عندما يكون تعريف «السلف الصالح» تعريفا نبويا، ورد في أحاديث شهد لها المحدثون بأعلى درجات الصحة، بل والتواتر، بدعوى أن «السلف الصالح» لا يُجمعون على ضلالة، لأنهم معصومون، وأن المسلم الحق يستحيل إلا أن يكون سلفياً، لأن الانتساب إلى السلفية يعني الانتساب إلى النبوة..، إذن فنحن أمام مصيبة عقدية وتشريعية!!
وعندما يقرر النبي أن أمته ستتفرق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، هي الناجية، فقالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي، ثم يقول ابن تيمية في الفتاوى: ولهذا وصف الفرقة الناجية بأنها «أهل السنة»، فهم (وسط) في النحل، وأما الفرق الباقية فإنهم أهل الشذوذ والتفرق والبدع والأهواء..، إذن فنحن أمام أزمة فكرية تكفيرية!!
وعندما يكون «أهل السنة» هم الفرقة الناجية، وهم «السلف الصالح»، الذي نزل القرآن يحذّر الناس من مخالفتهم، واتباع سبيل غير سبيلهم، استنادا إلى قوله تعالى:
«وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا»
ويُفسر أئمة «أهل السنة» الآية بمعنى: أي سلك غير سبيل الجماعة التي شهد لهم الرسول بأنها الفرقة الناجية، المتبعة لما كان عليه الرسول وصحبه، ثم نجد أن كل فرقة من الفرق الإسلامية تقول إنها تتبع ما كان عليه الرسول وصحبه، إذن فنحن أمام أزمة عقلية تخاصمية، تشمل جميع الفرق والمذاهب الإسلامية!!
ووسط هذه الأزمة العقلية، التي يشهد بفاعليتها واقع المسلمين، أين نجد «الفرقة الناجية»، وكيف السبيل للوصول إلى »السلف الصالح«، وليس أمامنا إلا هذه السبل التخاصمية المتفرقة؟!
سبق أن قلت في أكثر من مقال، أحدهما بعنوان: «أئمة السلف فسروا السلف في القرآن خطأ واعتبروها مذهبا»، والثاني: «أكاذيب السلفية الوهابية التي يحاولون إقناعنا أنها أحاديث نبوية»، والثالث: «عندما تلبس السلفية الدينية ثوب المرجعية الإلهية»… قلت إن أخطر ما في المرجعية »السلفية الدينية« أنها خدعت المسلمين، فقالوا لهم استحالة فهم كتاب الله بمعزل عن فهم «السلف الصالح»، لأنهم الذين حملوا إلينا نصوص «السنة النبوية»!!
فإذا ذهبنا إلى «السلف الصالح»، وجدنا أن لكل فرقة أئمتها في الحديث، يقولون باستحالة فهم «الحديث النبوي» بمعزل عن شروح أئمة الحديث، فإذا ذهبنا إلى الشروح وجدناهم يقولون باستحالة فهم الحديث بمعزل عن «منظومة فقه السلف»، فإذا ذهبنا إلى فقهاء السلف أئمة المذاهب العقدية والتشريعية، وجدنا صعوبة فهم مصطلحاتهم الفقهية إلا من خلال «منظومة فقه الخلف»!!
فإذا كنا لا نستطيع أن نصل إلى حقيقة «الفرقة الناجية»، وإلى مَن هم «السلف الصالح»، إلا من خلال مرجعيات الفرق والمذاهب الإسلامية المختلفة، وإذا كانت كل فرقة من هذه الفرق تقول نحن «الفرقة الناجية»، ونحن أتباع «السلف الصالح»، فماذا نفعل؟!
يقول ابن تيمية في «شرح العقيدة الأصفهانية»: «ولا تجد إماماً في العلم والدين، كمالك، والأوزاعي، والثوري، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل…، إلا وهم مصرّحون بأن أفضل علمهم ما كانوا فيه مقتدين بعلم الصحابة، وأفضل عملهم ما كانوا فيه مقتدين بعمل الصحابة، وهم يرون الصحابة فوقهم في جميع أبواب الفضائل والمناقب».
والسؤال: لقد توفي آخر صحابي، وهو أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي، عام «١٠٢هـ»، وقيل «١١٠هـ»، فلماذ لم تتوقف مرجعية «السلف الصالح»، من تفسير وحديث وفقه، عند القرن الأول الهجري؟!
ويقول ابن تيمية في »الفتاوى«، عن حجية كلام التابعين من أهل الحديث: «ومن المعلوم أن كل من كان بكلام المتبوع وأحواله وبواطن أموره وظواهرها أعلم، وهو بذلك أقوم، كان أحق بالاختصاص به، ولا ريب أن أهل الحديث أعلم الأمة وأخصها بعلم الرسول صلى الله عليه وسلم»!!
ويستندون في حجية كلام التابعين بقوله تعالى: «وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»؟!
والسؤال: إذا كان «السلف الصالح» هم جيل الصحابة والتابعين، وقد توفي آخر تابعي، وهو خلف بن خليفة، عام «١٨١هـ»، إذن فلماذ لم تتوقف أمهات كتب الحديث عند القرن الثاني الهجري؟! ألم يكن جيل الصحابة
والتابعين كافيا، لبيان وشرح نصوص «السنة النبوية»؟!
علمًا أن قوله تعالى: «وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ» لا علاقة له بجيل التابعين الذين جاؤوا بعد جيل الصحابة، لأن المقصود بقوله تعالى: «وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم» هم الصحابة الذين اتبعوا المهاجرين والأنصار في نصرة النبي بعد فتح مكة: «إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ»، لذلك اشترط الله أن يكون اتباعهم بإحسان: «وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ»، وليس لأغراض ومصالح دنيوية!!
ويذهب ابن تيمية، في «منهاج السنة النبوية»، إلى أن السلف هم أهل الأثر، وهم أهل الاتِّباع، لأنَّ مِن طريقتهم اتباع آثار الرسول، واتباع سبيل السابقين الأولين مِن المهاجرين والأنصار، واتباع وصية الرسول حيث قال: «عليكم بسنَّتي، وسنَّة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ»!!
والسؤال: أليست سنة الخلفاء الراشدين، واجبة الاتباع بنفس درجة اتباع «السنة النبوية»، استنادا إلى هذه الرواية؟! أليس الخلفاء الراشدون من «السلف الصالح»؟!
إذن فلماذا لم يُدوّنوا نصوص »السنة النبوية« في كتاب واحد، تحت إشراف الخلافة الإسلامية وباسمها، بعيدا عن أئمة الحديث، أتباع الفرق الإسلامية المختلفة؟!
ويقول ابن تيمية، في «الفتاوى»: «إن أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية هم أهل الحديث والسنة، الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله، وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله، وأعظمهم تمييزا بين صحيحها وسقيمها، وأئمتهم فقهاء فيها وأهل معرفة بمعانيها، واتباعا لها تصديقا وعملا وحبا، وموالاة لمن والاها، ومعاداة لمن عاداها»!!
فهل يقصد ابن تيمية بقوله عن الفرقة الناجية، إنهم «أهل الحديث والسنة»، فرقة «أهل السنة»؟! أم أنه يتحدث عن »أهل الحديث والسنة« على مستوى الفرق الإسلامية كلها؟! لاشك أنه يقصد «أهل السنة»، إذن فما موقف أهل التفسير والفقه من مسألة النجاة من النار؟!
وإذا كان «أهل الحديث والسنة»، هم «الفرقة الناجية»، لأنهم «أعظمهم تمييزا بين صحيحها وسقيمها»، فهل لم يكن ابن تيمية يعلم، أن النص التشريعي الإلهي، يستحيل أن يأتيه الباطل، حتى يأتي «أهل الحديث والسنة» فيُميّزون بين صحيحه وسقيمه؟!
ما هذا العبث بدين الله تعالى؟!
الغريب، واللافت للنظر، أن أئمة السلف والخلف، على مستوى جميع الفرق والمذاهب الإسلامية، العقدية والتشريعية، لا يملكون الدليل على أن نصوص »السنة النبوية« التي نسبها الرواة إلى النبي، نص تشريعي إلهي واجب الاتباع، وبرهان ذلك أن نجيب على هذا السؤال: عند أي فرقة من الفرق الإسلامية، نجد نصوص «السنة النبوية» الصحيحة؟!
فإذا ذهبنا إلى مفهوم «السلف الصالح»، عند المذهب الأشعري، باعتباره المذهب العقدي للمؤسسة الدينية الرسمية في مصر، وهي مؤسسة الأزهر، وجدنا فضيلة الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، يقول في حديثه مع عمرو الليثي، في برنامج واحد من الناس:
«جمهور الأمة الإسلامية لم يكن على هذا المذهب الذي يُبَشّر به الآن، وهو ما يُسمى بالمذهب السلفي، لكن احنا كأزهر لا نُبّدع ولا نُفسّق هذا المذهب، ولكن نضعه في حجمه الحقيقي».
عمرو: أنا بقول هذا لأن فضيلتك وصفت السلفيين بأنهم «خوارج» هذا العصر
فضيلة الشيخ: هذا الموضوع يحتاج إلى شرح الخلفية التاريخية والعلمية، جمهور المسلمين لم يكونوا على هذا المذهب، جمهور المسلمين كانوا مالكية وشافعية وأحناف، الإمام أحمد بن حنبل، وهو إمام أهل السنة، وهو إمام من أئمة أهل السلف، وليس إمام السلف كلهم، الإمام مالك من أئمة السلف، الإمام أبو حنيفة من أئمة السلف، الإمام الشافعي من أئمة السلف، كثيرون جدا من أئمة السلف، والسلف ليس مدرسة، ليس مذهبًا!!
عمرو: الدارج السلف الصالح، الرسول عليه الصلاة والسلام، والصحابة رضي الله عنهم، والتابعين.
فضيلة الشيخ: شوف كلمة سلف لم ترد في القرآن إلا في موضع واحد، وجاء أيضا في موضع الذم: «فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ – فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِّلْآخِرِينَ»
ولا يوجد حديث عن النبي: «إذا وجدتم اختلافا فعليكم بمذهب السلف»، وإنما «إذا وجدتم اختلافا فعليكم بالجماعة»، حديث يحث على اتباع الجماعة، عليكم بالجماعة، وعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي.
مذهب السلف الآن، هل هو فعلا ينتمي إلى السلف الصالح، أم أنهم يقولون: عليك بمذهب الإمام أحمد بن حنبل فقط، والمذاهب الأخرى مقصاه؟! هذا ليس مذهب السلف، هذا مذهب الغلاة، حتى كانوا يسمونهم غلاة الحنابلة.
وهناك مؤلفات من الحنابلة أنفسهم أرشدونا ونبهونا ألا نصدق هؤلاء، لأنهم لا ينتمون إلى الإمام أحمد بن حنبل، حتى قالوا عنهم كلاما أنا لا أستطيع أن أقوله وصفا فيهم، وكيف أنهم نجّسوا هذا المذهب، أو غيّروا هذا المذهب، كما يُغير ماء البحر…، فيه لبس وتدليس وغش في استخدام هذا المصطلح، إنما الأزهر ينتمي إلى السلف الصالح!
ويقول فضيلته في حديثه مع أحمد عتابي، برنامج «فقه الحياة»:
«المذهب الأشعري، وهو المذهب الوسطي، مذهب السنة والجماعة، وهم الذين يُأولون لا يُفوضون، المفوضون قلة قليلة جدا من عينة الإمام أحمد بن حنبل، أما الأغلبية العظمى من علماء الأمة الإسلامية ومن فقهائها، ومن أئمتها، مُأولون.
فلا معنى أن أظهر تراث المفوضين وأعلنه على أساس أنه الإسلام الذي لا إسلام غيره، ولكن أن يقال إن المذهب الوهابي هو مذهب السلف، وغيره مذاهب ضالة، هذا خطأ وهذا جهل، وهذا إضلال للناس»!!
ويقول فضيلته في حلقة أخرى:
«موضوع السلفية موضوع مُعقد وشائك ومُشكل حقيقة، لأن استغل ضرب الوسط من جميع الجهات الخارجة عن الوسط، تحدثنا في أكثر من حلقة أن السلفية المعاصرة تدعي الانتماء إلى السلف الحقيقي، وسلف الأمة، وهم علماء الأمة وأئمتها، الذين اتخذوا لهم سمتا معينا في التعامل مع النصوص، السلف الحقيقي موجود، ولكن الذين لبسوا قميص السلف ليسوا بسلفيين!!
فيجب تحرير ماذا تعني السلف، السلف الحقيقي ده شيء نفتخر به في تراثنا، ونعتز به تماما، وهو موقف يُظهر مدى دقة الذين اتجهوا هذا الاتجاه الورع جدا، دقتهم في فهم أين يقف العقل، وهؤلاء هم قلب الإسلام، ولكن ليسوا هم في الميدان وحدهم، معهم الذين دخلوا في تفسير الآيات المتشابهات في القرآن الكريم!!
وهنا علينا أن نتوقف عند بعض الجمل التي جاءت في حديث فضيلته:
أولا: «إنما الأزهر ينتمي إلى السلف الصالح»!!
والسؤال: من هم «السلف الصالح» الذي تنتمي إليه مؤسسة الأزهر، وهي المؤسسة الدينية الرسمية؟! الجواب في «ثانيا»!!
ثانيا: »المذهب الأشعري، وهو المذهب الوسطي، مذهب السنة والجماعة، وهم الذين يُأولون لا يُفوضون»!!
والسؤال: سبق أن ذكر فضيلته في حلقة من برنامج «فقه الحياة»، أن الأشاعرة هم أهل السنة، وقال تحديدا: «من هم أهل السنة إن لم يكن الأشاعرة والماتريدية هم أهل السنة»؟!
ثم قال: «هم أهل السنة، والذين يقولون اليوم إنهم هم أهل السنة، قد وُصفوا في مراحل التاريخ بأنهم مشبهة ومجسمة، وكثير من علماء الإسلام من كفرهم»، وقد سبق أن ذكرت حديث فضيلته كاملا والرد عليه في مقال: «عندما يصبح الكافر مؤمنا، حسب هوى المذهب».
نفهم من ذلك أن مؤسسة الأزهر ترى أن «الفرقة الناجية» هي فرقة أهل السنة والجماعة، وتحديدا «السلف الصالح» منها، وهم الذين ينتمون إلى المذهب الأشعري، وهؤلاء هم قلب الإسلام، كما ورد في «ثالثا».
ثالثا: «السلف الحقيقي ده شيء نفتخر به في تراثنا، ونعتز به تماما…، دقتهم في فهم أين يقف العقل، وهؤلاء هم قلب الإسلام»!!
والسؤال: ما معنى قول فضيلته: إن دقة «السلف الحقيقي» في فهم أين يقف «العقل»، ومعلوم أن فضيلته يقصد بـ «السلف الحقيقي» المذهب الأشعري؟!
عندما ظهرت «المعتزلة» مع بداية القرن الثاني الهجري، اهتمت بالدفاع عن الشبهات التي وُجّهت إلى الإسلام، وإلى أسماء الله وصفاته الحسنى، وجعلت «العقل» حاكما على صحة النقل، ثم بظهور أحمد بن حنبل «ت ٢٤١هـ»، في القرن الثالث الهجري، ظهرت أزمة التخاصم والتكفير بين »المعتزلة» و«الحنابلة»!!
ولقد ظلت الأزمة العقدية بين »المعتزلة» و«الحنابلة» قائمة، وخصوصا الغلاة منهم، وانحصر الفكر الإسلامي، وتدين المسلمين، في قضايا «التجسيم والتشبيه»، وهل كلام الله مخلوق أم غير مخلوق، وفي ظل هذه البيئة التخاصمية ظهر أبو الحسن الأشعري، الذي ولد عام «٢٦٠هـ» وتوفي عام «٣٢٤هـ«، وتربى فكريا على أيدي «المعتزلة»، ثم تركهم وأخذ طريقا وسطا بينهم وبين «الحنابلة»!!
ولن أدخل في تفاصيل الخلافات العقدية حول أفعال الله تعالى وصفاته، التي كانت محل صراع وتخاصم بين الفرق والمذاهب المختلفة، في القرنين الثالث والرابع الهجريين، وما زالت إلى يومنا هذا، وهل يجب أن يخضع النقل للعقل، أم العكس، وهل إذا تعارض النقل والعقل وجب تقديم العقل..، فهذا بحر متلاطم الأمواج، لا قرار له!!
ولكن الذي يهمنا في هذا السياق، هو بيان أن الوسطية التي قيل أنها ميّزت المذهب الأشعري عن غيره من المذاهب العقدية، تكمن في قولهم:
إذا كان الحنابلة يقولون: إن كلام الله أزليّ، حتى حروف القرآن اعتبروها قديمة غير مخلوقة، والمعتزلة يقولون: إن كلام الله حادث والقرآن حادث، فإن الأشعرية يقولون إن حقيقة الكلام ليست الحروف والأصوات، بل هي الكلام النفسي القائم بالنفس الإنسانية، فكلام الله النفسي قديم، والقرآن لذلك قديم، أما الحروف والأصوات، أو القراءة، التي هي دلالة على الكلام النفسي، والتي هي فعل القارئ، فمخلوقة!!
وفي ذلك يقول فضيلة الدكتور أحمد الطيب، في حلقة من برنامج «فقه الحياة»، في سياق حديثه عن موقف «الطوائف الكلامية» من كلام الله:
«الاعتزال والحنابلة مذهبان متطرفان، في الوسط جاء الأشاعرة والماتريدية، وهؤلاء هم (أهل السنة والجماعة)…، قالوا كلام الله هو الذي نقول عليه أساسا هو في النفس، فكل معاني القرآن، من أخبار، ومن وعد ووعيد، ومن أمر ومن نهي…، إلى آخره، كل هذه معانٍ كانت ولا تزال قائمة في ذاته تعالى، ولذلك يُسمونه «الكلام النفسي»، فكلام الله هو الكلام النفسي، هو المعاني المجردة التي تقوم بذات مجردة عن الحسّيات».
ولكن، ومن منطلق سنة التخاصم والتكفير بين المذاهب العقدية المختلفة، نجد أن معظم المذاهب العقدية هاجمت المذهب الأشعري، وبيّنت تهافته، وأن ما يدعيه أنصاره من أنه المذهب «الوسط» لا أساس له من الصحة!!
في كتابه «التسعينية»، رد ابن تيمية «ت٧٢٨هـ» على مسألة «الكلام النفسي»، وقول الأشعرية إن الألفاظ والحروف ليست كلاماً، واستدلالهم على ذلك بعدة آيات قرآنية منها قوله تعالى:
«وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ»، «وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً»، «وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ»، وبيّن بطلان استدلالهم هذا!!
فإذا نظرنا إلى المحور الأساس، الذي استند إليه الذين نقضوا مذهب الأشعرية في مسألة «الكلام النفسي»، وجدناهم يقولون إن الأشعرية فرّوا من تشبيه الله بخلقه في الكلام الملفوظ، الذي وقعت فيه المذاهب العقدية الأخرى، ووقعوا في نفس الإشكال عندما شبهوا كلام الله بكلام الإنسان النفسي.
ولذلك اعتبر ابن قدامة العدوي، «ت ٦٢٠هـ»، وهو أحد علماء المذهب الحنبلي، أن الأشعرية فرقة مبتدعة، فقال في «روضة الناظر وجنة المناظر»:
«وزعمت فرقة من المبتدعة، أنه لاصيغة للأمر بناء على خيالهم أن الكلام معنى قائم بالنفس، فخالفوا الكتاب والسنة واللغة والعرف»، ثم بين أدلة بطلان مذهب الأشعرية من الكتاب والسنة واللغة والعرف!!
إن الصراع المذهبي بين العقل والنص، القائم بين أتباع الفرق والمذاهب العقدية المختلفة اليوم، تمتد جذوره إلى القرنين الثالث والرابع الهجريين، وهو في حقيقته صراع تكفيري، قام على اختلاف الرؤيات في مسائل الصفات الإلهية، استنادا إلى تأويلات مذهبية للنصوص القرآنية، قد تحدد على أساسها من هي «الفرقة الناجية»، ومن هم «السلف الصالح»!!
وإذا كان «المذهب الأشعري»، قد ظهر بين القرنين الثالث والرابع الهجريين، وسط هذه البيئة التخاصمية التكفيرية، فمن حق كل مسلم أن يسأل:
إذا كان هذا هو حال الفرق والمذاهب العقدية، التي ظهرت بعد تفرق المسلمين وتخاصمهم وتقاتلهم
إذن فعلي أي أساس شرعي، أو منطقي، يكون أتباع «المذهب الأشعري» هم «الفرقة الناجية» المتبعة لـ «السلف الصالح»
وتكون مؤسسة الأزهر هي المرجع الأساسي فى العلوم الدينية والشئون الإسلامية
والجهة التي من حقها مصادرة الفكر المخالف لمذهبها ومعاقبة صاحبه
بدعوى أنه خالف معلوما من الدين بالضرورة، أو ازدرى الدين الإسلامي؟!
محمد السعيد مشتهري