إن البحث في تاريخ الفرق والمذاهب الإسلامية بحث شاق، يتطلب الاطلاع على أمهات كتب التاريخ للوقوف على ما أجمع عليه المؤرخون من حقائق تاريخية، بعيدا عن المعالجات المذهبية التي حملت روح التفرق والتخاصم والتكفير بين أتباع الفرق المختلفة، حتى أصبح التفرق في الدين هو السمة المميزة للمسلمين، تحميه مؤسساتهم الدينية، وتقاتل في سبيل الدفاع عنه.
عندما ظهرت الفرق والمذاهب الكلامية العقدية، مع بداية القرن الثاني الهجري، كانت هناك مدرستان: «مدرسة الحديث»، وتسمى «مدرسة المدينة»، ومكانها مدينة رسول الله، و«مدرسة الرأي» وتسمى «مدرسة العراق» ومكانها الكوفة.
أولا: ظهرتْ «مدرسة الحديث» في مدينة رسول الله على يد التابعين، كسعيد بن المسيب «ت٩٤هـ»، وعُروة بن الزبير، »ت٩٤هـ«، وغيرهما، واكتملت ملامحها في عصر الإمام مالك بن أنس «ت ١٧٩هـ» إمام دار الهجرة، وأهم هذه الملامح أن يكون الحديث حاكما على الرأي.
لقد كان أصحاب «مدرسة الحديث» يثقون ثقة كبيرة في الأحاديث التي يروونها، وكانوا يقدمون أحاديثهم على أحاديث أهل الشام والعراق، باعتبار أنهم أهل المدينة، المتمسكون بسُنة النبي، ولذلك جعلوا من شروط صحة الحديث موافقته لعمل أهل المدينة.
ولقد اتهم أهل المدينة أهل العراق بوضع الأحاديث، لأنهم يقدمون العقل على النص، حتى قال المحدث الزهري «ت١٢٤هـ»: «يخرج الحديث من عندنا شبراً فيعود في العراق ذراعاً»، لذلك كان مالك يسمي الكوفة: «دار الضرب»، يقصد ضرب الأحاديث، أي صناعتها!!
والسؤال: إذا كان الأمر كذلك، وكانت هذه هي البيئة المذهبية التخاصمية التي انطلقت منها الفرق والمذاهب العقدية في القرن الثاني الهجري، فلماذا لم يخرج من مدينة رسول الله، «كتاب جامع للحديث النبوي»، يكون حجة يُرجع إليه لمعرفة الحديث الصحيح؟!
ثانيا: لقد كان للكوفيين دور رئيسي في نصرة الإمام علِي، واتخاذ الكوفة عاصمة للدولة الإسلامية، ونظرا لانفتاح الحياة الفكرية في العراق، ظهرت المذاهب الكلامية المختلفة، من معتزلة ومرجئة وغيرهما، وكانت تضع الأحاديث لإثبات صحة وحجية مذاهبها!!
وبعد انتقال علي بن أبي طالب إلى الكوفة، وجعلها عاصمة الخلافة، وتولى تعليم أهلها، اكتملت ملامح »مدرسة الرأي«، وساعده في ذلك عبد الله بن مسعود، وسعد ابن أبي وقاص، وعمار بن ياسر، وأبو موسى الأشعري، وأنس بن مالك، وحذيفة بن اليمان، وعمران بن حصين، وكثير من فقهاء الصحابة.
لقد كان عبد الله بن مسعود يعتمد كثيرًا على الرأي والاجتهاد في فتاواه، وكان من تلاميذه عَلْقمة بن قيس النخعي، وعن علقمة أخذ إبراهيم بن يزيد النخعي العلم، وعن إبراهيم أخذ حماد بن أبي سليمان العلم، وعن حماد أخذ أبو حنيفة النعمان العلم، وكان من أشهر أئمة »مدرسة الرأي« في النصف الأول من القرن الثاني الهجري.
يقول ابن خلدون في مقدمته: «وكان الحديث قليلًا في أهل العراق، فاستكثروا من القياس ومهروا فيه، فلذلك قيل (أهل الرأي)، وكان أهل الحجاز أكثر روايةً للحديث من أهل العراق..، والإمام أبو حنيفة إنما قلَّتْ روايته للحديث لما شدد في شروط الرواية والتحمل».
والسؤال: إذا كان الأمر كذلك، ووقف كبار وفقهاء الصحابة بجوار خليفة المسلمين علي بن أبي طالب في الكوفة، يُعلّمون الناس دينهم، فلماذا لم يخرج من العراق، «كتاب جامع للحديث النبوي»، يكون حجة يُرجع إليه لمعرفة الحديث الصحيح؟!
لماذا ظهرت أصح الكتب الجامعة للحديث النبوي، التي يتبعها المسلمون اليوم، في القرنين الثالث والرابع الهجريين، فظهر عند أهل السُنة صحيح البخاري «ت٢٥٦هـ» وظهر عند الشيعة صحيح الكافي «ت٣٢٩هـ»، بعد أن انتشرت المذاهب العقدية التخاصمية التكفيرية بين المسلمين؟!
لماذا لم يظهر «الكتاب الجامع للحديث النبوي» في القرن الأول أو الثاني، إذا كانت هذه الأحاديث حقا «سُنة نبوية» مبينة ومكملة لأحكام القرآن؟! وهل يشفع لأئمة السلف قولهم: إن أئمة القرنين الأول والثاني كانوا أئمة في الفقه وليس في الحديث؟!
ألم يكن كتاب الله في بيوت المسلمين ومساجدهم؟! فأين «الكتاب الجامع للحديث النبوي»، الذي يدّعي أئمة السلف والخلف أنه حمل الوحي الإلهي، والذي من المفترض أن يكون موجودا بعد وفاة النبي مع كتاب الله في بيوت المسلمين ومساجدهم، ليكون حجة ومرجعًا لهم؟!
إنه يستحيل أن يخرج علينا في يوم من الأيام مَن يخبرنا بأن هذا «الكتاب الجامع للحديث النبوي» موجود مع كتاب الله في بيوت المسلمين ومساجدهم، منذ عصر الرسالة وإلى يومنا هذا، لأننا سنسأل: أين هو؟!
فلماذا خدع أئمة الفرق والمذاهب المختلفة المسلمين، وجعلوهم يعيشون في عالم «المرويات»، بدعوى أنها من الدين الإلهي الذي يكفر منكره؟!
إن من أشهر مذاهب أهل السنة مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان «ت١٥٠هـ»، الذي كان يرى أن «الإمامة» ليست أصلا من أصول الإيمان، وكان معاصرا لإمام الشيعة جعفر الصادق «ت١٤٨هـ«، الذي كان يرى أن «الإمامة» أصل من أصول الإيمان، وأن عليًا كان أحق بها بعد وفاة النبي، فلماذا تفرق الإمامان في الدين، ولم يجتمعا على مذهب واحد، هو ما كان عليه النبي وصحبه الذين رضي الله عنهم؟!
تعالوا نلقي نظرة سريعة على هذه البيئة المذهبية التخاصمية التي سبقت عصر تدوين أمهات كتب الفرق والمذاهب المختلفة، في القرنين الثالث والرابع الهجريين، ونضرب المثل بالإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، «ت١٥٠هـ»، الذي انطلقت في وجهه سهام التخاصم والتكفير، واتُهم بمعصية الله ورسوله.
(أولا): لم يرو البخاري «ت٢٥٦هـ»، ومسلم «ت٢٦١ًًهـ» عن أبي حنيفة حديثا واحدًا، بل اعتبره البخاري من الضعفاء المتروكين، وروى في تاريخه الصغير أن سفيان لَمَّا نُعي أبو حنيفة قال:
«الحمد لله، كان ينقض الإسلام عروة، ما وُلد في الإسلام أشأم منه»، وقال في التاريخ الكبير: «كان أبو حنيفة مرجئاً، سكتوا عن رأيه وعن حديثه».
لماذا قال البخاري »ت٢٥٦هـ«، بعد قرن من الزمن عن أبي حنيفة »ت١٥٠هـ«: «سكتوا عن رأيه وعن حديثه»، لأنه كان «مرجئاً»؟!
كما يرى ابن حبان «ت٣٥٤هـ» عدم جواز الاعتماد على روايات أبي حنيفة فيقول: «ومن جهة أخرى لا يجوز الاحتجاج بخبره لأنه كان داعياً لـ «الإرجاء»، والداعية إلى البدع لا يجوز أن يُحتج به عند أئمتنا قاطبة، لا أعلم بينهم خلافاً على أنّ أئمة المسلمين وأهل الورَع في الدين في جميع الأمصار وسائر الأقطار جرّحوه».
فماذا يعني: أن أبا حنيفة كان داعياً لـ «الإرجاء»، وأن الإرجاء بدعة لا يجوز أن يُحتج بصاحبها عند أئمة أهل السُنة قاطبة؟!
يقول ابن منظور، في لسان العرب، مادة «رجا»: «المرجِئة صنف من المسلمين يقولون: الإيمان (قول بلا عمل)، كأنهم قدَّموا القول وأرجؤوا العمل، أي أخّروه، لأنهم يرون أنهم لو لم يصلّوا ولم يصوموا لنَجّاهم إيمانهم».
ويقول ابن عبد البر «ت٤٦٣هـ»، في «الإنتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء»، باب ذكر ما ذُمَّ به أبو حنيفة: «ممن طعن عليه وجرحه أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، فقال في كتابه في الضعفاء والمتروكين: أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، قال نعيم بن حماد: نا يحيى بن سعيد ومعاذ بن معاذ، سمعا سفيان الثوري يقول: قيل: استُتيب أبو حنيفة من الكفر مرتين»!!
ويقول: «كثير من أهل الحديث استجازوا الطعن على أبي حنيفة لردِّه كثيرًا من أخبار الآحاد العدول؛ لأنه كان يذهب في ذلك إلى عرضها على ما اجتمع عليه من الأحاديث ومعاني القرآن، فما شذَّ عن ذلك ردَّه وسمّاه شاذًّا».
إذن فقد كان لأبي حنيفة موقف من الأحاديث عامة، لأن معظمها آحاد!!
ويقول ابن عبد البر بعدها: «وكان مع ذلك أيضًا يقول: الطاعات من الصلاة وغيرها لا يُسمى إيمانًا، وكل مَن قال من أهل السنة: الإيمان قول وعمل، ينكرون قوله ويبدّعونه».
إذن فقد كان لأبي حنيفة موقف من مسألة «الإيمان قول وعمل»، فهو يذهب مذهب «المرجئة»، الذين يقولون إن الإيمان تصديق وقول بلا عمل، وبذلك يخرجون الأعمال من مسمى الإيمان، فمن قال الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فهو مرجئ.
ويقول الشهرستاني «ت٥٤٨هـ» في الملل والنحل عن المرجئة: «يقولون: لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة».
ولا أريد أن أشغل القارئ الكريم بالخلاف القائم بين المحدثين وأصحاب المذاهب الكلامية حول «الإرجاء» وطوائفه المختلفة، وهل الأعمال داخلة في الإيمان أم لا، وهل الإيمان يزيد وينقص، ويكفي أن نعلم أنهم عندما وجدوا أن من أئمة مذاهب أهل السُنة من يعتقدون في «الإرجاء»، قسّموه إلى قسمين: مرجئة أهل السنة، ومرجئة أهل الضلالة، لإخراج أئمة أهل السنة، كأبي حنيفة وتلاميذه، من دائرة الضلال!!
والسؤال: إذا كان أبو حنيفة لم يُتهم بالضلال، فلماذا كل هذا التجريح والعداء، الذي مُلئت به أمهات الكتب، من أئمة وفقهاء المذاهب الأخرى؟!
(ثانيا): روى الخطيب البغدادي، «ت٤٦٣هـ»، في تاريخ بغداد، عن أبي زرعة الرازي «ت٢٦٤هـ»: كان أبو حنيفة جهميا، وكان محمد بن الحسن جهميا، وكان أبو يوسف جهميا، إلى آخر أئمة المذهب الحنفي، وقد ذهب البعض إلى كفر الجهمية بسبب قولهم بخلق القرآن، وكذلك مخالفتهم للسنة في الصفات الإلهية، وغير ذلك أيضاً.
قال ابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله»: قال يحيى بن معين: إن أهل الحديث يُفْرِطون في أبي حنيفة وأصحابه، وبعض الذين انتقدوا أبي حنيفة هم فعلاً أصحاب تعصب مذهبي، فالخطيب البغدادي كان شافعياً متعصباً على الأحناف والحنابلة، كما ذكر ابن عبد الهادي، وقد رد عليه ابن الجوزي الذي لم يكن أقل منه تعصباً وحدّة لمذهب الحنابلة، وكثير من الأقوال التي نقلها الخطيب في ذم أبي حنيفة لا تصح.
و«الجهمية» فرقة كلامية تُنسب إلى جهم بن صفوان، يجعلون لله صفة واحدة وهي صفة الوجود المطلق، ويفسرون أسماء الله الحسنى بمخلوقات منفصلة، فاسم «القوي» اسم لذات خلقها الله للقوة، وهكذا باقي الأسماء عبارة عن دلالات على ذوات منفصلة عن ذات الله تعالى، ويقولون يكفي في الإيمان المعرفة فقط، فإبليس عندهم مؤمن، ولم يكفر لعدم الإيمان، وإنما كفر لمخالفته أمر الله.
فهل شهد النبي وصحبه في عصر الرسالة، هذا التخاصم المذهبي، وهذه المذاهب الكلامية، التي يدّعي أصحابها أنهم متمسكون بكتاب الله وسُنة وسوله؟!
(ثالثا): يقول المحقق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في تعليقه على كتاب «قواعد في علوم الحديث» للمحدث الفقيه ظفر أحمد العثماني: «ولا يخلو كتاب ألف بعد محنة الإمام أحمد (ت٢٤١هـ) في الرجال، من البعد عن الصواب كما لا يخفى على أهل البصيرة، الذين درسوا تلك الكتب بإمعان».
ثم يذكر الشيخ أن تحامل البخاري على أبي حنيفة ثابت لا ريب فيه، وذكر الأدلة على ذلك، ولكن ما سببه؟! يقول الشيخ، نقلا عن المحدث «ظفر»: «إن انحراف البخاري عن أبي حنيفة منشؤه صحبة البخاري لنعيم بن حماد المروزي، وقد كان نعيم شديد التعصب على أبي حنيفة، فتأثر البخاري به».
إن بين البخاري وأبي حنيفة قرن من الزمن، وها هي أزمة التخاصم المذهبي تسري في دماء المسلمين، فيتأثر البخاري بمذهب صحبه نعيم بن حماد، فإذا ذهبنا إلى «الميزان» وما قاله الذهبي في ترجمة نعيم، نجده يقول: قال الأزدي: كان نعيم ممن يضع الحديث في تقوية «السُنة»، وحكايات مزورة في ثلب النعمان أبي حنيفة كلها كذب».
ويدافع الشيخ المحقق عبد الفتاح أبو غدة عن أبي حنيفة، أمام تحامل البخاري عليه فيقول: «هذا يحيى بن معين هو ممن أخذ عن خاصة أصحاب أبي حنيفة، وخالطهم وصاحبهم، فعرفه حق المعرفة بالصحبة الطويلة لهم، وهو شيخ البخاري ومسلم وأبي داود وأحمد بن حنبل وأبي حاتم وهو إمام الجرح والتعديل بالاتفاق».
ويقول: «هذا الإمام هو الذي يزكي أبا حنيفة ويوثقه في الحديث، ويثني على حفظه فيقول: لا يحدث إلا بما يحفظه، ولا يحدث بما لا يحفظ، ويقول أيضا: ما سمعت أحدًا ضعفه، فابن معين أدرى بأبي حنيفة، وأعلم به من غيره، لقربه منه زمانًا ومكانًا، ولكثرة مخالطته لأصحاب أبي حنيفة وأخذه عنهم، فقول ابن معين في توثيق أبي حنيفة هو المتبع، لا قول البخاري أو من تابعه، ممن ولد بعد وفاة أبي حنيفة بدهر أو دهور، ونقل له عنه نقل مشوه، أو داخله تعصب عليه».
ثم انظر ماذا قال بعدها: «فإذا تكلم يحيى بن معين سكت مثل البخاري ومسلم والنسائي وابن عدي، والدارقطني ومن دونهم، سكت كل هؤلاء مسلمين له، وقد شهدوا له بتفرده بمعرفة الرجال عامة وأذعنوا لإمامته بذلك».
وينقل الشيخ شهادة علي بن المديني، وهو شيخ البخاري، في توثيق أبي حنيفة فيقول: «فمثل هذا الإمام إذا وثق أبا حنيفة وهو بعهده أقرب، وبزمنه وسيرته أعرف وجرحه البخاري، وعلى فرض خلو جرح البخاري من الدوافع والمؤثرات، من دافع تعصب أو نقل مدخول أو اختلاف مذهب، إذ أبو حنيفة فقيه ومن (أهل الرأي)، والبخاري محدث، لا يحتمل التوسع في الرأي».
ثم يأتي إلى بيان «الإشكال العقدي» الذي كان بين أبي حنيفة والبخاري فيقول: «وأبو حنيفة لا يرى أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، والبخاري يرى أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، فتوثيق شيخه علي بن المديني مقدم بلا ريب على جرح تلميذه البخاري».
(رابعا): لقد أعلن أبو حنيفة عن موقفه من الأحاديث، المنسوبة إلى النبي، فقال في «العالم والمتعلم»، قال الله عز وجل: « وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ، لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ».
« ونبي الله لا يخالف كتاب الله تعالى، ومخالف كتاب الله لا يكون نبي الله، فرد كل رجل يُحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف القرآن ليس ردًّا على النبي، ولا تكذيبًا له، ولكنه رد على من يُحدث عن النبي، صلى الله عليه وسلم، بالباطل والتهمة دخلت عليه، ليس على نبي الله ».
ولقد بيّن البزدوي، في أصوله، وجهة نظر الأحناف في حكم الحديث المخالف للكتاب، فيقول بعد أن ذكر أنه منقطع انقطاعات باطنية:
«إن الكتاب ثابت بيقين، فلا يترك بما فيه شبهة «يعني بخبر الآحاد»، ويستوي في ذلك الخاص والعام، والنص والظاهر، حتى إن العام من الكتاب لا يخص بخبر الواحد عندنا، خلافًا للشافعي، رحمه الله، ولا يزاد على الكتاب بخبر الواحد عندنا، ولا يترك الظاهر له من الكتاب، ولا ينسخ بخبر الواحد وإن كان نصًّا؛ لأن المتن أصل، والمعنى فرع له، والمتن من الكتاب فوق المتن من السُنة، لثبوته ثبوتًا بلا شبهة فيه، فوجب الترجيح به قبل المصير إلى المعنى».
لقد كان منهج أبي حنيفة في التعامل مع مرويات الرواة، أنه يشترط لصحتها شروطًا لم يوافقه عليها المحدثون الذين ظهروا بعده بقرن من الزمن، ولذلك عندما ترك الإمام مالك «ت ١٧٩هـ» الذي كان معاصرا لأبي حنيفة، العمل بحديث «البيعان بالخيار»، لرأي واجتهاد راجح عنده، ظهر من يقول: يُستتاب مالك، فإن تاب وإلا ضربت عنقه!!
يقول أحمد بن حنبل «ت٢٤١هـ» في «العلل»: بلغ ابن أبي ذئب (المحدث المدني) أن مالكا لم يأخذ بحديث «البيعان بالخيار» فقال: يستتاب، فإن تاب، وإلا ضربت عنقه»!! ثم انظر ماذا قال أحمد بن حنبل عن ابن أبي ذئب، الذي استباح الدماء بغير حق، قال: «هو أورَع وأقوَل بالحق من مالك»!!
هكذا كانت الدماء تباح وتسفك بغير حق، بسبب ترك العمل بحديث ظني الثبوت عن الرواة «وليس عن النبي»، وكان لإمام المذهب حجته في ترك العمل به!!
لقد تخرّج داعش والجماعات والمنظمات الإرهابية من بطون أمهات كتب التراث الديني، التي حملت هذه المذاهب العقدية الكلامية السابق بيانها، برعاية وحماية المؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية، فهل نحارب المذاهب الفكرية التي تنتج الإرهاب، أم نحارب فقط الإرهابيين الذين يتكاثرون يوما بعد يوم في كل مكان؟!
ولذلك لم تجرؤ المؤسسات الدينية على تكفير هؤلاء المفسدين في الأرض، لأنها تنتمي إلى مذهب من هذه المذاهب الكلامية، التي ما أنزل الله بها من سلطان، يرى أن هؤلاء المفسدين في الأرض، مؤمنون، يشهدون ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وسيدخلون الجنة، مع أصرارهم على ارتكاب الكبائر، وفظائع الدنيا كلها!!
إن أئمة السلف والخلف يخالفون كتاب الله، الذي يقول مخاطبا المؤمنين الذين يشهدون ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله:
«وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا»
والذين يدّعون أن الخلود في جهنم لا يعني التأبيد، لأنه لو أراد التأبيد لجاء بالصيغة الدالة على ذلك، وهي كلمة «أَبَدًا»، هؤلاء أقول لهم:
إن مفهوم الخلود في جهنم يعني الإقامة فيها على وجه التأبيد، سواء أضيفت إليه كلمة «أَبَدًا»، للتأكيد على استحالة الخروج منها، أم لم تضَف، ذلك أن الله تعالى يقول في سورة الجن، مبينا القانون العام للجزاء في الآخرة:
« وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً »
محمد السعيد مشتهري