من الذين خاطبهم الله تعالى بقوله: « شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ »
من هم المخاطبون بقوله تعالى: « شَرَعَ لَكُم »، « أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ »، « وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ »؟!
إنهم أتباع النبي الخاتم محمد، عليه السلام، الذين أمرهم الله بوجوب إقامة الدّين الذي أنزله عليه، وعدم التفرّق فيه، فماذا يعني هذا الأمر، الذي هو سُنة جميع الرسل؟!
يعني أن على أتباع النبي الخاتم محمد، أن يجعلوا «بوصلة» حياتهم نحو إقامة هذا الدين، بأموالهم وأنفسهم، لأنه يستحيل أن يقيم الفرد وحده هذا الدين دون عمل جماعي، ينطلق من مجتمع «الإيمان والعمل الصالح»، واعتبار أن هذا العمل فريضة شرعية.
فإذا كانت الجماعات الدينية السلفية، والمنظمات الجهادية الإرهابية، قد عرفت أنه يستحيل إقامة مذهبها الديني في الأرض دون عمل جماعي، واعتبروا ذلك فريضة شرعية، وساقهم منهجهم وتدينهم هذا إلى الإفساد في الأرض، إذن فمن الذي سيقيم الدين الحق في الأرض، إذا ظل الذين عرفوا طريقهم إليه متفرقين، يعيش كل واحد منهم حياته الفكرية بمعزل عن الآخرين؟!
إن «التفرق في الدين» يعني «تباعد ذوات» المؤمنين به، الأمر الذي يُفضي إلى مخالفة أمر الله لهم بإقامة الدين وعدم التفرق فيه، فأين هذا المجتمع، الذي يتعاون كل فرد فيه مع الآخر، لإقامة دين الله في قلوب الناس، وإخراجهم من الظلمات إلى النور؟!
إن الذين يقرؤون القرآن قراءة معاصرة، يعيش كل واحد منهم داخل جزيرة الفرقة التي نشأ فيها، وتربى على مائدتها الفكرية والثقافية، بمعزل عن الجزر الأخرى، أي يعيش داخل دائرة «التفرق في الدين» الذي حذر الله منه، سواء قبلوا مرجعيات الفرقة التي ينتمون إليها، واستندوا إلى تراثها الديني في إقامة مشاريعهم الفكري، أو انتقدوها وطالبوا بتنقيتها من الباطل الذي أصابها!!
فهل من أصحاب القراءات القرآنية المعاصرة، من أقام مشروعه الفكري على منهجية علمية، تأخذ بأيدي الناس إلى إقامة مجتمع «الإيمان والعمل الصالح»، الذي أقامه رسول الله، قبل ظهور الفرق والمذاهب المختلفة، بعيدا عن تراثهم الديني؟!
إن الأزمة الكبرى التي تواجه الفكر الإسلامي المعاصر، في انشغال أصحابه ونجومه بهدم تراث الفرقة التي ينتمون إليها، ثم يأتي التابعون المعجبون بهذه المنهجية، ويعتبرون هؤلاء المتبوعين الجدد، هم أول من ثاروا على التراث الديني، وانتصروا للفكر الإسلامي، فهل يمكن أن يأتي نصوص الدين الإلهي الباطل، لنحتاج إلى ثورة عليها؟!
ثم من قال إن التراث الديني للفرق والمذاهب الإسلامية، من الدين الإلهي الذي أمر الله تعالى الناس بإقامته، ليقضي هؤلاء المفكرون الإسلاميون حياتهم في تنقيته وتجديده؟!
محمد السعيد مشتهري