نحو إسلام الرسول

(426) 7/3/2016 (لكن ليس من حق الأنبياء إخراج من في النار)

لقد اخترقت الإسرائيليات أمهات كتب الفرق والمذاهب المختلفة، وأخطر ما في هذا الاختراق ما يتعلق بملة الوحدانية، وبفاعلية أسماء الله الحسنى، وهل القرآن كلام الله مخلوق أم غير مخلوق؟ وهل من دخل النار سيخرج منها بشفاعة الشافعين، من ملائكة وأنبياء وأولياء؟ هذه المسائل الكلامية التي سُفكت في سبيل الدفاع عنها الدماء!

ومع بيان القرآن لطبيعة الحساب في الآخرة، وأن الذي سيشفع للإنسان هو عمله، والتزامه بمقتضيات الوحدانية، كما فصلنا ذلك في المقال السابق، فإن أئمة السلف والخلف يُصرّون على وجود شفعاء يُخرجون عصاة المسلمين من النار، وعلى رأسهم النبي محمد، عليه السلام، فإذا ذهبنا إلى كتاب الله، وجدناه ينفي نفيًا تامًا أن يكون من حق أي مخلوق أن يُخرج من في النار، فيقول الله في سورة آل عمران:

«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ»

فلماذا تولى «الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ» عن الالتزام بأحكام الكتاب؟!

الجواب: لأنهم كانوا يعتقدون أن عذاب الآخرة أيام معدودة، فلماذا لا يستمتعون بشركهم، وبشهواتهم، ومعصية الله ورسله؟!

«ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ»

إن المغرور يصعب عليه الإقلاع عن المعاصي، والذي يفتري على الله ورسوله الكذب قد أظلم قلبه، والذين دَوّنوا تراثهم الديني، ونسبوه إلى الله، وقالوا إنه «وحي يوحى»، ويلٌ لهم مما كتبت أيديهم، فتدبر:

«فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ»، «وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ». [البقرة ٧٩ – ٨٠]

فهل اتخذ أئمة السلف والخلف عند الله عهدا، «فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ»؟! هل من أئمة السلف والخلف من يملك البرهان الإلهي على أن رسول الله محمدا، عليه السلام، سيُخرج عصاة المسلمين من النار؟! «أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ»؟!

لذلك قال الله بعدها، مبيّنا طبيعة ميزان الحساب في الآخرة: «بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ». [البقرة٨١]

هذا هو ميزان الحساب في الآخرة، وهذه هي النتيجة التي سيراها الإنسان أمامه:

«اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا»، «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ..»، «وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ».

إن من دخل النار لن يخرج منها، ولن ينفع أئمة السلف تحريفهم لكلام الله لخدمة مذاهبهم الكلامية العقدية، استنادا إلى مرويات وجدوها أمامهم في عصر التدوين، ما أنزل الله بها من سلطان، فجعلوها حاكمة على فهم النص القرآني، ثم وظّفوا «علم البيان»، وما حمله من استعارات تمثيلية، مصرحة أو مكنية، لخدمة هذا التحريف!!

تعالوا نلقي نظرة على هؤلاء الذين ظنوا أن الآخرة محل شفاعة، وأنهم وإن طال الزمن سيخرجون من النار، فنزل القرآن يرد عليهم:

أولا: المشركون، الذين زعموا أن شركاءهم سيشفعون لهم:

«وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ». [الأنعام ٩٤]

«وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ». [يونس ١٨]

«ءَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنقِذُونِ» [يس ٢٣]

ثانيا: الكافرون، الذين لم يعملوا بمقتضيات الدين الإلهي، وكانوا يخوضون مع الخائضين، ويعتقدن أن الشفاعة ستنفعهم في الآخرة:

«فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ». [الأعراف ٥٣]

«وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ، فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ، وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ، فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ». [الشعراء ٩٩-١٠٢]

«قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ، وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ، حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ، فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ». [المدثر ٤٣-٤٨]

ثالثا: اليهود الذين قال لهم الله: «وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ»، فظنوا أن هذه الأفضلية ستكون شافعا لهم في الآخرة، فقال تعالى:

«وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ». [البقرة ٤٨]

ثم قال أيضا في الآية [١٢٣]: «وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ».

رابعا: الذين يؤمنون أن الشفاعة لله جميعا، وقد أذن الله للنبي أن يشفع في أمته، استنادا إلى أحاديث منسوبة إلى النبي، فخلطوا بين «الآية»، و«الرواية»، وعلى أساس هذا الخلط ادّعوا أن النبي سيأذن لمن شاء من أمته أن يشفع في من شاء، ويسمون هذه «شفاعة ظلية»، ويستندون في ذلك إلى جملة «مِنْ دُونِهِ»، التي جاءت في بعض الآيات، ومنها:

«وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ». [الأنعام ٥١]

«وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ». [الأنعام ٧٠]

«اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ». [السجدة ٤]

فقالوا إن جملة « مِنْ دُونِهِ»، قد بيّنها قوله تعالى «قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا»، أي أن الله وحده الذي يملك الشفاعة، فالأمر كله لله: «يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ».

ومع إيماننا بعلم الله المطلق، وأنه يستحيل أن يتم شيء في هذا الوجود إلا بمشيئته وإذنه ورضاه، وأنه وحده مالك يوم الدين، يوم الحساب، الذي بيده الأمر كله، إن شاء أدخل الناس جميعا النار، وإن شاء أدخلهم الجنة، فهو القائل عز وجل عن أهل النار: «خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ»

وعن أهل الجنة: «خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ»

مع إيماننا بكل هذا، إلا أننا لا نتصور أن قرار دخول الجنة أو النار، يمكن أن يتغير يوم القيامة، بشفاعة ملك، أو رسول، أو أحد من الصالحين، فنحن أمام نصوص قرآنية يجب أن تُفهم في سياقاتها، وبالاستعانة بالأساليب البلاغية للسان العربي، والتي لا تملك الدليل قطعي الثبوت عن الله، قطعي الدلالة، أنه سبحانه سيجعل النبي يشفع في من دخلوا النار من أمته، ويخرجهم منها!!

إن القائل: «لله الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً» هو الله تعالى، وهو القائل: «لله الْعِزَّةُ جَمِيعاً»، لبيان انفراد الله بفاعلية أسمائه الحسنى، التي لا يشاركه فيها أحد، وأن التقول على الله بغير علم جهل بهذه الفاعلية، ونفهم ذلك بتدبر قوله تعالى:

«مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ، وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ، وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ». [فاطر ١٠]

إن «العمل الصالح»، الذي يرفعه الله تعالى، هو «الشفيع» الذي يشفع لصاحبه في الآخرة، وإذا كان أصحاب الكبائر خالدون في جهنم، فهؤلاء يمكن أن تشملهم الشفاعة في الدنيا، ويبدل الله سيئاتهم حسنات، إذا تابوا والتزموا بمقتضيات «الإيمان والعمل الصالح»، فتدبر:

«إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً، فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً». [الفرقان٧٠]

إن الشفاعة في الدنيا، ومحو السيئات، وتكفير ذنوب أهل الكبائر، تأتي في إطار فاعلية أسماء الله الحسنى المتعلقة بالدنيا، ومنها أنه سبحانه «الرحمن الرحيم»، فتدبر:

«وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ». [الأنعام ٥٤]

وتدبر قوله تعالى: «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً»، «وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً». [النساء ١٧ ـ ١٨]

إنه عندما تقترب مقدمات الموت، وتظهر علاماته، ويعلمها الإنسان، وقد تستمر شهورا، فإن القانون الإلهي: «لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ، أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا»، فقد آمن فرعون عند غرقه، فقال الله له: «آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ»!!

ولذلك لن ينفع المسلم، الذي لم يعمل بمقتضيات «الإيمان والعمل الصالح»، دعاء المؤمنين، ولا قنوت الأولياء الصالحين، ولن يقبل الله توبته، بعد أن بيّن الله ذلك في الكتاب، ونلاحظ أن آية «وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ..»، قد جمعت الذين لم يتوبوا إلا عندما حضر الموت، مع الذين ماتوا وهم كفار، في ميزان واحد: إن من دخل النار فلن يخرج منها، واجتناب الكبائر هو ضمانة تكفير السيئات في الدنيا، وشفاعة الله وقبول توبة العصاة محلها الدنيا، وليس الآخرة، فتدبر:

«إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً». [النساء ٣١]

إن يوم القيامة يوم حساب، وإعلان لنتائج الأعمال، وليس يوم تغيير النتائج بشفاعة الشافعين، فتدبر: «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ». [آل عمران ٣٠]

وتدبر قول الله تعالى: «وَأَشْرَقَتْ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ، وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ». [الزمر ٦٩-ـ ٧٠]

وكل ذلك يتم قبل أن يذهب أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، فهل بعد أن قال تعالى: «وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ»، يكون هناك مجال لشفاعة الشافعين؟!

إن المسلمين الذين عصوا النبي في حياته، والذين عصوا رسالته بعد وفاته، هؤلاء لا نجاة لهم من العذاب المهين في الآخرة، إلا إذا تابوا وأنابوا إلى ربهم في الدنيا، وهذا ما بيّنه الله مخاطبا المسلمين المؤمنين، بقوله تعالى:

«تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ». [النساء ١٣ـ١٤]

لقد جاءت الآية في سياق بيان ملة الوحدانية، ووجوب الالتزام بأحكام الشريعة القرآنية، فماذا يعني تحذير الله المسلمين المؤمنين، من تعدي حدود الله، وأن من يتعداها يدخل النار خالدا فيها؟!

ثم كيف يجرؤ أئمة السلف والخلف، بعد هذا البيان الإلهي قطعي الدلالة، على القول: إن من قال «لا إله إلا الله» دخل الجنة، وإن فعل كل الكبائر، وارتكب فظائع الدنيا كلها، ولكن السؤال: هل من فعل ذلك ولم يتب، سيمنع إسلامه الوراثى كفره؟!

إن الباب الوحيد للشفاعة، الذي أذن الله تعالى به في الدنيا، هو باب التوبة، والعمل الصالح، ودعاء المؤمنين واستغفارهم، واستغفار الملائكة، فإذا مات المرء ولم يتب، ولم يحصل على هذه الشفاعة، مات كافرا، والله تعالى يقول عن النار: «وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ»، وعن الكافرين: «خَالِدِينَ فِيهَا، لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ»؟!

لقد شفع نوح، عليه السلام، للمؤمنين من قومه، فقال:

«رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً». [نوح ٢٨]

وشفع النبي محمد، عليه السلام، للذين آمنوا معه:

«وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً». [النساء ٦٤]

لقد طلب النبي من الذين ذهبوا إليه ليستغفر لهم، أن يستغفروا الله أولا، ثم استغفر الرسول لهم، وهذه هي شفاعة النبي في الدنيا، وهناك من استغفر لهم النبي، ولم يقبل الله استغفاره، أي لم يقبل شفاعته، لأنهم كانوا من المنافقين، فقال تعالى:

«اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ». [التوبة ٨٠]

ويقول الله تعالي عن شفاعة المؤمنين في الدنيا:

«وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ». [الحشر ١٠]

إنني لا أنكر فاعلية العدل الإلهي في الدنيا والآخرة، والتي تقتضي أن يكون العقاب على قدر المعصية، فلا يتساوى المشرك مع المسلم المصر على الزنى، ولكن الذي لم يتدبره أئمة السلف والخلف جيدا، قوله تعالى في سورة الفرقان، في سياق الحديث عن صفات عباد الرحمن:

«وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلَا يَزْنُونَ، وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا»

إن المتدبر لسياق الآيات، يعلم أن الشرك بالله معصية، يُخلد صاحبها في جهنم، وقتل النفس بغير حق معصية، يُخلد صاحبها في جهنم، والزنى معصية، يُخلد صاحبها في جهنم، وأن الذي أدخل أصحاب هذه المعاصي جهنم، خالدين فيها، إصرارهم على ارتكاب المعاصي، وعدم التوبة منها، والكافر لا يُخاطب بالالتزام بأحكام الشريعة، كالقتل والزنى، لأن ليس بعد الكفر ذنب!!

إنه عندما يوضع الشرك مع القتل مع الزنى في ميزان واحد، ميزان الخلود في جهنم، فهذا من العدل الإلهي، لأن المصر على سفك الدماء بغير حق، وعلى الزنى، قد أشرك مع الله هواه، وقد قال الله تعالى مخاطبا رسوله:

«أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ، أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا»

إن الذين قالوا: إن الخلود في النار: «خَالِدِينَ فِيهَا»، غير الخلود المؤبد: «خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا»، وأن الخلود الأول يتعلق بعصاة المسلمين، وبالتالي سيخرجون من النار حتما، هؤلاء يفترون على الله الكذب، فسياق الآيات لا يتحدث عن المسلمين، وإنما عن أهل جهنم، الذين إذا خرجوا خرجوا جميعا!!

إنه لا توجد آية قرآنية تعطي الحق لأي مخلوق، حتى لو كان نبيا، أن يُخرج من النار من حقت عليهم كلمة العذاب، ولذلك حذر الله أتباع النبي الخاتم محمد، عليه السلام، من هذا الاعتقاد الباطل، بل وخاطب النبي نفسه قائلا:

«أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ»؟!

إن المتدبر للسياق الذي وردت فيه هذه الآية، من سورة الزمر، «الآيات ٦ ـ-١٩»، يجد أنها جاءت في سياق عام، يخاطب الناس جميعا، بدأت بالحديث عن دلائل الوحدانية:

«خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنْ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ»

ثم جعل الله الناس مختارين في تدينهم: «إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ»

وبعد أن بيّن الله الفرق بين الجاحد لنعم الله، الذي لا يلجأ إلى الله إلا إذا أصابه الضر، وبين الذي أخلص دينه لله، الشاكر في السراء والضراء، قال تعالى لرسوله: «قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ»

ثم بيّن مصير العصاة الجاحدين لنعم الله: «لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنْ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ»

أما الذين اتقوا ربهم وأنابوا إليه: «لَهُمْ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِي، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ»
ثم قال بعدها: «أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ»!!

إذن فمن أين جاء أئمة السلف والخلف، أن الله سيجعل النبي يشفع في عصاة أمته، ويخرجهم من النار؟!

ألم يتدبروا قول الله تعالى، مخاطبا النبي والذين آمنوا معه:

«مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ»، «مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»!!

وعلى فرض أن في القرآن البرهان قطعي الدلالة على إخراج النبي عصاة أمته من النار، فأين هي أمته أصلا التي سيخرجها من النار؟!

ألم ينقلبوا على أعقابهم بعد وفاته، وتفرقوا في الدين إلى مذاهب عقدية يكفر بعضها بعضا، وقد حذرهم الله أنهم إذا ماتوا على هذا التفرق ماتوا مشركين؟!

فهل مازالوا على تفرقهم وتخاصمهم وتقاتلهم؟!

محمد السعيد مشتهري

أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى