نحو إسلام الرسول

(427) 10/3/2016 (هل يمكن أن يتحول «الوحي الإلهي» إلى روايات؟)

إن حجية نصوص الشريعة الإلهية، لا تخضع لاجتهادات البشر ومدارسهم المذهبية في الجرح والتعديل، والتصحيح والتضعيف، لأنها تقوم على تدوين النص التشريعي الإلهي في كتاب فور نزوله، وهي سنة الله مع جميع الأنبياء.

«كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ .. الآية»

لذلك حذر الله الناس من نسبة أي قول إلى الله أو إلى أنبيائه، غير الذي قام البرهان الإلهي قطعي الثبوت على أنه من عند الله، فتدبر:

«فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ»

لقد جاء القرآن يكشف عما أصاب الكتب التي نسبوها إلى الله وإلى أنبيائه من تحريف وتزوير، ولكن يبدو أن قضية العلم بهذه القضية، وبوجوب تدوين النص التشريعي الإلهي فور نزوله، تحتاج إلى قلوب حية، آلياتها غير مغيبة، أخلصت دينها لله، تعلم معنى أن يكون الكتاب منزلا من عند الله: «كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ»

إن ميثاق جميع الأنبياء والرسل، ألا يقولوا على الله إلا الحق:

«فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ»

لذلك أمر الله رسوله محمدا، عليه السلام، أن يدون نصوص آيته القرآنية في كتاب، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وجعله حجة على الناس إلى يوم الدين، ولم يجعل ذلك لغيره من الكتب التي نسبها الرواة والقصاصون إلى الأنبياء والرسل، ثم ادعوا أنها الوحي المكمل والمبين لأحكام الكتاب.

إن الذي يرثه المسلمون جيلا بعد جيل هو «كتاب الله»، فهل بيّن الله أن أتباع النبي الخاتم، يرثون كتابا مع «كتاب الله»، يحمل أحاديث النبي، باعتبارها «السنة النبوية» التي يكفر منكرها؟!

الجواب: إن الدليل الذي نملكه، والذي نص عليه الله تعالى في كتابه، بالدلالة القطعية، أن الذي يرثه المسلمون إلى يوم الدين، هو الكتاب الذي أنزله على رسوله محمد، عليه السلام، فتدبر:

«ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ»

إن »كتاب الله«، هو النص الإلهي الوحيد الذي أمر الله النبي، والناس جميعا، التمسك به: «فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ»

إن النبي لم يؤت كتابا مع كتاب الله، ولم يأمر الله المسلمين التمسك إلا بكتاب الله، وإلا قولوا لنا عند أي فرقة من الفرق الإسلامية نجد كتاب الأحاديث النبوية التي أمر الله اتباعها؟!

ثم أين البرهان الإلهي على وجوب اتباع هذا الكتاب، والله تعالى يقول لرسوله:

«أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ»-_ «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» _- «وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ»

إن «كتاب الله» هو «الآية القرآنية»، التي حملت نصوص الشريعة الإلهية إلى العالمين، لذلك كان هو الكتاب الوحيد الذي يكفر من أنكر آية من آياته، أو استهزأ بها، فتدبر:

«وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً»
ولم يبين الله تعالى ماذا يفعل المؤمنون، إذا سمعوا روايات المحدثين، التي صنعوها بأيديهم، «يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا»!

أما أن يقال: إن الإيمان بالرسل، يعني الإيمان بما نسبه رواة الفرق والمذاهب المختلفة إليهم من روايات، كل حسب مدرسته في الجرح والتعديل، والتصحيح، والتضعيف، فهذا ادعاء لم يستطع أصحابه، عبر قرون مضت، أن يقيموا الدليل على صحته!

إن »كتاب الله«، كتاب أحكمت آياته: «الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ»، كتاب يخرج الناس من الظلمات إلى النور: «الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ»، كتاب فيه بيان لكل شيء:

«وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ»

تدبر العلاقة بين إخبار الله تعالى بشهادة رسوله على قومه: «شَهِيداً عَلَى هَؤُلاء»، وأن يكون موضوع هذه الشهادة هو محتوى الكتاب، والذي من صفاته: «تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ»

فإذا كان موضوع هذه الشهادة يشمل نصا تشريعا إلهيا ثانيا باسم «الأحاديث النبوية»، لاقتضى الأمر أن تدوّن هذه الأحاديث في عصر الرسالة، كما وكيفا، ويحفظها الله تعالى، لتتساوى حجيتها مع حجية كتاب الله، وبذلك تتحقق الشهادة على وجهها الكامل التام.

إن شهادة رسول الله، عليه السلام، كانت على نصٍ حاضرٍ أمام الناس، يعلمون حدوده وعدد كلماته، ولا شك أن هذا النص قد بلغه رسول الله من غير نقص ولا تحريف، ليقوم المسلمون على هذا الأساس، بتفعيل شهادتهم على العالمين، وهنا تظهر حكمة الحفظ الإلهي لهذا النص، فلا يجد المشهود عليهم مجالا للطعن فيه إلى يوم الدين.

ولقد بيّن الله خصائص هذا الكتاب المنزل في كثير من الآيات القرآنية منها قوله تعالى:

«قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ»

«اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ..»

«هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ»

«تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ»

إن «كتاب الله»، يستحيل أن يأتيه العوج، كيف وهو الهادي إلى صراط الله المستقيم؟!

«الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا»

إن «كتاب الله»، هو الكتاب الذي سيشتكي رسول الله قومه أنهم اتخذوه مهجورا، ولا نرى دليلا واحدا فيه، أن الرسول سيشتكي قومه أنهم هجروا الأحاديث التي نسبها رواة الفرق الإسلامية إليه، فتدبر هذا السياق القرآني المحكم:

«وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً – يَا وَيْلَتا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً- لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً – وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً»

إنه لا يصح إسلام المرء، إلا إذا كان على علم بخصائص الوحي الإلهي، وأنه يستحيل أن ينزل الله على رسوله نصوص شريعة على غير صفة الحق الذي نزل به القرآن، فتدبر:

«أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ»

قالوا: إن قوله تعالى «فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ»، ليس معناه وحي «الكتاب» فقط، وإنما أيضا وحي «السنة»، القولية والفعلية والتقريرية!

نقول: إن الحديث عن «النص التشريعي» المدون في كتاب، والذي ادعى أئمة السلف والخلف أنه نصان: وحي »الكتاب«، ووحي »السنة«، وليس حديثنا عن كيفيات أداء ما أجمله هذا النص التشريعي من أحكام، هذه الكيفيات التي نقلتها لنا «منظومة التواصل المعرفي»، كالصلاة مثلا!

لقد حصره الله تعالى «النص التشريعي الإلهي»، على مر الرسالات، في وحي »الكتاب« فقط، قال تعالى: «وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ»

وفي سياق بيان طرق كلام الله مع البشر، لم يكن من هذه الطرق وحي »السنة القولية«، فتدبر:

«وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ»

إن كلام الله مع البشر، إما أن يكون وحيا، أو من وراء حجاب، أو بإرسال ملك، ولقد بيّن سبحانه أن الكلام مع نبيه الخاتم كان وحيا، فقال بعدها: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا»، ثم حدد طبيعة هذا الوحي بقوله تعالى بعدها:

«مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»

وبيّن أن الرسول الملك الذي تولى عملية إنزال هذا الكتاب هو الروح الأمين:

«وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ – نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ – عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ – بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ»

كما بيّن أن اسم هذا الروح الأمين هو جبريل، عليه السلام، فقال تعالى: «قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ»

ولا شك أن هناك طرقا أخرى للكلام مع رسول الله، غير طريق «النص القرآني»، ولكنها تتعلق بمواقف وأحداث عصر التنزيل، فقد يسبق نزول »النص القرآني» إعلام النبي بشيء يتعلق بظروف المرحلة الانتقالية التشريعية الخاصة بعصر التنزيل، ثم ما شاء الله أن يتضمنه »النص القرآني» من هذه المرحلة ينزل به وحي قرآني.

مثال ذلك قول الله تعالى: «إِذْ يُرِيكَهُمْ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ»

فقد أرى الله تعالى نبيه محمداً أولا رؤيا منامية، ثم نزلت بعدها هذه الآية بموضوع الرؤيا، والعبرة منها، دون بيان تفصيلي لها، وقد يحكى النبي، عليه السلام، تفصيلات هذه الرؤيا لصحبه، وقد تنتشر بينهم، ثم تتناقلها الأجيال كروايات بشرية، ليست نصا تشريعيا إلهيا واجب الاتباع، وإلا لحفظها الله في كتاب واحد كما حفظ كتابه!

ولقد أعلم الله رسوله بحال المنافقين، وأمره ألا يسمح لهم بالخروج معه، فقال تعالى:

«سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً»

ويتضح من سياق الآية، أنه حدثت حوارات بين الرسول والمنافقين، ثم أنزل الله بعدها وحيا قرآنيا بما شاء أن تتضمنه رسالته الخاتمة من أحداث عصر الرسالة.

فإذا نقل الصحابة تفصيلات مواقف وأحداث عصر التنزيل، وتتداولتها ألسنتهم على مر العصور، ونقلها عنهم آخرون، ثم جاء عصر التدوين، ودوّنها المحدثون كلٌ حسب مدرسته في الجرح والتعديل، والتصحيح والتضعيف، فكيف تكون نصا تشريعيا إلهيا؟!

لقد مكث رسول الله عمره بين قومه، فهو صاحبهم الذي عرفوه جيدا، وعرفوا حديثه وعلموا أسلوبه، فلماذا لم يصدقوه، واتهموه بالضلال والغواية؟!

«وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى – مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى – وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى – إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى – عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى»

لم تكن أحاديث النبي في يوم من الأيام موضع اتهام أو تكذيب أو إعراض من قومه، سواء كان ذلك قبل بعثته أو بعدها، فمتى حدث هذا التكذيب، وهذا الإعراض، وإلى أي شيء يعود الضمير «هو» في قوله تعالى: «إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى»؟!

إن الذين جعلوا هذا الضمير يعود إلى كل ما خرج على لسان النبي، هؤلاء افتروا على الله ورسوله الكذب، وجعلوا «الرواية البشرية» حاكمة على «الآية الإلهية»، وحرّفوا كلام الله لخدمة مذاهبهم العقدية، وسفكوا الدماء بغير حق، تحت راية: »إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى«!

إن الضمير «هو» عائد إلى المنطوق به، ورسول الله لم يتهم بالضلال والغواية إلا عندما نطق بـ «النص القرآني»، وأعلن أنه رسول رب العالمين، ولذلك نزل القرآن يُبيّن أنه لم ينطق بهذا القرآن عن هواه «وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى»، وإنما عن وحي من الله تعالى: «إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى».

لقد كانت تصرفات النبي اليومية، غير التي كانت بوحي قرآني، تخضع للقانون البشري، وقد أشار القرآن إلى ذلك في كثير من الآيات منها قوله تعالى:

«وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» – «مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ» – «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ».

لقد أفشت إحدى أزواج النبي حديثا دار بينها وبينه، ثم انتشر هذا الحديث بين أهل البيت، ولا شك أنه قد أخذ مساحة زمنية يتداول فيها، وأعلم الله النبي بما حدث، ثم أنزل بعدها وحيا قرآنيا بما شاء سبحانه أن يشمله «النص القرآني» من أخبار عصر التنزيل، فقال تعالى:

«يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ»

«وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ»

فإذا تدبرنا قوله تعالى: «نَبَّأَنِي الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ»، علمنا أن الله «نبأ» رسوله بما حدث من بعض أزواجه، بطريقة من طرق الكلام غير الوحي القرآني، ولم يُفصّل هذا «النبأ» في كتابه، فهل إذا تداول الصحابة تفصيلاته، نقلا عن أزواج النبي، ثم تناقلتها ألسن الرواة حتى وصلت إلى عصر التدوين، ودوّنها المحدثون في الكتب، أصبحت نصا تشريعيا إلهيا واجب الاتباع؟!

إذن فكيف يكون كل ما نطق به النبي وحيا إلهيا؟!

إن اللافت للنظر، أن الهوى المذهبي كان حاكما على فهم أئمة السلف للنص القرآني، ذلك أن الله تعالى لم يوجه خطابه أصلاً في آيات سورة النجم، للمؤمنين، وإنما خاطب المكذبين الذين لم تكن قضيتهم مع رسول الله أحاديثه، وإنما كانت قضيتهم ما نطق به من قرآن، وقال إنه من عند الله.

وعلى أساس هذا الهوى المذهبي تحول «حديث النبي»، الذي خرج علي لسانه في عصر الرسالة، إلى روايات، صحح المحدثون البعض، وضعّفوا البعض، والذي صححه البعض ضعفه آخرون، فهل من طبيعة «الوحي الإلهي»، أن نؤمن ببعضه ونكفر ببعضه؟!

لقد حدد الله تعالى طبيعة الوحي المنزل على رسوله، كما وكيفا، بحيث يستطيع أي إنسان أن يتعرف بعضه من كله، فقال تعالى:

«فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ»

تدبر قوله تعالى: «تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ»

إني عندما بيّنت في دراسة علمية أن الشريعة الإسلامية التي أمر الله اتباعها كلٌ لا يتجزأ، وأنها هي التي أنزلها الله في كتابه، أوصى مجمع البحوث الإسلامية بمصادرة هذه الدراسة، وسجنت، سألني المحقق: هل لديك مانع أن تأتي لجنة من مؤسسة الأزهر لمناقشتك في هذه الدراسة؟!

قلت: إن هذه الدراسة لا تخاطب فرقة من الفرق الإسلامية بعينها، ولا تخاطب المؤسسات الدينية التابعة لأي فرقة، وإنما تخاطب أتباع الفرق الإسلامية جميعهم، فإذا أردتم مناقشتي فيها، فليكن ذلك بتشكيل لجنة من علماء ينتمون إلى الفرق الإسلامية التي أخاطبها!

لقد عجزوا عن تشكيل هذه اللجنة، بعد علمهم استحالة أن يتفق أعضاؤها على رأي بخصوص هذه الدراسة، وأفرجوا عني، بعد أن سجنت شهرا!!

إن الذين حصروا أزمة الفكر الإسلامي في الباطل الذي حملته أمهات كتب فرقة من الفرق الإسلامية، أو في المناهج التي تدرسها المؤسسة الدينية لهذه الفرقة، أو في كتاب «الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع»، الذي يخرج علينا بين فترة وأخرى على القنوات الفضائية، هؤلاء تصوروا أن تنقية أمهات كتب الفرقة التي ينتمون إليها، والمناهج التي تُدرّس في مؤسساتها الدينية، من «البعض» الباطل الذي أصابها، هو الذي سينقذ الفكر الإسلامي من أزمته!!

إن مصيبة الفكر الإسلامي ليست في تجديده ولا في تنقيته، وإنما في تأصيله، للوقوف على حقيقته، وهل من الإسلام التفرق في الدين، وتحويل «الوحي الإلهي» إلى روايات مذهبية، يدافع عنها أهل الحديث، ويهاجمها المفكرون المنتمون إلى نفس الفرقة التي ينتمي إليها أهل الحديث؟!

«وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ»

محمد السعيد مشتهري

أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى