عندما ننظر إلى المصلين وقت دخولهم وخروجهم من المساجد، في أوقات الصلوات المفروضة، ونراهم يُسرعون للحاق بالجماعة قبل الركوع، حتى لا تفوتهم ركعة، ثم وهم يخرجون سعداء لأنهم قد أدوا ما أمرهم الله به، فإذا نظرنا إلى أحوال هؤلاء في بيوتهم وأعمالهم ومعاملاتهم، وجدنا الانفصال التام بينها وبين ما يقولونه في صلاتهم!!
إن دين الله تعالى ليس مظهرا، وشعائر تعبدية تقام بمعزل عن حياة الناس ومعايشهم، فهذا دين المنافقين، كما أنه ليس عملا فرديا يمارسه الإنسان حسب هواه، وإنما بناء محكم، يجمع ويربط أفراده بشريعة إلهية، تشمل كافة مجالات الحياة.
في «٦-٩-١٩٩٣م»، وفي مقالي الأسبوعي بجريدة الأحرار، وكان عنوانه «حوار العقل»، كتبت عن مفهوم إقامة الصلاة، والعلاقة بينه وبين مفهوم إقامة الدين، في قوله تعالى في سورة الشورى:
« شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ »
إن المسلم يستحيل أن يقيم الدين بمفرده، بمعزل عن فريق عمل متخصص يحقق أهدافه، فالدين بناء له متطلباته ولوازمه، ولذلك حذر الله تعالى من التفرق فيه: «وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ»، لأن التفرق سيهدم قواعده ودعائمه وأركانه.
لقد نزل القرآن يحذر المؤمنين من التفرق في الدين ويحرمه، ويصف المتفرقين في الدين بالمشركين، ويأمر المؤمنين أن يموتوا على الإسلام، فتدبر هذه الآيات:
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ»
«وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ، وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ، فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ، وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ، كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ»
«وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ»
فهل هناك مسلم عاقل يفهم من هذه الآيات أن الله تعالى أنزل الدين الإسلامي ليقيم الفرد بناءه مع نفسه، بمعزل عن أمته المسلمة؟!
وهل إذا تفرقت الأمة المسلمة، وغابت عن الساحة، وذاب أفرادها في متع الدنيا وشهواتها، يصبح هذا مبررا لتتحول شريعة الأمة إلى شريعة الفرد، وبذلك تسقط معظم آيات الشريعة القرآنية؟!
لقد ربط الله تعالى بين تلاوة الكتاب، أي بين قراءته واتباعه، وبين إقامة الصلاة، فقال تعالى:
« اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ ، وَأَقِمِ الصَّلاةَ ، إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ »
إن الله تعالى لم يأمر المسلمين بالصلاة، فلم يقل «صلوا»، وإنما قال: «أقيموا الصلاة»، وذلك بعد أن أمرهم بتلاوة واتباع الكتاب، وهو من البلاغة القرآنية، فالأمر بصيغة «صل» يفهم منه مجرد أداء الصلاة، أما الأمر بصيغة «أقم» فيفهم منه أن المقصود تحقيق الأداء الوظيفي الذي من أجله شرعت الصلاة!!
إن أمة «الصلاة» هي أمة «الصلة» الدائمة بالله، هي أمة «إقامة الدين» وعدم التفرق فيه، هي الأمة التي قال الله تعالى عن أفرادها:
« الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ »
إن التمكين في الأرض ليس تمكينا لكل فرد على حده، واحد في الشرق وآخر في الغرب!!
إن التمكين في الأرض تمكين أمة، أمرها الله تعالى أن تخرج الناس من الظلمات إلى النور، وقال عن أفرادها: « الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ »، لم يجعلوا عبادتهم منفصلة عن حياتهم، ولا عن واقع الناس وأحوالهم.
إن العلاقة وثيقة بين «التمسك بالكتاب» ، و«إقامة الصلاة»، في منظومة «إقامة الدين» وعدم التفرق فيه، هذه المنظومة التي من شأنها أن تقيم «مجتمع الصلاة القائمة»، هذا المجتمع الذي مازلت أجاهد وأنتظر إقامته منذ عام ١٩٩٣م!!
محمد السعيد مشتهري