نحو إسلام الرسول

(445) 24/4/2016 (البيان النبوي ليس سنيا ولا شيعيا ولا أشعريا)

ذكرت في المقال السابق، في سياق الرد على الشبهات التي أثارها علماء «مرصد الأزهر»، بخصوص مقال نشرته لي جريدة «المقال»، بتاريخ «٢٢-٥-٢٠١٥م»، بعنوان «السُّنة حقيقة قرآنية في عصر النبوة.. وبعدها اجتهادات أئمة»، أنه كان يجب على علماء المرصد أن يقيموا ردهم على أسس «منهجية علمية»، تُبيّن للناس مفهوم «السُّنة النبوية»، والفرق بينها وبين «مرويات» الرواة، التي وسموها باسم «الحديث النبوي»، والتي إن صحت عند مذهب من مذاهب الفرقة الواحدة، لا تصح عند آخر.

كما ذكرت أنه يجب على علماء الفرق والمذاهب المختلفة، أن يتحدثوا باسم المذهب العقدي الذي ينتمون إليها، وليس باسم «الأمة الإسلامية»، حتى يخرجوا من دائرة التخاصم والتكفير، التي جعلت أتباع كل فرقة يعتبرون أنفسهم هم «الأمة الإسلامية»، وباقي الفرق غير إسلامية، وأنهم «الفرقة الناجية»، وباقي الفرق في النار!!

واستكمالا لما جاء في بيان علماء «مرصد الأزهر» من شبهات، والرد عليها، قالوا في ردّهم:
أولا: «أما عن زعمه بأن القرآن هو المصدر الوحيد للتشريع وأن السنة النبوية ليست المصدر الثاني للتشريع وإنما هي تفعيل الرسول – صلى الله عليه وسلم – للنص القرآني …الخ، فهذا زعم باطل؛ فالله – سبحانه وتعالى – أنزل القرآن الكريم هداية بينة، ومعجزة لرسوله – صلى الله عليه وسلم – باهرة باقية، ثم أعطاه السنة مفصلة للكتاب وشارحة له كما قال عز وجل: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم)، فكانت السنة أصلا من أصول الدين تاليا لكتاب الله تعالى، تؤخذ منها العقائد والأحكام والأخلاق، وغير ذلك».

١- قولهم «ثم أعطاه السنة مفصلة للكتاب وشارحة له»:
والسؤال: عند أي فرقة من الفرق الإسلامية نجد هذا الكتاب الذي حمل «السنة النبوية» المفصلة للقرآن والشارحة له، بين مئات كتب التفسير الموجودة في المكتبة الإسلامية؟!

فهل المفسرون والمحدثون أولى من رسول الله، لتكون لهم مؤلفاتهم في بيان «السنة النبوية»، وصاحب السنة نفسه ليس له مؤلف باسمه، محفوظ بحفظ الله له، يستقي منه المسلمون مباشرة سُنته، بعيدًا عن إشكاليات «السند الروائي» المذهبي؟!

٢- ألم يقرأ علماء «مرصد الأزهر» كتاب «الصحيح المسند من التفسير النبوي للقرآن الكريم» للشيخ أبىِ محمد السيد إبراهيم بن أبي عمة، تحقيق ومراجعة الشيخ مصطفى العدوي، الذي قال في مقدمته: «لذلك فقد راودتنا فكرة تفسير القرآن بالسنة الصحيحة وبالأثر الصحيح»؟!

إذن حتى عصرنا هذا، لم يكن هناك كتاب يُعتمد عليه في «تفسير القرآن بالسنة الصحيحة وبالأثر الصحيح»، وهذا ما يثبته فعلا الواقع، فلو كان النبي، عليه السلام، قد فسّر القرآن، ما كان لأمهات كتب التفسير أن تولد أصلا، فمن يجرؤ أن يُفسر القرآن بعد تفسير النبي؟!

ثم قال الشيخ مصطفى العدوي: «لذلك فقد رأينا أن نضيق نطاق العمل تضييقا آخر وصورته تفسير الآيات التي فسرها النبي صراحة، والآيات التي فسرها النبي بقوله قليلة محصورة».

تدبر قول الشيخ: «والآيات التي فسرها النبي بقوله قليلة محصورة»، ثم قال بعدها: «فعهدنا بهذا العمل إلى أخينا في الله سيد بن إبراهيم أبي عمة، فقام جزاه الله خيرا بجمع الأحاديث التي فسر بها رسول الله الآيات، وقام بتحقيق هذه الأحاديث وانتقاء الصحيح منها وترك ما سواه».

إذن حتى عصرنا هذا، لم ينته المحققون من انتقاء الصحيح من «السنة النبوية» وترك ما سواه!!

٣- وإذا كان علماء «مرصد الأزهر» قد قالوا في ردّهم على رفضي حجية المصدر الثاني للتشريع: «ثم أعطاه السنة مفصلة للكتاب وشارحة له، كما قال عز وجل: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)، فكانت السنة أصلا من أصول الدين تاليا لكتاب الله تعالى، تؤخذ منها العقائد والأحكام والأخلاق، وغير ذلك»

فإن الشيخ مصطفى العدوي قال أيضا في مقدمة هذا الكتاب: «الصحيح المسند من التفسير النبوي للقرآن الكريم»:

« ولأنّ القرآن نزل على رسول الله، فلا شك أنه عليه السلام أعلم الناس بتأويله فعليه أنزل، وبلسانه تلي، وبسنته فسر، قال الله تعالى: «وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ»، فسنة رسول الله كلها تفسير للقرآن، وبيان لمعانيه وألفاظه وأحكامه »!

واللافت للنظر أن هذا الذي قاله علماء «مرصد الأزهر»، والذي قاله الشيخ العدوي، هو ما تعودنا على قراءته وسماعه من علماء الفرق والمذاهب الإسلامية المختلفة، عبر قرون مضَت، والذي ليس له واقع مشاهد في أمهات كتب التفسير، والبرهان على ذلك هو:

لقد بذل مؤلف كتاب «الصحيح المسند من التفسير النبوي للقرآن الكريم»، والعلماء الذين ساعدوه على إنجاز موضوعه، جهدا كبيرا حتى جنوا ثماره، فتعالوا نتعرف على هذه الثمار المتعلقة بسورة البقرة وحدها كمثال:

إن عدد آيات سورة البقرة «٢٨٦» آية، فقط سبع «٧» آيات منها هي التي وردت فيها أحاديث صحيحة مرفوعة إلى النبي، «طبعا حسب شروط علماء أهل السنة»، وهي:

أ- « فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ» (البقرة ٥٩)
ب- « وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا… الآية» (البقرة ١٤٣)
ج- « أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ… الآية» (البقرة ١٨٧)
د- « وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ.. الآية» (البقرة ١٩٦)
هـ- « وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ» (البقرة ٢٢٢)
و- « حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ» (البقرة ٢٣٨)
ز- « يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ» (البقرة ٢٧٦)

إن الذي يتدبر هذه الآيات السبع، ثم يذهب إلى أمهات كتب التفسير، عند الفرق الإسلامية المختلفة، ليقف على تفسيرها النبوي، الذي ورد في أصح المرويات المرفوعة إلى النبي، سيصل إلى هذه النتيجة:

أنه لو ترك علماء السلف المسلمين يفهمون القرآن بالأدوات المستنبطة من ذات النص القرآني، وفي مقدمتها «اللسان العربي»، لفهموا هذه الآيات السبع بعيدا عن كل هذه «المرويات» المذهبية، التي سيجد القارئ فيها من السهام المسمومة التي يستخدمها الأعداء في ضرب الإسلام والمسلمين، خصوصا الآية «٢٢٢»، كما سيجد من الفتاوى ما يُحلّون به الحرام، يخجل المسلم من نشرها!!

٤- إذا كان الله تعالى قد أعطى رسوله محمدا، عليه السلام: «السنة مفصلة للكتاب وشارحة له، كما قال عز وجل: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)، فكانت السنة أصلا من أصول الدين تاليا لكتاب الله تعالى، تؤخذ منها العقائد والأحكام والأخلاق، وغير ذلك»، أليس من المفترض ألا يحتاج البيان النبوي إلى من يبينه؟!

وإذا كان الله تعالى قد أعطى رسوله محمدا، عليه السلام: «السنة مفصلة للكتاب وشارحة له»، فلماذا احتاجت السنة الشارحة للكتاب إلى شرح المفسرين والمحدثين والفقهاء لها؟! فما أهمية كل هذه الكتب بعد بيان النبي وشرحه لآيات الكتاب وأحكامه؟!

يا علماء «مرصد الأزهر»، أنتم الذين قلتم: إن الله «أنزل القرآن الكريم هداية بينة، ومعجزة لرسوله»، وأنتم الذين قلتم: «ثم أعطاه السنة مفصلة للكتاب وشارحة له»، فهل يُعقل أن ينزل الله كتابا لا يُفهم إلا بشرح النبي لآياته وأحكامها، ثم يحفظ الله «الكتاب»، ويترك بيان النبي يتداوله رواة الفرق والمذاهب المختلفة شفاهة، عبر قرن ونصف القرن من الزمن، على أقل تقدير، إلى أن جاء عصر تدوينه؟!

٥- كيف تساوون بين حجية «الكتاب» المنزل، الذي هو القرآن الكريم، الذي يعلم حدوده وعدد سوره كل مسلم على هذه الأرض، بحجية «مرويات» الفرق الإسلامية المتصارعة، التي لم يُجمع علماؤها حتى اليوم، على حدود المقطوع منها بصحته؟!

كيف تساوون بين حجية «الكتاب» المنزل، الذي ورثه المسلمون، منذ عصر الرسالة إلى يومنا هذا، محفوظا بحفظ الله له، لذلك لم يستطع رواة الفرق الإسلامية أن يضعوا بصماتهم المذهبية على نصوصه، وبين «المرويات» التي لم تُدوّن في أمهات الكتب إلا بعد أن وضع الرواة عليها بصماتهم المذهبية؟!

ولماذا لم يظهر أصح كتاب للبيان النبوي، عند أهل السُّنة، إلا في القرن الثالث الهجري، وهو صحيح البخاري «ت٢٥٦هـ»، ولم يظهر أصح كتاب عند الشيعة إلا في القرن الرابع الهجري، وهو صحيح الكافي للكليني «ت٣٢٩هـ»، ولماذا لم يظهر أصح كتاب للبيان النبوي في حياة النبي، وتحت إشرافه؟!

قالوا: خشية اختلاط حديث النبي بحديث الله تعالى!!

انظر وتدبر هذا التبرير الذي يفقد قائله أهلية الحديث عن الآية الدالة على صدق نبوة رسول الله محمد، عليه السلام، والتي يستحيل أن يحملها لسان النبي وأسلوب حديثه مع قومه، حتى ولو كان في أصله وحيًا يوحى، وإلا لأصبح البرهان على صدق نبوة الرسول، أن يعجز المكذبون أن يأتوا بسورة من مثل القرآن، أو بحديث من أحاديث النبي!! فهل هذا هو ما كان عليه أئمة السلف؟!

وعلى فرض صحة هذا التبرير، وأن الصحابة، أهل اللسان العربي، كانوا حديثي عهد بالإسلام، فلماذا بعد أن استطاعوا التمييز بين حديث النبي وحديث الله، لم يُدوّن الخلفاء الراشدون «السنة النبوية»، في كتاب واحد، مهما بلغ عدد أجزائه، إذا كانت حقا أصلا من أصول الدين، كما قال علماء «مرصد الأزهر»: «فكانت السنة أصلا من أصول الدين، تاليا لكتاب الله تعالى، تؤخذ منها العقائد والأحكام والأخلاق، وغير ذلك»؟!

ثانيا: يقول علماء «مرصد الأزهر»: «فالله ـ عز وجل – قد تكفل بحفظ ما صح من حديث رسوله – صلى الله عليه وسلم – ويدل على ذلك الكتاب الكريم، والسنة النبوية الصحيحة، والعقل».

والسؤال: كيف تكفل الله تعالى «بحفظ ما صح من حديث رسوله»؟!

الحقيقة أنا مش فاهم هذه الجملة!! ماذا يعني حفظ الله لما صح؟!

هل جعلتم من أنفسكم آلهة تشاركون الله في فصل الصحيح من وحيه عن الضعيف، فيحفظ أهل السنة ما صح عندها، ويحفظ الشيعة ما صح عندها، وكذلك باقي الفرق؟!

ما هذا الكلام الذي لا محل له من الإعراب؟!

ثم يقولون: «أما الأدلة من كتاب الله – عز وجل – على تكفل الله بحفظ السنة النبوية فهي كثيرة، منها: قوله عز وجل: « إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ» فهذا نص صريح يدل على أن الله – عز وجل – قد تكفل بحفظ السنة على وجه الأصالة والاستقلال على طريق اللزوم والتتبع؛ لأنه تكفل فيه ببيان القرآن في قوله عز وجل: « ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ »، أي: بيان القرآن، والبيان كما يكون للنبي – صلى الله عليه وسلم – يكون لأمته من بعده, وهو يكون للنبي – صلى الله عليه وسلم – بالإيحاء به إليه ليبلغه الناس، وهو المراد من قوله عز وجل: «وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ».

١- يقول علماء «مرصد الأزهر»: «لأنه تكفل فيه ببيان القرآن في قوله عز وجل: « ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ »، أي: بيان القرآن».

والسؤال: هل يُعقل أن يكون معنى « ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ »، أي ثم إنا علينا تفسير آياته، عن طريق مرويات الفرق والمذاهب المختلفة، التي إن صحّت عند مذهب من مذاهب الفرقة الواحدة، لم تصح عند آخر؟!

إن الضمير في قوله تعالى: « ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ »، هو نفسه الضمير في قوله تعالى: « لِتَعْجَلَ بِهِ»، وفي « جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ»، وفي « قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ»، أي يعود على القرآن كله، فأين هو هذا الكتاب الجامع للبيان النبوي للقرآن كله؟!

أرجو من علماء الفرق والمذاهب المختلفة مجتمعين أن يُخرجوا للناس هذا الكتاب عبر القنوات الفضائية، لإثبات صحة حجية مروياتهم!

٢- ثم يقول علماء «مرصد الأزهر» عن البيان النبوي للقرآن: « وهو يكون للنبي – صلى الله عليه وسلم – بالإيحاء به إليه ليبلغه الناس، وهو المراد من قوله عز وجل: «وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ».

وإن المتدبر لهذه الآية «٦٤» من سورة النحل، والسياق القرآني الذي وردت فيه، يعلم أنها لا تخاطب المؤمنين برسالة محمد، عليه السلام، أصلا، وإنما تخاطب المكذبين بها!

ألستم على دراية بعلم السياق القرآني؟! إذن تعالوا نستعين بهذا العلم، لنثبت بطلان استدلالكم بهذه الآية، وبقوله تعالى: «وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ»، على حجية «مرويات» الفرق الإسلامية المختلفة كشريعة إلهية وسمها أئمة السلف والخلف باسم «السنة النبوية» لتأخذ قدسية في قلوب أتباعهم.

إن السياق القرآني الذي وردت فيه الآية «٧» من سورة الأنبياء:

«وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ»

والسياق الذي وردت فيه الآيتان «٤٣ ـ٤٤» من سورة النحل:

«وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» – «بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ».

يخاطب أصلا المكذبين برسالة النبي الخاتم محمد، عليه السلام، وليس المؤمنين بها، فيُبيّن لهم أن الله تعالى لم يرسل رسلا من النساء أو من الملائكة، وإنما من الرجال: «وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ»، وإن عليهم أن يتأكدوا من هذه الحقيقة بسؤال أهل الكتب السابقة، أهل الذكر: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ».

وإن سياق هذه الآيات يبدأ بقوله تعالى «الآية ٣٩»:

« لِيُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ »

فمن هم «المختلفون»، الذين سيُبيّن لهم النبي الخاتم محمد، عليه السلام، حقيقة « الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ»؟! إنهم الكافرون المكذبون، الذين قال الله فيهم: « وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ»!!

ثم جاءت الآية «٦٤» تؤكد ذلك، وتخاطبهم بقوله تعالى: «وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ».

إن الله تعالى لم يشر في كتابه، بأي صورة من الصور، إلى أن الصحابة اختلفوا حول هذا الكتاب، وإنما أشار إلى أن الاختلاف حدث بين أهل الكتب السابقة: « إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ»، فنزل القرآن ليبين « لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ – وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ».

٣- فإذا ذهبنا إلى قوله تعالى «وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ»، وجدناهم أيضا يُخرجون الآية عن سياقها الذي يخاطب الكافرين المكذبين، وأنهم هم المقصودون بكلمة «الناس»: « لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ»، وهذا ما أفاد به الاسم الموصول «مَا»، وصلته «نُزّل»، وبيان ذلك على النحو التالي:

إن «الذكر» المنزل على رسول الله محمد: «وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ»، مهمته المحددة في سياق هذه الآية أن يُبيّن لهؤلاء المكذبين: «مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» من كتب اختلفوا بشأنها، وبشأن كتاب النبي الخاتم، وليس أن يُبيّن للمؤمنين، بالشرح والتفسير، اختلافهم حول الذكر المنزل، وإلا لقال تعالى: «لتبينه للمؤمنين»، وليس «لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ»!!

إن «الذكر» المنزل على رسول الله هو «القرآن»، وهذا القرآن جاء مبينًا لغيره من الكتب السابقة، وكاشفا عما أخفًاه أهلها وحرّفوه منها، وهذا ما بيّنه قوله تعالى في سورة المائدة:

«يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ».

إذن فمن وراء تحريف الكلم عن مواضعه، لتصبح الآية «٤٤» من سورة النحل: «وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ»، دليلا على حجية مرويات «الأحاديث» المنسوبة إلى النبي، التي ألبسها أئمة السلف والخلف لباس «السنة النبوية»، لتأخذ قدسية في قلوب أتباعهم، في الوقت الذي لا يملك فيه أئمة السلف ولا الخلف، كتابا واحدا متفقًا عليه بينهم، يشهد بالبيان النبوي لآيات الذكر الحكيم؟!

إن «البيان»، في السياق القرآني يأتي بمعنى «الإظهار»، وهو عكس الكتمان، نفهم ذلك من قوله تعالى في سورة البقرة:

« إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ـ- إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ».

تدبر قوله تعالى: «مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ»، فالكتاب هو مصدر البيان، وتدبر قوله تعالى: «إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا»، أي «أظهروا» ما أخفوه وكتموه.

ثالثا: ثم يستكمل علماء «مرصد الأزهر» ردهم ويقولون:

«أما الدليل من السنة النبوية على تكفل الله -ـ سبحانه وتعالى ـ- بحفظ سنة نبيه صلى الله عليه وسلم: فقوله صلى الله عليه وسلم: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن عبدا حبشيا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة».

لقد أوصى الرسول المسلمين باتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، ولم يُدوّن الخلفاء الراشدون أصلا «السنة النبوية» في كتاب، وإلا فأين هو؟! فهل يُعقل أن تكون مرويات «السنة النبوية»، أصلا من أصول الدين، تاليا لكتاب الله تعالى، حملت وحيا إليها، يؤخذ منه العقائد والأحكام والأخلاق، ثم لا يهتم الخلفاء الراشدون بتدوينها في كتاب باسم الخلافة الإسلامية، وتحت إشرافها؟!

إنه يستحيل أن يتساوى «من حيث طاعة الرسول ومعصيته»، من عاصروا الرسول وسمعوا منه مباشرة، مع من جاؤوا من بعده، وقال لهم المحدثون، كلٌ حسب الفرقة والمذهب العقدي الذي ينتمي إليه، إن الرسول قال!

لذلك فمن العبث بدين الله تعالى، أن تُوظف الآيات القرآنية التي أمرت بطاعة الرسول واتباعه والاقتداء به والتحاكم إليه، لخدمة توجهات الفرق الإسلامية العقدية والتشريعية، تحت راية العمل بكتاب الله وسنة رسوله.

وللموضوع بقية.

محمد السعيد مشتهري

أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى