نحو إسلام الرسول

(428) 14/3/2016 (وهل يمكن أن يتحول «الذكر الحكيم» إلى روايات؟)

لقد نزل القرآن الكريم آية للعالمين، وشفاءً ورحمة للمؤمنين، شفاءً من أمراض القلوب وعلل الأبدان، بمنهجه القويم، وبنيته المحكمة، وشريعته الهادية إلى صراط الله المستقيم.

«وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً»

لقد نزل القرآن الكريم يحمل حجيته في ذاته، وفق دواعي الحق التي اقتضت نزوله، فكان حقا في نزوله، وحقا في موضوعه، وحقا في منهجه، وحقا في تعهد الله بحفظه.

«وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً»

فهل يمكن أن يترك الله الحق المُنزل يأتيه الباطل، وهو القائل: «وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ»؟!

هل يمكن أن يُنزل الله على رسوله نصا تشريعيا، غير الحق المنزل، ويتركه يأتيه الباطل على أيدي رواة الفرق والمذاهب المختلفة، وقد جاء بعدها مباشرة ببيان وتحديد واضح لموضوع هذا الحق، الذي أمر الله رسوله أن يبلغه، ويقرأه على الناس، فقال تعالى:

«وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً»

وقد قال تعالى في موضع آخر: «إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ»

تدبر العلاقة بين إنزال القرآن وإنزال الكتاب بالحق، وإخلاص العبودية لله تعالى، فأين يمكننا وضع «مرويات» الفرق والمذاهب المختلفة في هذا السياق المحكم، وقد آتاها الباطل من بين يديها ومن خلفها؟!

وهل يمكن أن تحمل هذه «المرويات»، التي آتاها الباطل، أحكام الشريعة الإلهية، والله تعالى يقول: «إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً»؟

تدبر قوله تعالى: «بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ»، لتعلم أن رسول الله يستحيل أن يخرج عن الإلتزام بالنص التشريعي الذي أنزله الله تعالى: «أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ»، فإن التعبير بالرؤية حقيقته الرؤية البصرية، الدالة على معاينة الشيء معاينة لا لبس فيها ولا غموض، تجعلها لا تخرج عن حدود ما أنزله الله، وهذا ما أكده قوله تعالى:

«وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ»

تدبر قوله تعالى: «وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ، بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ»، فكيف تكون «مرويات» الفرق والمذاهب المختلفة من الحق الذي لا لبس فيه، ومن العلم الذي لا يتبع الهوى؟!

كيف يُؤتي الله النبي مثل القرآن، كما يدّعون، وينسبون إليه أنه قال: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه»، ويقصدون بالمثل »مرويات» الفرق والمذاهب المختلفة، والله تعالى يقول:

«قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً»

ثم كيف يأمر الله تعالى الناس باتباع أحسن ما أُنزل إليهم، وهو الكتاب الخاتم، ثم يُنزل على رسوله مثل هذا الكتاب «مرويات»، والله تعالى يقول:

«وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ – أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ»

ثم يبين الله بعد ذلك بآيتين ماهية وخصائص هذا المنزل، الذي سيندم ويتحسر يوم القيامة من فرّط فيه، بقوله تعالى: «بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ»

وهل عندما طلب الكافرون من رسول الله، عليه السلام، أن يأتيهم بآيات حسية:

«وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ»

هل أجاب الله طلبهم؟ لا، لماذا؟! لأن عصر «الآيات الحسية» قد انتهى، وجاء عصر «الآية العقلية»، الآية القرآنية، فقال تعالى: «أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»

إن قوله تعالى: «أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ»، بيان واضح، بأن عصر الرسالة لم يشهد نصا تشريعا إلهيا غير الكتاب: «أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ»، فهل يعقل بعد هذا البيان الصريح، أن ينزل الله نصا تشريعيا ثانيا لبيان واستكمال ما نقص من أحكام القرآن، ثم لا يحفظه الله كما حفظ «الكتاب»، ويتركه في أيدي الرواة ليأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه، ليأتي جهابذة المحدثين، ليفصلوا الحق عن الباطل، كل حسب مدارسهم في الجرح والتعديل والتصحيح والتضعيف؟!

انظر ماذا قال أئمة السلف، لإثبات حجية مصادرهم التشريعية الثانية، ومروياتهم المذهبية المتخاصمة:

إن على كل من يؤمن أن محمداً خاتم الأنبياء، وأنه مرسل إلى الناس كافة، أن يعلم أن من لوازم هذا الإيمان، الاعتقاد في حفظ الله لحديث النبي، سواء علم كيفية هذا الحفظ أو لم يعلم، وسواء كان عالما أو من العامة، لأن الله يقول: «إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإنَّا لَهُ لَـحَافِظُونَ»، والذكر في الآية هو الكتاب والسّنة، وقد تكفل الله بحفظ السنة كما تكفل بحفظ الكتاب، فلم يكن النبي يقول شيئا من عنده، «إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى»!

وقالوا: لو كان المراد بالذكر القرآن وحده، لاستخدم السياق كلمة «القرآن» كما استخدمها في مواضع كثيرة، فقال تعالى: «إن هذا القرآن – بل هو قرآن مجيد»، لذلك فهم يعتبرون قوله تعالى: «إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإنَّا لَهُ لَـحَافِظُونَ» دليلا على حجية السنة المبينة للقرآن والمكملة لأحكامه، بدعوى أنه لا يُعقل أن يحفظ الله المبين ويترك البيان!

أما المصيبة الكبرى فقولهم: إن من علامات الساعة، أن يذهب جهابذة علم الحديث، فيذهب بذهابهم العلم بكتاب الله، فلا تبقى فائدة لوجود النص القرآني، لأنه لم يعد «ذِكْراً»، وعندئذ يرفعه الله إليه، ثم يأذن بقيام الساعة!

هذا ما فهمه أئمة السلف من قوله تعالى: «إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإنَّا لَهُ لَـحَافِظُونَ»، وقد أجبت في مقالي السابق عن سؤال: هل يمكن أن يتحول «الوحي الإلهي» إلى روايات؟! وفي هذا المقال أجيب عن سؤال: وهل يمكن أن يتحول «الذكر الحكيم» إلى روايات؟!

إن «الذكر»، ليس كلمة تُقرأ «قرآن»، أو تُكتب في «كتاب»، وإنما هو معنى يُفهم، ولا يُفهم المعنى ولا يتذكره الإنسان، إلا إذا عُرف الاسم، وعرف المسمى، لذلك حفظ الله الأسماء والمسميات عبر «منظومة التواصل المعرفي».

ولقد حفظ الله القرآن ويسره للتذكر والمذاكرة، من خلال مقابله الكوني، فقال تعالى: «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ»، وقد بينت ذلك في مقال بعنوان: «حجية القرآن ليست في نصوصه فقط، وإنما في مقابلها الكوْني».

لقد جاء قوله تعالى: «فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ»، في سياق الحديث عن تيسير القرآن للذكر، والمُدَّكِر هو الذي يتفكر في الدليل، ويتذكره لأخذ العبرة، قال تعالى عن سفينة نوح عليه السلام: «وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ»، فقد جعل الله من سفينة نوح آية للذين أرسل إليهم الرسل، ليتعلموا منها الدرس، وتكون عبرة لهم.

والقرآن الذي يسره الله للذكر، ليس في آياته القرآنية فقط، وإنما في مقابلها الكوني، وهذا ما بيّنه قوله تعالى: «ص، وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ»، ثم قوله بعدها: «بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ»، فالسياق الذي وردت فيه الآية يخاطب الكافرين بالقرآن، الذين لم يقفوا على العلاقة بينه وبين آيات الآفاق والأنفس، وقد بيّن الله تعالى لهم هذه العلاقة بقوله: «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ».

إن السياق القرآني عندما يصف القرآن بـ «الذكر»، فهو يخاطب الذين يعلمون أنه ليس كتابا يُكتب، ولا قرآنا يُقرأ، فقط، وإنما آية تدركها القلوب الحية: «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا»، والتدبر يكون بتفعيل آليات عمل القلب «آليات التفكر والتعقل والتدبر والتفقه والنظر..»، للوقوف على العلاقة بين الآيات القرآنية ومقابلها الكوني، هذه العلاقة التي جاءت آيات كثيرة تؤكدها، منها قوله تعالى في سورة الواقعة:

«نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ. أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ. أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ … أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ. أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ … أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ. أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ … أَفَرَأَيْتُمْ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ. أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ. نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ. فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ»

تدبر كلمة «تَذْكِرَةً»، في قوله تعالى عن هذه الآيات الكونية: «نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً»، وعلاقته بمادة «الذكر»: التذكر، والمذاكرة، والتذكير..، هذا «الذكر» الذي وصف الله تعالى القرآن به في مواضع كثيرة، فقال تعالى:

«وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ»

إن الضميرين «عليه»، «هو»، يعودان إلى القرآن، بدلالة السياق، ولا يوجد مطلقا في كتاب الله ضمير يبين أن «الذكر» يعود إلى مرويات «السّنة»، التي يدعي أئمة السلف والخلف أنها من «الذكر الحكيم»!

إن من عادة الذين يعجزون عن مواجهة الحجة بالحجة، والبرهان بالبرهان، وعن تفعيل آليات عمل قلوبهم، «آليات التفكر والتعقل..»، أن ينسبوا إلى خصومهم من أهل الحجة والبرهان، من الصفات ما ليست فيهم، فاتهموا رسول الله بالجنون، بعد أن عجزوا عن معارضة «الذكر الحكيم»: «وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ»!

هذا هو حال كل مكابر يريد أن يهرب من المواجهة الفكرية، فعندما يعجز عن إقامة الحجة والبرهان، يلجأ إلى التجريح الشخصي لمعارضيه، ونشر الشائعات الباطلة عنهم، فتدبر:

«وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ _- وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ».

إن ضمير «هو» في قوله تعالى: «وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ»، يعود إلى «الذِّكْرَ» الذي سبق بيان معناه، فهل مما أزعج الكافرين، وجعلهم يتهمون الرسول بالجنون، مرويات «السنة» التي لم تكن قد وُلدت بعد، حتى يدّعوا أن »الذِّكْرَ» يشمل هذه المرويات، لتصبح الشريعة الإسلامية «كتابا وسُنة»؟!

لقد عطف الله «الذِّكْرَ» على الآيات، في قوله تعالى: «ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنْ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ»، بعد بيان قصص وأنباء الأمم السابقة، لأنها كانت واقعا مشاهدا، يجب على الناس تذكره ومذاكرته، فهناك علاقة ملازمة وملابسة بين «الذكر الحكيم»، و«الآيات»، فتدبر:

«..قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً. رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ..»

لقد جعل الله مفهوم أحد الاسمين »الذِّكْرَ» مفسرًا قائما على مفهوم الآخر «الرسول» الذي بلغ الآيات، التي تُذكّر الناس إلى يوم الدين، لذلك وصف «المنزل» بالذكر: «قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً»، وكثيرا ما تأتي الصفات معطوفة على الكتاب.

فلقد وصف الله الكتاب بـ «الفرقان»: «وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ»
«نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ. مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ»

إن «الفرقان» المنزل، ليس شيئا غير الكتاب، وليس شيئا غير القرآن، قال تعالى:

«تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً»

ووصف الله الكتاب بـ «النور»، فقال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً».

ووصف الله ما كان يتلوه النبي على قومه، والذين آمنوا معه، بـ «الآيات»، وليس بـ «الروايات»، فقال تعالى: «كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ»

وقد فصلنا موضوع »الحكمة«، وعلاقتها بالكتاب، في مقال سابق بعنوان: «عندما تصبح الحكمة الإلهية المنزلة مرويات بشرية»

إن جميع الآيات القرآنية التي جاء سياقها يتحدث عن «النص الإلهي» الذي أمر الله رسوله أن يتلوه على الناس، جاءت تتحدث عن «تلاوة» آيات الكتاب، أي اتباعها، فتدبر:

«إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنْ الْمُنذِرِينَ»

فهل ذكر الله تعالى أن هناك كتاب هداية يُتلى في حياة المسلمين، وعلى منابر دعوتهم، وفي مؤسساتهم الدينية، غير القرآن؟! تدبر:

«وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ..»

وتدبر: «وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً»

وإذا كان الله قد أمر رسوله بتلاوة القرآن، أي بقراءته واتباعه سلوكا عمليا، فقد بشر الذين يطيعون الله، ويقتدون بالرسول، بتجارة لن تبور، فقال تعالى:

«إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ».

إن قوة التزام المسلم بأحكام الشريعة الإلهية، تنبع من ثقته في مصدرها الحق، المنزل من الله تعالى، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فتدبر:

«قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»

تدبر قول الله تعالى: »ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»

فهل عَقَلَ أنصار «الفُرقة والمذهبية» هذه الوصايا، وأنه يستحيل أن يأمر الله رسوله، أن يتلو على الناس نصا تشريعيا، ثم لا يأمره بتدوينه في كتاب، وتحت إشرافه؟!

ثم قال الله تعالى بعدها: «وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ»

تدبر قول الله تعالى: «ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ».

فهل تذكر أنصار «الفُرقة والمذهبية» هذه الوصايا، وأنه يستحيل أن يأمر الله رسوله، أن يتلو على الناس نصا تشريعيا، ثم لا يأمره بتدوينه في كتاب، وتحت إشرافه؟!

ثم قال الله تعالى بعدها: «وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»

تدبر قوله تعالى في الآيات السابقة: «ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»، لتعلم أن أنصار «الفُرقة والمذهبية» لا يتقون الله، ولا يتذكرون، ولا يعقلون، عندما يساوون بين حجية «الآية» وحجية «الرواية»!

إن النص التشريعي الإلهي، واجب الاتباع، الذي أشرف النبي على تدوينه، هو «الكتاب» الإلهي الخاتم، بصفاته المتعددة: القرآن، الفرقان، الذكر، النور، الحكمة..، ولذلك عندما وصف المشركون القرآن بالشعر، رد عليهم الله تعالى بقوله:

«وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ»

تدبر قوله تعالى: «وَمَا يَنْبَغِي لَهُ»، فالذي تعلمه النبي كان بوحي إلهي، فما هو موضوع هذا الوحي؟! الجواب: «إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ«، لقد حصر الله تعالى ما تعلمه النبي من الوحي في «الذكر والقرآن المبين»، فأين مكانة وموقع «مرويات» الفرق والمذاهب المختلفة في هذا السياق؟!

وعندما اتهم الكافرون رسول الله، عليه السلام، بأن الذي أنزل عليه أساطير الأولين، فقالوا: «وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً»، هل لم يكونوا يعلمون شيئا عن وجود مصدر تشريعي إلهي غير القرآن؟!

لقد رد الله هذه الأباطيل، وهذه الادعاءات، بقوله تعالى بعدها: «قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً»

وعندما أخبرنا الله أن الرسول سيشتكي قومه الذين هجروا القرآن، فقال تعالى:

«وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً. يَا وَيْلَتا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً. لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً»

هل كان يعلم هذا الظالم، أن «الذِّكْرِ» هو «الكتاب»، بالإضافة إلى مرويات «السنة» المذهبية، التي لم تكن قد ولدت بعد؟!

لقد رد الله تعالى هذه الأباطيل، وهذه الادعاءات، بقوله بعدها: «وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً»

وإذا كان الظالم سيعض على يديه يوم القيامة لأنه ضل طريقه إلى الذكر الحكيم، فإن من أعرض عن هذا الذكر في جهنم خالدا فيها، فتدبر:

«كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً. مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً. خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً»

فكيف يكفر، ويخلد في النار من يُعرض عن «روايات» الفرق والمذاهب المختلفة التي آتاها الباطل من بين يديها ومن خلفها؟!

إنه لم ترد مادة فِعل «أنكر»، و«كفر»، في كتاب الله عند الحديث عن دين الله واجب الاتباع، إلا وكانت تتعلق بالكتاب و«الذكر الحكيم»، ومن ذلك قوله تعالى:

«وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ»

وقوله تعالى:

«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ. لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ»

إن الذين يتهمون الناس بازدراء الدين الإسلامي، دفاعا عن روايات وتشريعات مذهبية ما أنزل الله بها من سلطان، هؤلاء يتقوّلون على الله بغير علم، بلا حجة ولا برهان.

إن أنصار وحُماة «الفُرقة والمذهبية»، هم الذين يزدرون الدين الإسلامي، وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعًا، وهم سعداء بتفرقهم في الدين، ودفاعهم عن انتماءاتهم المذهبية العقَدية، والله تعالى يقول لرسوله:

«إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ»

محمد السعيد مشتهري

أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى