«الشفاعة» سُنة اجتماعية جرت عليها أعراف الناس، سواءً أكانت حسنة، جلب منفعة أو دفع ضر يكون للشافع ثوابها، أم سيئة، جلب ضر أو دفع منفعة يحمل الشافع وزرها، ولا يتصدّى للشفاعة إلاّ من تُقبل شفاعته، وعندها يُقال: شفع فلان عند فلان في فلان فشفّعهُ فيه، أي فقبل شفاعته، يقول الله تعالى:
«مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا، وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا، وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً»، «النساء ٨٥»
إن «الشفاعة» دعوة لها فاعليتها الاجتماعية في عالمنا المعاصر، إنها دعوة إِلى فعل الخير والتزام جانب الحق والعدل، دعوة إلى نشر مبدأ التكافؤ والتعاون الاجتماعي بين الناس، ونبذ الأنانية وحب الذات وتجاهل الآخرين، دعوة لإِنقاذ العصاة قبل الوقوع في المعاصي، والأخذ بيد من وقع إلى باب التوبة حيث الأمان والثقة بالنفس.
إنها دعوة إلى القيام بأعمال «الشفاعة» والتوجيه، وتشجيع الآخرين على فعل الخير على أساس أن المحرض على عمل الخير سيناله نصيب من نتائجه دون أن ينقص شيء من نصيب الفاعل الأصلي، وأن المحرض على عمل الشر سيناله نصيب من نتائجه هو، وكل من شاركوا فيه بأية وسيلة من وسائل التحريض، دون أن ينقص من أوزارهم شيء.
ولقد حرّفت المعتقدات والشرائع البشرية هذه «الشفاعة»، ونقلتها من دائرة الأعراف الاجتماعية، إلى دائرة الحساب في الآخرة، فنزل القرآن يُصحح، ويُبيّن أن الذي يضع ميزان الحساب في الآخرة هو الله تعالى، وهو ميزان قسط، لا يحتاج إلى وسطاء يشفعون فيه.
«وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا، وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا، وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ»، «الأنبياء ٤٧»
إن مسألة وجود شفعاء في الآخرة، يُدخلون من شاؤوا الجنة، ويُخرجون من شاؤوا من النار، من المفاهيم الخاطئة التي كانت منتشرة في عصر الرسالة الخاتمة والموروثة عن أتباع الديانات السابقة، التي انحرفت عن صراط الله المستقيم.
لقد نزل القرآن يبين مسألة «الشفاعة» بأسلوب يعرفه الناس ويفهمونه، يكشف لهم زيف وبطلان اعتقادهم أن «الشفاعة» التي اعتادوا عليها في الدنيا، حيث العمل، يمكن أن تنتقل إلى الآخرة، حيث الحصاد والجزاء والحساب.
ولقد حذرت أول آية قرآنية تتعلق بموضوع «الشفاعة» المؤمنين من هذا الاعتقاد الخاطئ، الذي كان منتشرا في عصر الرسالة، ونفت استحقاق أحد من المخلوقات أن يكون شفيعاً عند الله يوم القيامة، فقال تعالى:
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ، وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ»، «البقرة ٢٥٤»
والمتدبر لسياق الآية يعلم أنه يتحدث عن أحكام الشريعة، «أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ»، ويُبيّن أنه لا وسطاء في الآخرة، من «بيع، صداقة، شفاعة»، وأن أعمال الإنسان هي التي ستشفع له، لإبطال زعم الكافرين وجود شفعاء لهم في الآخرة، «وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ».
ثم جاءت الآية بعدها «٢٥٥» تثبت «الشفاعة»، مشروطة بإذن الله:
«اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ، لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ»
فهل هذا معناه تخصيص العام الوارد في الآية «٢٥٤»، الذي نفى الشفعاء في الآخرة، وقصره على الذين أذن الله لهم بها؟!
هذا يحتاج منا إلى وقفة وتدبر لمعنى «إذن الله»، حسب وروده في السياق القرآني، وهل جاء بمعنى «السماح» و«التصريح» و«الموافقة» بأداء الفعل، كما تعارف عليه الناس؟!
إن «إذن الله» هو مشيئته، وهو الأمر التكويني، فكل شيء في هذا الكون لا يكون، ولا يعمل، إلا بإذن الله ومشيئته، ولا تتنزل الشرائع على الرسل إلا بـ «إذن الله»:
«قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ»
ولا يحمل الرسل البراهين الدالة على صدق نبوتهم إلا بـ «إذن الله»:
«وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ»
وبـ «إذن الله» خُلقت النفس مستعدة لقبول الحق والباطل، والصلاح والفساد، والفجور والتقوى، وعلى الإنسان أن يختار:
«وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا-_ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا _- قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا -_ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا»
وعلى أساس هذه السُنّة الكونية قال تعالى: «وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ»
إن معظم الآيات التي ورد فيها «إذن الله» جاءت تتحدث عن الوحدانية، وفاعلية أسماء الله الحسنى، والالتزام بأحكام الشريعة، وذلك ردا على المشركين الذين يزعمون أن «الشفاعة» يمكن أن تعفيهم من هذه الالتزامات، ومنها قوله تعالى:
«إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ، يُدَبِّرُ الأَمْرَ، مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ، ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ»، «يونس ٣»
لقد تحدتث الآية عن دلائل الوحدانية، وفاعلية أسماء الله الحسنى، لبيان من هو الإله المعبود: «ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ»، فما علاقة مسألة «الشفاعة» في هذا السياق، وهل هي في الدنيا أم في الآخرة؟!
إن السياق الذي وردت فيه الآية يخاطب الكافرين المشركين، الذين يستحيل أن يموتوا على الكفر والشرك، ثم يأذن الله لأحد من خلقه أن يشفع لهم!!
لقد جاءت هذه الآية، وغيرها من الآيات الكثير، لتصحيح العقائد والمفاهيم الباطلة عن ميزان الحساب في الآخرة، التي كانت منتشرة في عصر الرسالة، وتُبيّن أن الذي ينفع الإنسان ويشفع له هو عمله، إذا أداه وفق مقتضياته وشروطه، أي وفق «إذن الله»، وهذا كله في الدنيا، لذلك عندما يقول الله تعالى:
«يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً- وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً – لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً»، «مريم ٨٥-٨٧»
علينا أن نسأل: من هم الذين «لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ»؟! هل يُعقل أن يشفع المتقون للمجرمين؟! إذن فالسياق سياق استنكاري، لأن الذين ظنوا أن شفاعة الشافعين ستنفعهم، هم أصلا لم يتخذوا «عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً»!!
إن الآخرة ليست محلا لاتخاذ «العهود»، فاتخاذ العهود لا يكون إلا في الدنيا، لذلك رد القرآن على الذين زعموا أن «الشفاعة» تُغير الجزاء في الآخرة، وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة، فقال تعالى:
«وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ»
تدبر كلمة «العهد» في قوله تعالى: «أْتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ»، وعلاقتها بالعهد الذي ورد في الآية السابقة: «لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً».
إن مسألة الإذن، أو العهد، وغيرهما من الاستثناءات التي وردت في سياق الحديث عن الشفاعة، جاءت على سبيل الاستنكار، لبيان أنه يستحيل أن تنفع شفاعة الآلهة المزيفة أو الملائكة للنجاة من عذاب الآخرة، كما كان يعتقد المشركون!!
فعن الملائكة، يقول الله تعالى:
«وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ – وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ – أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ – بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ»، «الزخرف ١٩ -٢٢»
لقد عبد المشركون الملائكة، واتخذوهم شفعاء عند الله، بدعوى أنهم هكذا وجدوا آباءهم يفعلون، فنزلت الآيات تصحح هذه العقائد الباطلة، وتقول: «إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ»، وتُبيّن أن الشريعة الإلهية لا تثبت إلا ببرهان إلهي، قطعي الثبوت عن الله، وليس عن الرسول: «أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ»!!
وعن شفاعة الملائكة يقول الله تعالى:
«وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ _- لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ – يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ»، «الأنبياء ٢٦ – ٢٨»
نفهم من قوله تعالى: «وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى»، نفيا لاعتقاد المشركين، الذين «قَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا»، أن الملائكة ستشفع لهم، وعلى فرض أن لهم شفاعة من باب الاستنكار، فلن تكون إلا لمن رضي الله عنهم، وهل من رضي الله عنهم يحتاجون إلى شفاعة الشافعين أصلا؟!
لذلك لا يصح القول، إن الاستثناء في قوله تعالى «إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى»، دليل على شفاعة الملائكة للمشركين، بشرط أن يرضى الله، لأن هذا الادعاء لا يُقبل شرعا!!
إن الملائكة، الذين اعتاد المشركون اتخاذهم في الدنيا شركاء وشفعاء، حسب زعمهم، يتبرءون من هذه الشفاعة أصلا يوم القيامة، ويردون الأمر كله لمشيئة الله وإذنه، فتدبر:
«وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى»، «النجم ٢٦»
إن شفاعة الملائكة، المأذون لهم بها، هي التي نصّ عليها القرآن صراحة، ومجالها في الدنيا وليس في الآخرة،
وهي استغفارهم للذين آمنوا، الأمر المُحرّم على الكافرين والمشركين، فتدبر:
«الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ»، «غافر ٧»
تدبر دعاء حملة العرش: «فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ»، إن اتباع سبيل الله هو اتباع «إذن الله»، أي أن قبول شفاعة أعمال المؤمنين يقوم على الشروط التي أذن الله بها، وفي مقدمتها التوبة واتباع سبيل الله وصراطه المستقيم، أليس هذا الدعاء، صورة من صور الشفاعة المأذون بها للملائكة في الدنيا؟!
ومما يؤكد ذلك، قوله تعالى:
«تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ـ- وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ»، «الشورى ٥ -٦»
فهل المؤمنون الذين استغفرت لهم الملائكة يحتاجون إلى شفاعة الشافعين؟! وهل المشركون الذين اتخذوا من دون الله أولياء يمكن للنبي أن يشفع لهم، وقد قال الله له: «وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ»؟!
كما يؤكد ذلك أيضا قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ـ- نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ـ- نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ»، «فصلت ٣٠ -٣٢»
فهل يمكن أن ينال المؤمنون شفاعة الملائكة، المتمثلة في الاستغفار والدعاء لهم في الدنيا، دون إذن من الله تعالى؟! هل يمكن أن ينالوا هذه الشفاعة، وهذه النزل، «نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ»، دون أن يُؤدّوا ما عليهم من مقتضيات «الإيمان والعمل الصالح»؟!
وقد يسأل سائل: إذا كان الأمر كذلك، وأن الشفاعة التي يأذن بها الله تعالى، هي للمؤمنين الصالحين، الذين أدوا ما عليهم من مقتضيات «الإيمان والعمل الصالح» فما أهميتها إذن؟!
أقول: أهميتها أنها تشجع المرء وتعينه، وترفع من همته وتطمئنه، وهو مازال حيا، يعمل ويجتهد في هذه الدنيا، لعل الله يدفع بها عنه مكروها، أو يعينه على طاعة، أو يرفع بها درجته في الجنة.
إن الذين يؤمنون بشفاعة الآخرة، سينتظرون الشفعاء الذين سيأذن الله لهم بها يوم القيامة، ويستمر انتظارهم وفزعهم واضطرابهم، إلى أن تظهر الحقيقة:
«قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ، وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ، وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ـ- وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ، حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ، قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ، قَالُوا الْحَقَّ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ»، «سبأ ٢٢ -٢٣»
ويسأل المنتظرون: «مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ»؟! فتأتي الإجابة: «قَالُوا الْحَقَّ»، أي قال الكلام الحق، فما هو هذا الحق، النافي تماما لاحتمال وجود هذه الشفاعة في الآخرة؟! تدبر قوله تعالى:
«وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ـ- وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ»، «الزخرف ٨٦ -٨٧»
نلاحظ أن الآيات التي وردت فيها مسألة «الشفاعة» في الآخرة، تتحدث سياقاتها عن عقائد المشركين المزيفة، فهل يمكن أن يشهد المشركون وآلهتهم المزعومة بالحق، وهم يعلمون أن الذي خلقهم هو الله، «فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ»؟!
إن «الحق المشهود» سُنة الله في الحساب والثواب والعقاب، في الدنيا والآخرة، لذلك لا يشفع في الآخرة إلا «الحق» الذي حمله الإنسان في الدنيا، ووجد ثماره في ميزان حسناته في الآخرة، أما مَن جاء يوم القيامة يحمل «ظلمًا» من الدنيا، فمن أين ستأتي له الشفاعة في الآخرة؟!
«يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِي لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتْ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً – يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً»، «طه ١٠٨-١٠٩»
إن «إذن الله» قائم على علمه المطلق، الذي لا يحتاج لوسيط يذكره سبحانه يوم القيامة بصلاح عبده وتقواه، وما إذا كان «من حمل ظلمًا» يحتاج إلى شفاعة الشافعين أم لا، خصوصا إذا علمنا أن السياق يتحدث عن المجرمين، يقول تعالى «الآية ١٠٢»:
«يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا»
وهذا ما بينته بعد ذلك الآيات «١١٠-١١١» فتدبر:
«يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً – وَعَنَتْ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً»
إن الإذن بالشّفاعة وقبولها دليل على رضا الله عن الشافع، فهل يمكن أن يأذن الله تعالى للشافع (أي يسمح له) أن يشفع في «مَنْ حَمَلَ ظُلْماً» ويقبل قوله: «وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً»، وهو القائل سبحانه: «وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً»،
وفي سياق يتحدث عن مصير المجرمين؟!
لقد وُضعت الموازين بالحق، فلا ظلم يوم القيامة، فقال تعالى «الآية ١١٢»:
«وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً»
إن الجزاء في الآخرة مرتبط بعمل الدنيا، هذا هو ميزان الحق والعدل الذي أقام الله عليه هذا الوجود.
إن ميزان الحساب في الآخرة لا يعرف إلا عمل الإنسان، ومدى موافقته لـ «إذن الله»، فلا يعرف رأفة، ولا محسوبية، ولا مجاملة لأحد، فتدبر:
«يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ـ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه – وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه»
إن الإنسان وحده هو المسئول عن عمله، والله تعالى وحده الذي سيوفيه على هذا العمل الجزاء الأوفى، فتدبر:
«أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى – وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى ـ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى – ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى»
إن الحساب في الآخرة يشمل فريقين من الناس: فريق من أوتي صحيفة أعماله بيمينه، وهم المؤمنون، وفريق من أوتي صحيفة أعماله وراء ظهره، «أو بشماله» وهم الكافرون المشركون، فيقول الله تعالى:
«فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ – فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا – وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا – وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ – فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا – وَيَصْلَى سَعِيرًا»
فأية «شفاعة» هذه التي يمكن أن تخترق ميزان الحق والعدل في الآخرة؟!
إن المؤمن، الذي عمل بمقتضيات الإيمان، سيحاسب حسابًا يسيرا، ويعجَّلُ به إلى الجنة، أما الكافر الذي لم يؤمن، فمصيره جهنم خالدًا فيها، فعلى أي أساس شرعي تكون هناك شفاعة في الآخرة، ومصير كل إنسان سيلقاه منشورا في كتابه؟!
إن شفاعة الآخرة حصاد عمل الدنيا، إنها الجزاء الأخروي على عمل الدنيا، فإذا مات المسلم مذنبًا، غير مُصرّ على ذنبه، ولم يتُب، فأمره مفوّض إلى الله تعالى، فقد يقبل الله شفاعة المستغفرين من المؤمنين، ومن الملائكة، ويمحو ذنوبه، قبل الإعلان عن مصير الناس: فريق في الجنة، وفريق في السعير.
محمد السعيد مشتهري