نحو إسلام الرسول

(442) 16/4/2016 (عندما تحدث الفتنة بين كُتّاب الوحي)

إن أحداث الفتن الكبرى، التي نقلتها لنا «منظومة التواصل المعرفي»، تجعل الحكيم حيران، لقد قُتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان، عام «٣٥هـ»، بأيدٍ مسلمة، وقتل آلاف الصحابة أنفسهم في موقعة الجمل، عام «٣٦هـ»، وقد فصلنا القول عن هذه الأحداث ونتائجها في عدة مقالات:

١- «عند السلفيين .. اقتل أخاك المسلم وادخل الجنة»
٢- «أهل السنة والجماعة بايعوا عليا حتى خرج عليه معاوية وقاتله .. فبايعوه»!
٣- «الفئة الباغية التي لا نعرف من هي بالضبط؟»
٤- «شبهات مشروعة بشهادة المؤرخين الأوائل»

وتزداد حيرة الحكيم عندما يعلم أن من المشاركين في هذه المعارك من كانوا يكتبون الوحي بين يدي رسول الله، ومنهم من بشرهم الرسول، عليه السلام، بالجنة، حسب ادعاء أئمة السلف!!

أما أن يقول أئمة السلف والخلف: إن انقلاب الصحابة على أعقابهم بعد وفاة النبي، وسفك دماء بعضهم بعضا مع سبق الإصرار والترصد، وارتكاب فظائع الدنيا كلها، لا ينزع عنهم صفة الإسلام، ولا صفة الإيمان، وسيدخلون الجنة «رغم أنف أبي ذر»، طالما أنهم يحملون شهادة الوحدانية..، فهنا تذهب الحيرة، وتذهب الحكمة، ونحن نرى المسلمين يستهزئون بكلام الله وأحكام شريعته.

إن استخفاف المسلمين بحرمة الدماء، وعدم تدبرهم لأحكامها القرآنية، جعل افتراء الكذب على الله ورسوله ما أيسره، وتحريف الكلم عن مواضعه القرآنية ما أسهله، وتوظيف الآيات القرآنية بما يبرر جرائمهم ما أبدعه!!

إن حرمة الدماء في كتاب الله شيء مقدس، مفصل بالدلالة القطعية التي لا شبهة فيها، ولا تحتمل التأويل المذهبي، فالله تعالى ينفي تماما عن المؤمن مجرد التفكير في قتل مؤمن، فإن حدث القتل فلا يكون مطلقا إلا عن طريق الخطأ، فتدبر:

«وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ»، تدبر جيدا «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ»: «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً»، ثم قال بعدها: «وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا، وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا».

تدبر: «وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا»: أي إذا قتل مؤمن مؤمنا متعمدا، فالقاتل «المؤمن» يخرج على الفور من دائرة الإيمان، ويدخل دائرة الكفر: « فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا ».

هذه هي الآية المبينة لحرمة الدماء، الحاكمة على كل المذاهب البشرية، والتوجهات العقدية والتشريعية، وهي ليست آية مجملة جاءت أخرى بتفصيلها، وليست مطلقة جاءت أخرى بتقييدها، وليست عامة جاءت أخرى بتخصيصها!!

أما عن قولهم: إن الله شهد للطائفتين المقتتلتين بالإيمان، ولم ينزع عنهما صفة الإيمان، بل وسماهم مع قتالهم إخوة، وأمر المسلمين بالإصلاح بينهم، وذلك في قوله تعالى: « وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا..»، فقد قمنا بالرد على هذه الشبهة بالتفصيل في مقال بعنوان: «عند السلفيين .. اقتل أخاك المسلم وادخل الجنة».

لقد انقلب صحابة رسول الله على أعقابهم بعد وفاة النبي، ووقعت أحداث الفتن الكبرى، فهل تغير موقف الصحابة من تدبر القرآن، لذلك استحلوا دماء بعضهم بعضا، وارتكبوا فظائع الدنيا كلها، استنادا إلى شهادة الوحدانية التي يحملونها، والتي يدّعي أئمة السلف والخلف أنها طوق النجاة الذي سيخرجهم من جهنم؟!

وإذا كانت القضية تتلخص في أن المؤمنين الذين سفكوا الدماء بغير حق، وارتكبوا كبائر الدنيا كلها، لن يُخلّدوا في النار، وسيخرجون منها إلى الجنة، وذلك بشهادة الوحدانية، فكيف يقبل علماء الجرح والتعديل مرويات أهل الكبائر، ولا يمسوهم بجرح؟!

لقد نجح علي بن أبي طالب، بعد معركة الجمل، في توحيد صفوف الأمصار، باستثناء والي الشام، معاوية بن أبي سفيان، الذي خرج على الجماعة ولم يبايع عليًا، بدعوى أنه لم يقتص من قتلة عثمان، في الوقت الذي لم يأمر فيه معاوية والي الشام جيشه أن يتحرك لفك حصار عثمان وإنقاذه!!

لقد أرسل خليفة المسلمين علي بن أبي طالب إلى معاوية بن أبي سفيان، كتابا يدعوه فيه إلى البيعة، ويُعلمه باجتماع المهاجرين والأنصار على بيعته، فاستشار معاوية عمرو بن العاص ورؤوس أهل الشام في ذلك، فأبوا أن يبايعوا عليا حتى يقتص من قتلة عثمان، وإن لم يفعل قاتلوه!!

لقد ذكر مؤرخو الشيعة، أن مطالبة معاوية بدم عثمان، كان مجرد خدعة مكشوفة، تعاون معه فيها عمرو بن العاص لإثارة الناس ضد علي بن أبي طالب، والحقيقة أن معاوية وعمرو بن العاص كانا أول من خذل عثمان ولم ينصراه عندما استنصرهما في أثناء حصاره!!

وعلى الجانب الآخر يرى مؤرخو السُنّة، أن الثأر لعثمان كان واجبا دينيا مقدسا، خوصوصا أن جيش علي كان يضم عناصر عديدة شاركت في قتل عثمان، فدعا أهل الشام إلى المطالبة بدم عثمان، فبايعوه على ذلك.

ويبدأ علي بن أبي طالب في تجهيز جيشه لمواجهة جيش معاوية، وذكر مؤرخو الشيعة، أن المهاجرين والأنصار الذين شاركوا في جيش معاوية، لم يتجاوزوا أصابع اليد، وذلك لإظهار عدم تأييد الصحابة لمعاوية، ومعارضتهم الشديدة له، وتأييدهم لعلي، الخليفة الشرعي للمسلمين.

وفي شهر ذي الحجة عام «٣٦هـ»، التقى الجيشان في سهل صفين، وكل منهما حريص على حسم الأمور لصالحه، واشتدت المواجهة، وكثر القتلى، وخلّفت المعركة وراءها «خمسة وعشرين ألف قتيل» من جيش العراق، و«خمسة وأربعين ألف قتيل» من جيش الشام، وقيل عدد القتلى من الجيشين تجاوز «مئة ألف»، واستمر القتال إلى الليل، لا يحجز بين الفريقين إلا الصلاة!!

فأي صلاة هذه التي كانوا يقيمونها، وبعد انتهائها يسفكون دماء بعضهم بعضا؟! أي دين هذا الذي يستحل الدماء أياما وليالي، عمدا مع سبق الإصرار والترصد، استجابة لدعوة الشيطان الرجيم؟!

لقد كان عمّار بن ياسر، الذي جاوز الرابعة والتسعين «٩٤» عامًا، والذي أخبره النبي أن «الفئة الباغية» هي التي ستقتله، وحسب هذه الرواية، تصبح «الفئة الباغية» هي جيش معاوية، كان يحارب في صفين، ويُحرض على القتال، ويستنهض الهمم، وقد سمع رجلاً بجواره يقول: «كَفَرَ» أهل الشام، فنهاه عمار عن ذلك وقال: إنما «بغوا» علينا، فنحن نقاتلهم لبغيهم، فإلهنا واحد، ونبينا واحد، وقبلتنا واحدة»!!

والسؤال: ماذا فعل إيمان الصحابة بالإله الواحد، والنبي الواحد، والقبلة الواحدة، والدماء تسفك بغير حق، في الجمل وصفين والنهروان؟!

لقد رأى عمار تقَهْقُر أصحابه وتقدُّم خصومه، فأخذ يستحثهم ويبين لهم أنهم على الحق، وأن جيش معاوية على الباطل، ويقول: «أزفت الجنة وتزينت الحور العين، اليوم ألقى الأحبة، محمّدًا وحزبه، من سره أن تكتنفه الحور العين، فليتقدم بين الصفين محتسبًا».

نعلم أن أهل الحق هم أهل الجنة، وأن أهل الباطل هم أهل جهنم، وعمار بن ياسر يرى أن معاوية وجيشه في جهنم، وأن عليا وجيشه في الجنة، ولكن السؤال:

ما الفرق بين عقيدة الإنتحاريين الذين يؤمنون أنهم سيلتقون بالحور العين فور موتهم، أي أنهم يعلمون مسبقا جزاءهم في الآخرة، وبين الصحابة الذين شاركوا في أحداث الفتن الكبرى، وقد تزينت الحور العين للقاتل والمقتول، وينتظرونهم فور موتهم في الجنة؟!

ثم ماذا سيكون موقف الحور العين من رواية البخاري ومسلم التي تقول: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار»؟!

ووسط آلاف القتلى، ومع نزيف الدم المستمر، ارتفعت نداءات الاستغاثة من كلا الجيشين، واقترح عمرو بن العاص، وكان من كبار قادة جيش معاوية، أن ترفع المصاحف لإيقاف القتال، والتحاكم إلى كتاب الله، وقد قبل معاوية وجيشه اقتراح عمرو، واختاروه ممثلا عنهم في التفاوض مع عليّ، وكتب الطرفان وثيقة التحكيم في الثالث عشر من صفر عام «٣٧هـ».

وأمام الفتن الكبرى، التي بدأت بمقتل خليفة المسلمين الثالث عثمان بن عفان، ثم مأساة الجمل الكبرى، ومصيبة صفين العظمى، وبعد أن أعطى الصحابة ظهورهم لتحذير الله من الانقلاب على الأعقاب بعد موت النبي، وقوله تعالى لهم: «أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ»، علينا أن نتوقف عند عدة مسائل:

أولا: افتراء ووضع «الأحاديث» التي نسبها رواة الفرق الإسلامية المختلفة إلى النبي، لتدعيم مواقفهم في أحداث الفتن الكبرى، وإعطاء هذه الأحداث شرعية نبوية، ومنها:

١- رواية الشيعة التي يأمر النبي عليا »بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين»، و«الناكثون»: هم أهل الجمل، و«القاسطون»: هم أهل الشام، و«المارقون»: هم أهل النهروان، ولقد أعطت مثل هذه الأحاديث غطاءً شرعيًا نبويا لخليفة المسلمين علي بن أبي طالب في مواجهة أعدائه، لتصبح مواجهتهم فرض عين على كل مسلم.

٢- رواية أهل السنة التي أخرجها البخاري عن أَبِي سَعِيدٍ الخدري عن النَّبِيُّ أنه قال: «وَيْحَ عَمَّارٍ، تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ، يَدْعُوهُمْ إِلَى الجَنَّةِ، وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ»

يقول ابن حجر في «فتح الباري»: «فإن قيل: كان قتله بصفين وهو مع علي، والذين قتلوه مع معاوية، وكان معه جماعة من الصحابة، فكيف يجوز عليهم الدعاء إِلى النار؟!

فالجواب: أنهم كانوا ظانّين أنهم يدعون إلى الجنة، وهم مجتهدون لا لوم عليهم في اتباع ظنونهم، فالمراد بالدعاء إلى الجنة الدعاء إلى سببها، وهو طاعة الإمام، وكذلك كان عمار يدعوهم إلى طاعة علي، وهو الإمام الواجب الطاعة إذ ذاك، وكانوا هم يدعون إلى خلاف ذلك، لكنهم معذورون للتأويل الذي ظهر لهم»!!

٣- يقول الحافظ ابن كثير، في «البداية والنهاية»: «وهذا الحديث من دلائل النبوة، حيث أخبر صلوات اللَّه وسلامه عليه عن عمار أنه تقتله الفئة الباغية، وقد قتله أهل الشام في وقعة صفين، وعمار مع عليٍّ وأهل العراق، وقد كان عليّ أحق بالأمر من معاوية».

انظر كيف تُصنّع الروايات وتصبح من دلائل النبوة، ليكون معاوية وجيشه »الفئة الباغية«، في النار، ويكون عليّ وجيشه «الفرقة الناجية»، في الجنة، ثم يأتي ابن تيمية ويمسك العصا من المنتصف، ويقول في الفتاوى:

«فهذا الحديث الصحيح دليل على أن الطائفتين المقتتلتين: عليّ وأصحابه، ومعاوية وأصحابه، على حق، وأن عليّاً وأصحابه كانوا أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه»!!

ماذا يعني أن «عليّاً وأصحابه كانوا أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه«، وقد سفكت دماء عشرات الآلاف من الصحابة في معركة صفين وحدها، عمدا مع سبق الإصرار والترصد، وكانوا يصلون، ويقرؤون القرآن، ولكن: ألم يقرؤوا قوله تعالى: «وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا»؟!

٤- لقد تنازع أهل السُنّة والشيعة حول رواية: «تقتل عمارا الفئة الباغية»، فعمار كان في جيش عليّ، فاعتبر الشيعة التهاون في نصرة عليّ مخالَفَة صريحة لسنة النبي، ومعاوية وأهل السُنّة يعتبرون الشيعة هم الفئة الباغية، لماذا؟! لأنهم جاؤوا بعمار ليقاتل معاوية، فقتله معاوية!!

يقول المجلسي في «بحار الانوار»، وهو من أكبر كتب الحديث عند الشيعة، عن حبة العرني قال: أبصر عبد الله بن عمر رجلين يختصمان في رأس عمار، يقول هذا أنا قتلته ويقول هذا: أنا قتلته، فقال ابن عمر: يختصمان أيهما يدخل النار أولا، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: قاتله وسالبه في النار، فبلغ ذلك معاوية لعنه الله فقال ما نحن قتلناه، قتله من جاء به».

ويعلق الشيخ أبو جعفر بن بابويه فيقول: «يلزمه على هذا أن يكون النبي صلى الله عليه وآله قاتل حمزة رضي الله عنه، وقاتل الشهداء معه، لأنه عليه السلام هو الذي جاء بهم»!!

تذكر أننا ننقل مواقف حدثت في النصف الأول من القرن الأول الهجري، أي قبل ظهور أمهات كتب الفرق والمذاهب المختلفة بقرنين من الزمن، على أقل تقدير!!

ثانيا: افتراء ووضع الأحاديث في «فضائل الصحابة»، والتي ظهرت مع أحداث الفتن الكبرى، ومنها حديث »غدير خم«، الذي يُبيّن دعم النبي الكامل لعلي في صراعه مع خصومه!!

والسؤال: لماذا لم يذكر الطبري السني، «ت٣١٠هـ»، حديث »غدير خم« في تاريخه، في أثناء استعراضه لأحداث الصراع بين علي ومعاوية، مع أنه أثبت صحته، وهو الحديث الذي وردت فيه جملة: «من كنت مولاه فعلي مولاه»؟!

لقد ذكر الطبري حديث »غدير خم« في كتابه: «فضائل علي بن أبي طالب»، وأثبت طرقه، وذلك للرد على تكذيب بعض الأئمة في بغداد لهذا الحديث، وقد أثنى الذهبي «ت٧٤٨هـ» على الطبري لجمعه طرق هذا الحديث قائلا: «جمع طرق (خم) في أربعة أجزاء، رأيت شطره فبهرني سعة رواياته، وجزمت بوقوع ذلك».

إن الطبري لم يصحح حديث «غدير خم» للاحتجاج به على صحة إثبات الخلافة لعلي، كما ذهب إلى ذلك الشيعة، وإنما صححه لبيان فضائل عليّ والرد على منتقديه، لذلك نجده لم يذكر هذا الحديث في كتاب التاريخ، حتى لا يُستخدم كدليل وغطاء شرعي لإثبات عدالة علىّ ومواقفه وتحركاته ضد أعدائه، في الوقت الذي يرى فيه أئمة الشيعة وعلماؤهم، أن هذا الحديث نص صريح في إمامة عليّ وأحقيته بالخلافة من أبي بكر!!

فكم من القرون تفصل بين الذهبي »ت٧٤٨هـ« والطبري »ت٣١٠هـ«، وبين الطبري وعلي بن أبي طالب «ت٤٠هـ»، وبين علىّ ووفاة النبي «ت١١هـ»، وإشكاليات الأحاديث التي نسبها الرواة إلى رسول الله مازالت قائمة بين أئمة السلف، ثم يدعي أئمة الخلف أنها « وحي يوحى »، يكفر من ينكرها!!

ثالثا: لقد حملت وثيقة التحكيم بين عليّ ومعاوية إشكاليات كبيرة، أهمها رفض معاوية وأنصاره، كتابة لقب «أمير المؤمنين» في الوثيقة بجانب اسم عليّ، وذلك لعدم اعترافهم بخلافته أصلا، وقد أبدى عليّ موافقته على محو لقبه، الأمر الذي اعتبره الخوارج تنازلا منه عن الخلافة التي بايعه عامة المسلمين عليها، وأنه بهذا التصرف قد أعطى معاوية الحق في الخروج عليه!!

من هنا بدأت قصة الخوارج، فقد كانوا من أتباع عليّ بن أبي طالب، ثم خرجوا عليه، وهم فرقة من الفرق الإسلامية، بشهادة أمهات كتب الملل والنحل، يعترفون بصحة خلافة أبي بكر وعمر، أما عثمان فخلال السنوات الست الأولى من حكمه، ويعترفون بخلافة علي حتى كتابة وثيقة التحكيم، ثم تبرؤوا منه، واتهموه بالكفر، وطالبوه بالتوبة!!

لقد استحل الخوارج قتل كل مسلم لا يرى رأيهم في عليّ، وفي المحرم عام «٣٨هـ» توجه عليّ لقتالهم في «النهروان»، وظهرت الأحاديث التي تدعم عليا في قتاله الخوارج، ومنها أن الرسول أمره بقتال المارقين، وهم أصحاب النهر، فقال له: «إن قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، طوبى لمن قتلهم وقتلوه».

إن كل الجماعات والتنظيمات الجهادية التي تستحل الدماء بغير حق، والتي تصفها المؤسسات الدينية، ووسائل الإعلام المختلفة، بـ «خوارج العصر»، تستمد أفكارها وشريعتها من أمهات كتب الفرقة التي ينتمون إليها، التي قامت على شريعة الفتن الكبرى، واستحلال الدماء بغير حق، وفتاوى الجهل والتخلف!!

فعلى أي أساس شرعي استحل عبد الرحمن بن ملجم »الخارجي« دم خليفة المسلمين عليّ؟! ولماذا استسلم عليّ للقاتل، فيصبح الخليفة الثاني الذي قُتل بأيدٍ مسلمة؟! فقد استسلم عثمان بن عفان أيضا لقاتله، إيمانا منه بأن الموت قدر لا مفر منه؟!

رابعا: لقد انتشر مذهب «القدرية» بين الصحابة، وكان حاكما على ظروف مقتل الخليفة الثالث عثمان ابن عفان، فاستسلم عثمان للموت، ليفطر مع رسول الله في الجنة، ثم تابعه في المذهب القدري الخليفة الرابع عليّ بن أبي طالب، الذي كان يعلم قبل قتله: من هو القاتل، وأين ستوجه إليه الضربة القاتلة، وموعد قتله!!

لقد رأى عليّ القاتل أمامه ولم يفعل شيئا تجاهه، لماذا؟! لأن النبي أخبره أن ما سيلقاه هو قدر الله الذي لا راد له، فخرج من بيته ينشد أبياتا عن الشجاعة في مواجهة الموت، وبعد أن ضربه ابن ملجم بسيفه صاح قائلا: «فزت ورب الكعبة»!!

ولقد ذكر مؤرخو الشيعة، أن الحادث قدر مقدر كتبه الله على عباده، ولا يمكن لهم مواجهته أو الحيلولة دون وقوعه، لذلك رفض عليّ مواجهة هذا القدر بالقبض على قاتله أو قتله، وقد كان قادرا على ذلك، فهو يعرف القاتل وقابله ووقف معه، بل وعرف موعد طعن القاتل له!!

أما مؤرخو أهل السُنّة فقد تجاهلوا كثيرا من مرويات الشيعة، لإيمانهم بأنها موضوعة على الرسول وعلى عليّ، وهو اعتراف واضح من الفريقين، بأن المرويات التي نسبوها إلى النبي، لا علاقة لها بدين الله الذي أمر اتباعه، فلا يعقل أن يترك الله نصوص مصدر تشريعي واجب الاتباع في أيدي الرواة والمحدثين، وعلماء الجرح والتعديل، يوظفها كلٌ منهم حسب مذهبه العقدي والتشريعي!!

خامسا: بعد أن تولى معاوية بن أبي سفيان الخلافة، سمى العام الذي سيطر فيه أصحاب المذهب «السُنّي» على جميع المذاهب العقدية الأخرى، بعام «الجماعة»، فعملت هذه المذاهب العقدية في الخفاء، حتى ظهرت تكتلاتها في القرنين الثاني والثالث الهجريين، وما بعدهما، وتفرق المسلمون في الدين إلى عشرات المذاهب العقدية والتشريعية، وقد حذرهم الله تعالى من هذا التفرق:

« مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ – مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ »

إن الدارس لتاريخ الفرق والمذاهب الإسلامية يعلم أن انتشار هذه المذاهب، واتباع كل فريق من المسلمين لها، يتوقف على قناعة السلطة الحاكمة بالمذهب، وما تملكه من قوة للدفاع عنه، فقد استطاع مذهب «أهل السنة والجماعة» الانتشار بقوة سلطان الخلافة الحاكمة، وكذلك انتشر المذهب «الشيعي»، ولم تستطع باقي المذاهب العقدية الانتشار لأنها لم تجد قوة السلطان الدافعة لها إلى هذا الانتشار.

إن دماء الفتن الكبرى مازالت تسري في شرايين وقلوب المسلمين إلى يومنا هذا، وهم يصرون على التفرق في الدين، ولم يتعلموا الدرس، فهل ينتظرون عودة الفتن الكبرى، عندما تحكمهم الجماعات والتنظيمات الإرهابية، لينهضوا من سباتهم، ويفيقوا من غيبوبتهم؟!

مجمد السعيد مشتهري

أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى