نحو إسلام الرسول

(435) 28/3/2016 (هل كان الغزالي منكرا للسنة، مزدريًا للدين الإسلامي؟)

في فصل بعنوان « في عالم المرويات »، من كتابه «الطريق من هنا»، قال الشيخ محمد الغزالي:

«ولأترك ما قاله صاحب إظهار الحق، ولأعد إلى حوار الباقلاني مع ملك الروم! إنني لو كنت مكان الرجل، وسألني هذا القيصر عن «انشقاق القمر» لقلت له كلاما آخر، لقلت له:

أيها الإمبراطور الكبير إن سلفا عظيما سبقك في حكم الرومان، جاءه كتاب من رسولنا يقول له فيه: «أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين»، ثم يختم كتابه بقوله تعالي:

«يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ».

أيها الإمبراطور، إن نبينا عندما كاتب سلفك، لم يذكر له خارقة من خوارق العادات التي عرضت له، وإنما خاطب عقله، واستثار أنبل ما في نفسه، وذكر له أنه باق على إسلامه هو لله، إن أبى الإمبراطور متابعته على ما جاء به، وأشهده على ذلك، فإن رفض ملك الروم هذه الإجابة مني قلت له:

إن شرحت صدرًا بعقيدة التوحيد، ورفضت من الناحية التاريخية انشقاق القمر، وتوقف الشمس، فأنت مسلم مقبول الإيمان، ولا يصدنك عن دين الله خبر راو من الرواة حفظ أم نسي، واعلم أن من مفكري المسلمين ومفسري دينهم من اعتبر الانشقاق من أشراط الساعة، وأن من المتكلمين من توقف في أخبار الآحاد، كما قال إبراهيم النظام: «إن القمر لا ينشق لابن مسعود وحده»، وابن مسعود هو الذي روي عنه الحديث المذكور.

ربما قال لي قائل: كيف تتهاون في حديث صحيح على هذا النحو؟!

وأجيب: إن رد حديث بالهوى المجرد مسلك لا يليق بعالم، وقد رد أئمتنا الأولون أحاديث صحاحًا لأنها خالفت ما هو أقوي منها عقلا ونقلا، وبذلك فقدت مقومات صحتها، ومضى الإسلام بمعالمه ودعائمه لا يقفه شيء!!

وقد قلت: إنني لا أربط مستقبل ديننا بحديث آحاد يفيد العلم المظنون، وأزيد الموضوع بيانا فأقول:

إنني أومن بخوارق العادات، وأصدق وقوعها من المسلم والكافر والبر والفاجر، وأعلم أن قانون السببية قد يحكمنا نحن البشر، بيد أنه لا يحكم واضعه تبارك وتعالى!!

وعندما قرأت حديث الانشقاق شرعت أفكر بعمق في موقف المشركين، إنهم انصرفوا مكذبين إلى بيوتهم ورحالهم بعدما رأوا القمر فلقتين عن يمين الجبل وشماله وقالوا: سحرنا محمد، ومضوا آمنين سالمين لا عقاب ولا عتاب، قلت: كيف هذا؟!

في سورة الأنبياء يحكي الله سبحانه سر كفر المشركين بنبيهم محددين مطلبهم منه:

« بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ »

ويحكي القرآن لماذا لم يجابوا إلى طلبهم، يقول الله تعالى في سورة الأنبياء:

«مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا، أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ»؟!

إن التكذيب بعد وقوع الخارق المطلوب يوجب هلاك المكذبين، فكيف يترك هؤلاء المكّيون بدون توبيخ ولا عقوبة، بعد احتقارهم لانشقاق القمر؟! ويؤكد القرآن الكريم هذا المنطق في سورة الإسراء:

«وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ، وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا، وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا».

فإذا كان إرسال الآيات ممتنعا لتكذيب الأولين بها، فكيف وقع الانشقاق؟! بل كيف يقع أو يقع غيره، والله يقول في سورة الحجر:

« وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ ».

ثم إن المشركين في مواطن أخرى ألحوا في طلب الخوارق الحسية كقوله في سورة الأنعام:

«وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا، قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ، وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ»

فلماذا لم يقل لهم: سبق أن انشق لكم القمر فكذبتم؟! أيمر هذا الحدث ليعقبه صمت تام؟!

وفي سورة أخرى قيل للكافرين وهم ينشدون المعجزات الحسية: حسبكم القرآن، فيه مقنع لمن نشد الحق، كقوله في سورة العنكبوت:

«وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ، قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ. أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ».

إن مئات الآيات، في سور كثيرة طوال العهد المكي، دارت في إثبات الرسالة على محور إيقاظ العقل وتعريفه بربه، واعتبار صاحب هذا الوحي إمام السائرين إلى الله المعتصمين بحبله، وتجاوزت مقترحات الكفار أن يروا آية مادية معجزة.

من أجل ذلك لم أقف طويلا عند حديث الانشقاق وأبيت بقوة أن أربط مستقبل الدعوة به أو بغيره من أحاديث الآحاد التي تصطدم بأدلة أقوى منها، ولست بدعا في هذا المسلك فأبو حنيفة ومالك ردوا أحاديث من هذا الطراز عارضها من دلالات القرآن ما هو أقوى منها.

إننا لا ننكر الخوارق من حيث هي، وإنما نناقش الأسانيد التي جاءت بها، ونوازن بين دليل ودليل، وإيماننا بالخوارق هو الذي جعلنا نحن المسلمين نصدق بميلاد عيسى من غير أب، فالقرآن قاطع في هذه القضية، وإذا ثبت قول الله فلا كلام لأحد» اهـ.

وقال الشيخ: «لقد رأيت الأمة الإسلامية محكومة بجملة من الأحاديث المتروكة والمنكرة والشاذة، ورأيت هذه الأحاديث تطرد أمامها المتواتر والمشهور والصحيح، كما تطرد العملة المزيفة العملة الصحيحة، ولا أدري كيف استطاعت هذه الأحاديث تنويم حملتها!!

ولا أزال أعجب كيف أن رجلا من أساطين المحدثين كابن حجر يعترف بحديث الغرانيق وهو أكذوبة غليظة وإن كان يضعفه، لكنه يري له أصلا!! أيُ أصل غفر الله لك؟!

وكذلك فعل مع حديث «أفعمياوان أنتما؟!»، مع أن الروايات الصحيحة في البخاري ومسلم ترده، وتجعله حديثا لا وزن له!!

ورأيت ابن كثير يروي حديثا أن سورة الأحزاب كانت في طول سورة البقرة، وأن النسخ عرض لأكثرها فبقي منها ما بين أيدينا!! قلت أيُنزّل الله وحيا في نحو ثلاثين صفحة، ثم يمحو منه ثلاثا وعشرين أو أربعا وعشرين صفحة، ويدع الباقي؟!

إذا لم يكن هذا الكلام علة تقدح في الحديث فما تكون العلل القادحة؟! هذا حديث لا يساوي المداد الذي كُتب به» اهـ.

وفي خطبة عن «السُنة النبوية»، بمناسبة المولد النبوي، قال الشيخ: «انفرد الإمام الشافعي وحده على أن قراءة الفاتحة في الصلاة فريضة، و حديث «لا يقتل مسلم بكافر» حديث صحيح، لكن الأحناف ردوه، قالوا: إن الله يقول: «وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس، وبعدها قال: «وأن احكم بينهم بما أنزل الله»، ومعنى النفس بالنفس: أن المسلم إذا قتل كافرا قتل به، ورفضوا الحديث مع صحته.

وقال الشيخ: يرى الإمام مالك أن عمل أهل المدينة مقدم على حديث الآحاد ولنضرب مثالا:

روى العلماء الرواة في صحيحهم أن قبل المغرب ركعتين سنة لمن شاء، لكن الإمام مالك بنى مذهبه على كراهية ركعتين قبل المغرب، لماذا؟!

قال: أهل المدينة أعرف بسنة رسول الله وألصق بحياته وأدرى بما فعل، ولقد عاهدتهم مطبقين على أنه لا ركعتين قبل المغرب، وبنى سنته ومذهبه على هذا، ليكن هو حر، غيره رأى أنه تقبل ركعتان قبل المغرب ولا حرج!!

وقال الشيخ: من الأحاديث التي ردها الأحناف والمالكية معا حديث الرضاع، وهو حديث رواه مسلم في صحيحه: «كان مما نزل عشر رضعات يحرمن نسخن بخمس يحرمن ثم مات الرسول وهن مما يقرأ من القرآن»، رفض الأحناف والمالكية الحديث رفضا باتا، وبنوا أحكامهم على غير ذلك، ولهم الحق.

وقال الشيخ: لما روي حديث «دنا الجبار فتدلى»، رفض العلماء جميعا هذا الحديث مع أنه صحيح في روايته، وقالوا إن الذي دنى فتدلى هو جبريل، وأوهم الراوي!!

ثم تدبر ماذا قال بعدها: «لا يعطل نص قرآني بتاتا لحديث ورد أبدا».

وقال الشيخ: «إن الأمة الإسلامية اليوم تتعرض من بعض دعاتها وعلمائها، الذين أخذوا مواقعهم على قمة الدعوة الشعبية الجماهيرية، لنوع من التسكع الفكري، وفوضى الثقافة الإسلامية، والضحية في ذلك هي الأمة، الأمة التي شغلها علماؤها بالمسائل الفرعية التافهة، وعمقوا في صفوفها الخلاف والفرقة والتشرد.

ما ذنب رجل الشارع أن نشغله بالمسائل التخصصية الفقهية التي لا يعلمها ولن يفهمها إلا أهل الاختصاص؟! لو أن مسلما مات ولم يقرأ شيئا من الكتب إلا كتاب الله تعالى، وعمل بما فيه، ما سأله الله تعالى عن عدم قراءته لصحيحي البخاري ومسلم!!

وعن مسألة الإجماع قال الشيخ: «فالإجماع الذي هو حجة، على ما قيل فيه، هو اتفاق جميع المجتهدين على حكم شرعي، ولم يقل أحد إنه اتفاق الأكثرية أو الجمهور، فالأمر ليس أمر تصويت بالعدد!! صحيح أن لرأي الجمهور وزنا يجعلنا نمعن النظر فيما خالفه، ولا نخرج عنه إلا لاعتبارات أقوي منه، ولكنه ليس معصوما على كل حال!!

كم من صحابي انفرد عن سائر الصحابة برأي لم يوافق عليه سائرهم ولا يضره ذلك، وكم من فقهاء التابعين من كان له رأى خالفه آراء الآخرين، ولم يسقط ذلك قوله، فالمدار على الحجة لا على الكثرة، وكم من الأئمة الأربعة من انفرد عن الثلاثة بآراء وأقوال مضى عليها أتباع مذهبه مؤيدين ومصححين.

والمذاهب الأربعة، على مالها من اعتبار وتقدير لدى جمهور الأمة، ليست حجة في دين الله، إنما الحجة ما تستند إليه من أدلة شرعية منقولة أو معقولة، وما يقال عن بعض الآراء: إنها شاذة أو مهجورة أو ضعيفة، فهذا لا يؤخذ على إطلاقه وعمومه، فكم من رأى مهجور أصبح مشهورا، وكم من قول ضعيف في عصر جاء من قواه ونصره، وكم من قول شاذ في وقت هيأ الله له من عرف به وصححه، وأقام عليه الأدلة حتى غدا هو عمدة الفتوى» اهـ.

وفي مُدارسة بعنوان «كيف نتعامل مع القرآن»، وعن مقابلة تمت بينه وبين الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، وهو من علماء الحديث، قال له: أريد أن أعرف منك حكاية قرأتها، وبحاجة لأن أعرفها، الذهبي عندما مر بحديث «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب»، والحديث رواه البخاري في كتاب الرقاق باب التواضع، قال: لولا جلالة الحافظ أبي عبد الله البخاري، النفس فيها شئ من هذا الحديث، لكني لا أكذبه!!

فالذهبي لا يريد أن يقول إن في الحديث كلامًا، لكن هناك مَن قال: إن في رواة البخاري كلاما، وذكرت له فلانا وفلانا، ونفس الأسماء التي وردت في كتاب المغاربة، فسكت قليلا ثم قال: هذه الأسماء أثيرت حولها شكوك لكن تجاوزوها، وليس لها قيمة، قلت له: لماذا؟ إذا كان هناك شخص متهم بالوضع؟!

وفي رأيي أن الكلام في بعض رجال الصحيحين له أصل، والذين رفضوا بعض أحاديث في البخاري أو مسلم لهم عذرهم، كل القراء تقريبا وكل المصاحف تقول: إن المعوذتين سورتان مكيتان، وكلام البخاري يفيد أن المعوذتين مدنيتان ومن آخر ما نزل» اهـ.

وعن إعمال العقل فيما ورثته الأمة من «مرويات»، يقول الشيخ في كتابه: «تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل»، تحت عنوان «ينهون عن التقليد ويقلدون»، عن قضية رمي الجمار في الحج:

«وقد اختلف الفقهاء في حكم الرمي نفسه كما في الفتح: فالجمهور على أنه واجب يجبر تركه بدم، وعند المالكية أنه سنة مؤكدة، وعندهم رواية أن رمي جمرة العقبة ركن يبطل الحج بتركه، ومقابله قول بعضهم: إنما شرع الرمي حفظا للتكبير، فإن تركه وكبر أجزأه، حكاه ابن جرير عن عائشة وغيرها.

ويقول بعض الإخوة: إن الرأي الذي ينفرد به فقيه أو اثنان خلافا لجمهور الأمة يجب ألا يعتد به ولا يعول عليه، وقال غيرهم: إن ما خالف المذاهب الأربعة التي تلقتها الأمة بالقبول، يجب أن يرفض ولا يقام له اعتبار، والحق أن هذا كله لا يقوم عليه دليل من كتاب أو سنة» اهـ.

وفي نفس الكتاب، وتحت عنوان «المفسرون أخطاء وخطايا»، يقول الشيخ: «القرآن الكريم أصدق ما بقي على ظهر الأرض من مواريث السماء، إن اليقين يحف كلماته حرفا حرفا، وتم الوعد الإلهي بحفظه، فهو مذ نزل إلى اليوم مصون، يقول تعالى في سورة الحجر: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ».
وكان يجب على مفسري القرآن بالأثر أن يتجاوبوا مع هذه الحقيقة، وأن يجنبوا تفاسيرهم كل ما فيه ريبة، وأن يلتزموا بما وضعه الأولون من شروط الصحة والقبول، فإن هذه الشروط جديرة بالاحترام كله.

إذا خالف الثقة من هو أوثق منه عددنا حديثه شاذًا ورفضناه، فإذا كان المخالف ضعيفًا وروى مالا يعرفه الثقات فحديثه منكر أو متروك، فلماذا يكثر في التفسير الأثري الشاذ والمتروك والمنكر؟!

بل كيف تروى حكايات هي السخف بعينه، يطبق المسلمون على إنكارها واستبعادها ومع ذلك تبقى مكتوبة يقرها ضعاف العقول فيضطربون لها؟!

انظر ما كتبه الخازن تفسيرا لقوله تعالى في سورة النساء: «

« لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا »

قال: اختلف العلماء في وجه نصبه، فحكي عن عائشة وأبان عن عثمان أنه غلط من الكتاب ينبغي أن يكتب «والمقيمون»، قال عثمان: إن في المصحف لحنا ستقيمه العرب بألسنتهم، فقيل له: أفلا تغيره؟! قال: دعوه، فإنه لا يحل حراما ولا يحرم حلالا!!

وذهب عامة الصحابة وسائر العلماء ومن بعدهم إلى أنه لفظ صحيح ليس فيه خطأ من كاتب ولا غيره، وأجيب عما روي عن عائشة وعثمان وأبان بأن هذا بعيد جدًا، لأن الذين جمعوا القرآن هم أهل اللغة والفصاحة، فكيف يتركون في كتاب الله لحنا يصلحه غيرهم؟! لا ينبغي أن ينسب هذا إليهم!!

وقال ابن الأنباري: ما روي عن عثمان لا يصح لأنه غير متصل، لنفرض أن السند متصل فما قيمته مع متن فاسد؟! إن الذين ينحصرون في السند ويعمون عن المتن لا ثقة بهم، طعن في السند، ومحال أن يؤخر عثمان شيئا فاسدا ليصلحه غيره، ولأن القرآن منقول بالتواتر فكيف يمكن وجود اللحن فيه؟!

قد يقال: إن تفسير الحازن مشحون بالترهات والإسرائيليات، وإن الثقة به مهتزة، ووقوع هذه الهنات فيه، وإن كان مستهجنا، لا يجوز أن يكون مثار شكوى عامة!!

أقول: هذا صحيح، لكن تسلل ذلك السخف إلى تفسير محترم كالقرطبي يسوغ غضبي، إن الخرافة انتقلت من الشام إلى الأندلس بسهولة، وإن كان المفسر الكبير قد أثبتها ثم عقب عليها بقول القشيري: هذا مسلك باطل، لأن الذين جمعوا الكتاب كانوا قدوة في اللغة فلا يظن بهم أنهم يدرجون في القرآن ما لم ينزل!!

وليت القرطبي ما ذكر ولا نكر، لعل ازدراءه للقضية كلها جعله يكتفي بهذا الرد الخافت، وإلا فهو يدري أن النقل الشفوي المتواتر هو أساس ثبوت القرآن، وأن الكتابة أداة تسجيل وحسب، وأن الحفاظ عن ظهر قلب كانوا جيشا كثيف العدد وأن الحكايات المتلصصة حول هذه الحقيقة لا تساوي قلامة ظفر، ولو نقلت في بعض كتب النوادر!!

وهناك رواية لأحمد في مسنده نقلها ابن كثير في تفسيره وهو مصدر من مصادر التفسير الأثرى، جاء فيها عن زرّ، قال لى أبي بن كعب: كأين تقرأ سورة الأحزاب؟! أو كأين تعدها؟! قلت: ثلاثًا وسبعين آية! فقال: قط لقد رأيتها وأنها لتعادل سورة البقرة…. إلخ.

وهذا كلام سقيم، فإن الله لا ينزل وحيًا يملأ أربعين صفحة ثم ينسخه أو يحذف منه أربعًا وثلاثين ويستبقي ست صفحات وحسب، وهذا هزل ما كان ليروى، والمسند قد ترى فيه الأحاديث الواهية والموضوعات المرفوضة!!

وأنبه إلى أن ما يتصل بالقرآن لا يتحمل هذه الحكايات المنكرة، وفي المسند حديث عن الأحرف السبعة يثير الضحك، وقد رفضته الجماهير بداهة، ومع ذلك فإن النووي في شرحه لصحيح مسلم ذكر أن من الحروف السبعة أن تضع حكيما عليما مكان سميعا بصيرا ما لم تضع آية رحمة مكان آية عذاب!!

وهذه حكاية في غاية الغثاثة وما كان يجوز أن تذكر أو تنقل لكذبها، على أن هذه الموضوعات كلها تلاشت أمام حشود التواتر التي أحاطت بالوحي الخاتم، وتجاوزها العلماء بازدراء، وما عرضنا لها إلا لنلفت النظر إلى متحدثين في الإسلام بضاعتهم النقل الذي لا وعي معه، وحبذا لو ألف الأزهر لجانا علمية لتنقية التفاسير من أمثال هذه القمامات الفكرية فهي بإجماع المسلمين مرفوضة!!

هذه بعض المقتطفات، من المدرسة الفكرية للشيخ محمد الغزالي، وألفت النظر إلى قوله:

«لو أن مسلمًا مات ولم يقرأ شيئًا من الكتب إلا كتاب الله تعالى، وعمل بما فيه، ما سأله الله تعالى عن عدم قراءته لصحيحي البخاري ومسلم»

وإلى قوله: «وحبذا لو ألف الأزهر لجانًا علمية لتنقية التفاسير من أمثال هذه القمامات الفكرية فهي بإجماع المسلمين مرفوضة»

وإذا كانت «القمامة»، تعني في اللسان العربي «الكناسة»، كما ذكر ابن منظور في اللسان:

«وقمامة البيت ما كسح منه فألقي بعضه على بعض، يقال: قم بيته يقمه قما إذا كنسه»

فإن السؤال:

هل لو كان الشيخ محمد الغزالي حيًا، كان من الممكن اتهامه بازدراء الدين الإسلامي ووضع في السجن، لأنه وصف الباطل الذي حمله التراث الديني بـ «القمامات الفكرية» وكتابه الذي حمل هذا الازدراء، موجود بين أيدي الناس منذ عام ١٩٩٢م؟!

محمد السعيد مشتهري

أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى