحت راية «الرحمة الإلهية»، ضلت طريقها إلى الفهم الواعي للسياق القرآني، وأضلت التابعين لها، الذين ينقلون عن أصحابها بغير علم.
أولا: مسألة المشيئة الإلهية، وقوله تعالى:
«فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ، خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ، وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ»
إنه بجهلهم، وعدم تنزيههم لله تعالى، وقفوا عند مشيئته: «إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ»، وأقحموا أنفسهم في ما يحرم الحديث عنه، واستنبطوا أن المشيئة الإلهية تتجه نحو عدم الخلود المؤبد في النار، ويقع في هذه المصيبة بعض نجوم المفكرين الإسلاميين، الذين أضلوا التابعين المقلدين لهم بغير علم.
لذلك قمت في المنشور السابق بالرد على هذه المصيبة بجملة واحدة: «ولو شاء الله أن يُخرج أهل الجنة وأهل النار لأخرجهم جميعا، فهو سبحانه «فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ».
والسؤال: لمصلحة من نُقحم أنفسنا في مسائل «المشيئة الإلهية»، ونكتب فيها الكتب، ونتحدث عنها بالساعات؟!
ثانيا: مسألة الخروج من الجنة أو النار:
١- الآية ٤٨ من سورة الحجر عن أصحاب الجنة:
تدبر سياق الآية: «ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ، وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ، لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ»
المعنى: لما كان الحديث عن نعيم الجنة، جاء التأكيد على أن أهل الجنة لن يفارقوا نعيمها أبدا: «وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ».
٢- الآية ٣٧ من سورة المائدة عن أصحاب النار:
تدبر سياق الآية: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»
المعنى: إن «الكافرين» هم أهل النار، فلا يدخل النار إلا كافر، وهذا ما أخبر الله تعالى به الناس محذرا: «وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ»، والآيات الدالة على ذلك كثيرة، منها قوله تعالى:
« وَالَّذِينَ (كَفَرُوا) لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ (كَفُورٍ) »
ولما كان الحديث عن عذاب الكافرين، الذين أُعدّت لهم النار أصلا، وهم يطمعون أن يخرجوا منها، أو أن يخفف عنهم العذاب، قال تعالى بعدها:
« وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ، فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ»
إذن فقضية الكافرين هي «إرادة الخروج من النار»، وهذا ما بينه الله تعالى في سورة المائدة بقوله:
«يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ»
لقد جاء قوله تعالى: «وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا» ردا على إرادتهم الخروج، ويستحيل أن يكون الله تعالى سيخرج الكافرين بعد فترة من الزمن ثم ينفي فكرة الخروج أصلا!!
بل إن الله جعل إرادة الخروج نفسها عذابا، فقال تعالى:
«وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ، كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ»
ثالثا: نعلم من السياق القرآني، أنه بعد وضع الموازين، وظهور نتيجة الحساب، يبدأ تنفيذ الجزاء:
« فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ، وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ»
وأهل الجنة هم «المؤمنون»، المخلدون في نعيمها، الذين يخاطبهم الله تعالى بقوله:
« الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ، ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ»
وأهل جهنم هم «الكافرون»، المخلدون في عذابها، الذين يخاطبهم الله تعالى بقوله:
« هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ، اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ»
إذن فمن أين جاء السلفيون، وأهل الهوى، وأصحاب القراءات العصرية، والمتحدثون باسم «الرحمة الإلهية»، ببدعة خروج الموحدين من النار؟!
رابعا: إن الله تعالى الذي أخبرنا أنه « الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ »، وقال: « وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ»..، هو الذي قال لنا ونحن مازلنا في الدنيا:
«وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ»، أي لا تكونوا من الكافرين!!
ومن رحمته أن بيّن لنا كيف لا نقع في هذا الكفر، حتى لا نكون من أصحاب النار، فقال تعالى ردا على الذين أقحموا أنفسهم في المشيئة الإلهية، وقالوا إن أهل النار سيخرجون منها:
«وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً، قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ»
ثم وضع الله تعالى بعدها القانون العام للحساب والجزاء في الآخرة:
«بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ»
لذلك جعلت عنوان المنشور السابق: «كن تائبا مستغفرا دوما»، فلماذا تغفل عن التوبة والاستغفار، ثم تذهب تبحث عن الرحمة الإلهية، إلا إذا كنت من المغرورين الذين قال الله فيهم:
« ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ، وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ»
نعم، هذه هي القضية: « وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ»
إنه الغرور الذي جعل من يحملون راية تجديد الفكر الإسلامي، وراية القراءات العصرية للقرآن، يفترون على الله الكذب، ويُقحمون أنفسهم في مشيئته عز وجل، حتى أصبحوا يعلمون أن مشيئته اقتضت فناء النار وخروج أهلها منها، ولو كانوا منصفين لقالوا وفناء الجنة أيضا وخروج أهلها منها، وهنا لا تكون هناك أصلا قضية للمناقشة!!
لذلك عندما كتبت المنشور السابق، قمت باختصار هذا المشوار الطويل في جملة واحدة، فوضت فيها الأمر إلى الله تعالى، وأكررها:
«ولو شاء الله أن يُخرج أهل الجنة وأهل النار لأخرجهم جميعا، فهو سبحانه « فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ »
محمد السعيد مشتهري