لقد أصبح للفكر الإسلامي، المنتشر على صفحات التواصل الاجتماعي، وله آلاف المعجبين مدرستان:
الأولى: مدرسة «سلفية»، تفهم القرآن وتستنبط أحكامه، من خلال التراث الديني للمذهب العقدي والتشريعي الذي تنتمي إليه، وما حمله من مرويات منسوبة إلى النبي وصحابته والتابعين.
الثانية: مدرسة «قرآنية»، تفهم القرآن وتستنبط أحكامه، من خلال النص القرآني ذاته، دون الاستعانة بأي مصدر معرفي من خارج القرآن.
أما المدرسة «السلفية»، فكانت منطقية مع نفسها، فقد أوهمت التابعين المقلدين لها بغير علم، أن تراثها الديني ومروياته، هو ما كان عليه النبي وصحبه، فصدّق التابعون المتبوعين من أئمة السلف والخلف، واتبعوهم.
ولقد استند هذا التصديق وهذا الاتباع، إلى ما رآه التابعون بأعينهم، من منظومة علمية تراثية تُسمى بـ «أمهات الكتب»، حملتها المكتبة الإسلامية عبر آلاف السنين، وكانت سببا في انتشار هذه المذاهب السلفية بين الناس في العالم أجمع.
أما المدرسة «القرآنية»، فلم تكن منطقية مع نفسها، ولا مع التابعين المقلدين لها بغير علم، لأنها نشأت كرد فعل لانتشار المذاهب السلفية، فجعلت جل همها هدم التراث الديني السلفي أو المطالبة بتنقيته وتجديده.
لم تكن للمدرسة «القرآنية» منهجية علمية تقوم عليها منظومة «تدبر القرآن»، حملتها المكتبة الإسلامية من آلاف السنين، جيلا بعد جيل، إلا ما ندر من كتب خلط فيها أئمة السلف الحق بالباطل!!
لقد ظن أصحاب المدرسة «القرآنية»، أن القرآن يمكن أن يُفهم وتستنبط أحكامه بالتعامل مع ذات النص مباشرة، دون الاستعانة بأي منهجية علمية، ولا بأي مصدر معرفي من خارجه، بدعوى أن الله يسر القرآن للذكر، فلسنا في حاجة إلى منهجية علمية، ولا إلى منظومة معرفية، لمعرفة دلالات كلماته، واستنباط أحكامه.
وبسبب هذه العشوائية الفكرية، خرج علينا أصحاب المدرسة «القرآنية» بأحكام وفتاوى يستحيل استنباطها من القرآن، بل ولم تجرؤ المدرسة «السلفية» في يوم من الأيام أن تستنبط ما استنبطه «أهل القرآن» من أحكام وفتاوى خارج حدود المنظومة المعرفية القرآنية، وقد ضربنا عشرات الأمثلة على ذلك، في مقالات ومنشورات موجودة على هذه الصفحة.
وأزيد الأمر بيانا فأقول:
يعتقد كثير من المسلمين، أن عصاة المسلمين وأصحاب الكبائر، الذين ماتوا مصرّين على معصية ربهم ولم يتوبوا، سيدخلون الجنة بشهادة الوحدانية التي ورثوها عن آبائهم، بعد أن ينالوا جزاءهم في جهنم، استنادا إلى أن الخلود الأبدي في جهنم، «خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا» لا يكون إلا للكافرين.
أما المسلمون الموحدون فخلودهم في جهنم ليس على التأبيد، لقوله تعالى في سورة النساء مخاطبا عصاة المؤمنين: «وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا»، ولم يقل «أَبَدًا».
ولغياب المنهجية العلمية عن هؤلاء في تدبر القرآن، وعدم درايتهم بعلم السياق، ولا بعلم البيان، بدعوى أن الله يسر القرآن للذكر بدون كل هذه العلوم، غاب عنهم القانون العام الحاكم للجزاء في الآخرة، وهو قوله تعالى في سورة الجن:
«وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا»
هنا نلاحظ أن المعصية في الآيتين واحدة: «وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ»، فلماذا أضاف في آية سورة الجن التأبيد إلى الخلود: «خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا»، ولم يضفه في آية سورة النساء: «خَالِدًا فِيهَا»؟!
قالت المدرسة «السلفية»، وتابعها في ذلك بعض أصحاب المدرسة «القرآنية»، إن آية سورة النساء جاءت تخاطب عصاة المؤمنين، الذين لا يلتزمون بأحكام الشريعة، ومن هذه الأحكام «المواريث» لذلك جاء خلودهم في جهنم من غير ذكر التأبيد: «خَالِدًا فِيهَا»!!
أما آية سورة الجن، فجاءت في سياق يخاطب الناس جميعا يأمرهم بالوحدانية:
قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا. قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً. قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنْ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً. إِلاَّ بَلاغاً مِنْ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً.
وعلى هذا الأساس اعتبروا أن المعصية في هذا السياق تتعلق بـ «ملة الوحدانية»، لذلك جاء ذكر الخلود مع التأبيد: « جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً »
أما جزاء المعصية المتعلقة بـ «أحكام الشريعة»، فخلود فقط لا تأبيد فيه: «خَالِدًا فِيهَا»، وعلى هذا الأساس قالوا: إن عصاة المؤمنين وأهل الكبائر، سيخرجون حتما من النار، بعد أن يمكثوا فيها فترة، ثم يدخلون الجنة!!
فإذا اتبعنا المنهج العلمي في تدبر القرآن، من خلال علم السياق، وعلم البيان، نجد أن الله تعالى يقول في سورة الأعراف، الآيات «٣٥-٣٦»:
«يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنْ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.
لقد بيّن سياق الآيات القانون العام للجزاء في الآخرة، فقال: «يَا بَنِي آدَمَ»، كما بيّن أن موضوع المعصية هو التكذيب بـ «آيات الله»، بوجه عام، سواء كان يتعلق بـ «الوحدانية»، أم بـ «أحكام الشريعة»، ثم جاء بالجزاء دون ذكر التأبيد، مع أن التكذيب يشمل ملة الوحدانية، فقال: أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.
ولبيان أن مفهوم الخلود في جهنم يعني الإقامة فيها على وجه التأبيد، سواء أضيفت إليه كلمة «أَبَدًا» أو لم تضف، قال تعالى في الآية «٤٠»، مبينا ما سبق ذكره في الآية «٣٦»:
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ.
لقد استخدم السياق أسلوبا بديعا من أساليب البيان، يُفصّل مفهوم الخلود في قوله تعالى: هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» فقال: وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ.
إنه لا مانع من دخول عصاة المشركين وعصاة الموحدين الجنة، ولكن في حالة واحدة: أن يَلِجَ الجَمَلُ في سَمّ الخياط، وهو أمر يستحيل حدوثه، إذن فهؤلاء العصاة خالدون في جهنم خلودا أبديا لا نهاية له: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا، وورود كلمة «أَبَدًا» جاء للتأكيد على استحالة الخروج من جهنم، وليس للتفرقة بين عصاة المشركين وعصاة الموحدين!!
إن جزاء عصاة الموحدين في قوله تعالى في سورة النساء:
وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا
هو نفس جزاء عصاة المشركين في قوله تعالى في سورة الجن:
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً
في حالة واحدة: إذا أصر الموحدون المؤمنون على معصية الله، ولم يتوبوا منها قبل موتهم!!
ولن تنفع الموحدين شهادة الوحدانية التي ورثوها عن آبائهم، لأن هناك قانونا عاما يحكم ميزان الحساب في الآخرة، وهو قوله تعالى:
بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
وهناك قانون عام يحكم الإصرار على المعصية، وهو قوله تعالى:
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ، ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ، وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا، وَهُمْ يَعْلَمُونَ
إن الذين يقولون إن فهم القرآن واستنباط أحكامه لا يحتاج إلى منهجية علمية، ولا إلى منظومة معرفية، عليهم أن يتفضلوا ويشرحوا للناس معنى قوله تعالى:
«حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ»
استنادا إلى النص القرآني وحده، دون الاستعانة بأي مصدر معرفي خارجي
وإنا منتظرون!!
* الإجابة على السؤال للذين يريدون التعلم:
الجَمَل: اسم البعير الذي يعرفه الناس، من خلال «منظومة التواصل المعرفي»، ولا توجد له صورة ولا وصف في القرآن.
السَم: الثقب، ولا توجد له صورة ولا وصف في القرآن.
الخِياط: اسم آلة الخياطة التي يعرفها الناس باسم الإبْرَة، ولا توجد لها صورة ولا وصف في القرآن.
لذلك أقول:
كما أن الجَمَل يستحيل أن يدخل من ثقب الإبرة، فكذلك يستحيل أن نفهم القرآن بمعزل عن المنهجية العلمية القائم عليها علم التدبر والبيان، ولا بمعزل عن أدوات فهم القرآن، التي هدانا إليها ذات النص القرآني.
وكل ذلك مُفصل في حلقات «نحو إسلام الرسول»، الموجودة على الصفحة.
محمد السعيد مشتهري