إن لهذا العنوان قصة، من الضروري أن أعرض جانبا منها، في ظل هذه الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد في مواجهة الإرهاب والتطرف الديني، فإذا بالإرهاب والتطرف الديني يدخل إلينا من باب آخر لا يحمل معه سلاحا، ولكنه أشد خطرا على مستقبل البلاد من الإرهاب المسلح، لأنه يحارب حرية الفكر!!
لقد نشأت في بيئة دينية سلفية، وسط مئات الكتب وعشرات العلماء، وعملت في مجال الدعوة الإسلامية بين طلاب الكليات المختلفة، أحمل إليهم تدين أئمة السلف، وفي أوائل الثمانينيات ظهرت أمامي إشكاليات التراث الديني، ليس فقط على مستوى أهل السنة والجماعة، وإنما على مستوى الفرق الإسلامية الأخرى، ومن هذه الإشكاليات:
أولا: لم أجد عالما من علماء الفرق الإسلامية يفتي في مسألة، إلا وجاءت فتواه وفق مذهبه الذي تخصص فيه، وإذا كان من المتخصصين في الفقه المقارن، فإن اجتهاده يظل مقيدا ومرتبطا باجتهاد أئمة الفقه السابقين، لا يحل له الخروج عليهم، فأمامه سلاح مصوب نحوه يقول: من سبقك في هذا الرأي؟!
ثانيا: إذا كان الأمر سيؤول في النهاية إلى فقه واجتهادات السابقين، إذن فما أهمية «الأحاديث» التي حملت السنة النبوية المبينة والمكملة لأحكام القرآن؟! أليس من المفترض ألا يحتاج البيان النبوي إلى من يبينه؟!
هل المفسرون والمحدثون والفقهاء أولى من رسول الله لتكون لهم مؤلفاتهم في بيان سنته، وصاحب السنة نفسه ليس له مؤلف محفوظ بحفظ الله له، يستقي منه المسلمون سنته، من خلال خطابه المباشر لهم؟!
ثالثا: إن الدراس لعلم الحديث يعلم أن المحدثين دوّنوا «الأحاديث»، بعد قرن ونصف القرن من وفاة النبي، نقلا عن رواة لم يشاهدوا أصلا النبي، فإذا أراد الباحث أن يتحقق من صحة «الأحاديث» التي نسبها المحدثون للنبي، فلن يجد مدونات للصحابة يرجع إليها، ولو كانت هذه المدونات موجودة، لما قام علم الحديث أصلا، ولا علم الجرح والتعديل، ولا ظهر المحدثون، ولا كان هناك ما يُعرف بـ «السند الروائي»، لأن المسلمين وقتها سيرثون كتابا واحدا للأحاديث لا سند له إلا النبي!!
رابعا: لم أجد دليلا واحدا في كتاب الله، ينص على أن الله تعالى أنزل على النبي «نصا تشريعيا» غير القرآن، وأن هناك «شريعة إسلامية» غير التي جاءت أحكامها في كتاب الله، وكل من يقول إن «الشريعة الإسلامية» ومبادئها يمكن أن تُستقى من غير كتاب الله، قد افترى على الله الكذب، فلم يعرف رسول الله وصحبه الذين رضي الله عنهم نصا تشريعيا غير القرآن، وهو الكتاب الذي تعهد الله تعالى بحفظه دون غيره من كتب البشر، بل ونهى الله عن اتباع غيره، فتدبر:
«كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ـ اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ»
وتدبر قوله تعالى محذرا من اتباع شريعة غير الشريعة القرآنية:
«ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ»
والسؤال: إذا لم تكن الشريعة التي أمر الله رسوله اتباعها، وحذره من اتباع غيرها، هي الشريعة القرآنية التي شهد رسول الله تدوينها بنفسه، فهل يُعقل أن تكون هي شريعة أهل السنة، أو الشيعة، أو الأشعرية، أو الحنابلة، أو الوهابية، هذه الفرق العقدية التي لم تظهر إلا بعد قرنين من وفاة رسول الله على أقل تقدير؟!
هذه بعض الإشكاليات التي وقفت عليها خلال رحلتي من الإيمان الوراثي إلى الإيمان العلمي، الأمر الذي جعلني أشعر بخطر عظيم يهدد مستقبل المسلمين، فكيف يأمرهم الله أن يكونوا شهداء على الناس، فلا يستجيبون لأمر الله، ويأمرهم أن يخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، فإذا بهم يخرجون أنفسهم من النور إلى الظلمات؟!
وبناء على هذه الإشكاليات، قررت عقد مؤتمر يحضره علماء من كل فرقة من الفرق الإسلامية، لبحث سبل علاج هذه الإشكاليات، وكان ذلك في أواخر عام ٢٠٠٤م، واقترحت أن يكون عنوان المؤتمر «السنة والتشريع بين أزمة التخاصم والتكفير»، وقمت بإعداد دراسة من ثلاثة أجزاء، شرحت فيها المحاور الرئيسة لهذ الموضوع، وأرسلتها إلى بعض علماء السنة والشيعة والمعتزلة للإطلاع عليها، وإعداد الأوراق البحثية التي ستقدم للمؤتمر.
ولكني علمت أن أحد أعضاء المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، قام بتقديم هذه الدراسة إلى مركز السنة التابع للمجلس، والذي كان يرأسه الدكتور موسى شاهين لاشين، الذي قام بدوره بتشكيل لجنة لإبداء الرأي في هذه الدراسة، وطلب مقابلتي لمناقشتي في محاورها الرئيسة، وبعد ساعات من الحوار معه، أعطاني كتابين أحدهما بعنوان «السنة كلها تشريع»، والآخر بعنوان «السنة والتشريع»، وطلب مني الاطلاع عليهما وأبداء الرأي.
وجدت أنه في كتابه »السنة والتشريع«، وجه اتهامات خطيرة إلى كل من الشيخ محمود شلتوت «شيخ الأزهر الأسبق»، والدكتور عبد المنعم النمر «وزير الأوقاف الأسبق»، والسبب أنهما يقولان إن السنة ليست كلها تشريع، والدكتور موسى يقول إن «السنة كلها تشريع»، فقال «ص٤٧»:
«لكن مشكلة العصر تشكيك بعض علماء المسلمين فيها بصفة عامة بهدف أو بآخر، ولا نبالغ إذا قلنا: إن أعداء الإسلام والمستشرقين بل والاستعمار والغزو الثقافي وراء هذه المحاولات، أو بالأحرى وراء بعض هذه المحاولات، ومما لا شك فيه أن كثيرا ممن يرفع عقيرته في السنة بغير علم، قد رضع لبنا غير لبانها وفطم عن ثدي غير ثديها سواء أدرك ذلك أو لم يدرك».
ثم يرد على ما كتبه الدكتور عبد المنعم النمر في كتاب له باسم «السنة والتشريع»، فيقول »ص ٥٥»:
«يقرر الباحث أن له أن يجتهد كما كان الرسول يجتهد، ويبيح لنفسه أن يخالف حكم الرسول وصريح لفظه ونص حديثه، فيقول في كتابه: «مادام الرسول كان يجتهد، وما دام هذا الاجتهاد قد شمل الكثير من أنواع المعاملات أفلا يجوز لمن يأتي بعده من أيام الصحابة، وحتى الآن، أن يدلي في الموضوع باجتهاده أيضا، ولو أدى اجتهادُه إلى غير ما قرره رسول الله باجتهاده، ولا يصبح ما قرره الرسول باجتهاده حكما ثابتا للأبد».
ويقول في »ص٥٨« عن الشيخ محمود شلتوت: «هذه القضية، السنة كلها تشريع، لم يخالف فيها أحد من علماء المسلمين في أربعة عشر قرنا مضت، ولم نسمع ولم نعلم أن واحدا من علماء المسلمين قسم السنة، أي الحديث، إلى تشريع وإلى غير تشريع، حتى كان النصف الثاني من القرن الخامس عشر الهجري، فكان أول من قسم السنة إلى تشريع وإلى غير تشريع فضيلة المرحوم الشيخ محمود شلتوت في كتابه «الإسلام عقيدة وشريعة»، فيقول:
«إن كل ما ورد عن النبي، ودُوّن في كتب الحديث من أقواله وأفعاله وتقريراته، وكان على سبيل الحاجة البشرية، كالأكل، التزاور، والشفاعة، والمساومة في البيع والشراء، أو كان على سبيل التجارب والعادة الشخصية أو الاجتماعية، كشئون الزراعة، الطب، اللباس، أو على سبيل التدبير الإنساني، كتوزيع الجيوش، وكل ما يعتمد على وحي الظروف الخاصة، فكل ذلك ليس شرعا يتعلق به طلب الفعل أو الترك وإنما هو من الشئون البشرية التي ليس مسلك الرسول فيها تشريعا ولا مصدر تشريع».
ويقول «ص٧٢»: «وهكذا يتبين أن الشبهات التي تعلق بها المخالفون شبهات واهية، نشأ أكثرها من التباس الأمر عندهم، بين التشريع الملزم المطلوب، والتشريع غير الملزم وغير المطلوب، لكنهم كلهم على اختلاف مناهجهم ينفون التشريع عن بعض أفعاله، بل ينفون الرسالة عنه في بعض أقواله، كلهم يقول ذلك، والفرق بينهم في الأفعال التي تطبق عليها هذه الصفة».
انظر وتدبر اتهامه للمخالفين له بقوله: «بل ينفون الرسالة عنه في بعض أقواله»!!
ويقول في «ص١٠٢»: «قد أكون أطلت بعض الشيء، وعذري أن البحث خطير، بل وأخطر ما كتب عن السنة حتى اليوم، وأخطر من كتابة المستشرقين والمبشرين، لأنه ممن ينتسب إلى العلماء المسلمين».
انظر وتدبر قوله: «وأخطر من كتابة المستشرقين والمبشرين»، ولكن المصيبة الأعظم، توظفيه للآيات القرآنية، لإسقاطها على المخالفين لمذهبه، واتهامهم بالضلال ومعصية الرسول ومخالفة أمره، ومن هذه الآيات قوله تعالى في سورة الأحزاب «الآية ٣٦»:
«وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا»
وقوله تعالى في سورة النور «الآية ٦٣»:
«… فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»
ويعلق الدكتور موسى على هذه الآيات بقوله: «وما كان لمسلم يبلغه حديث رسول الله فيرده زاعما أن المصلحة في خلافه.. »، لقد ساوى بين حكم الرسول الذي سمعه الصحابة منه مباشرة، وبين ما سمعه المحدثون من الرواة منسوبا إلى رسول الله!! ثم أخرج »الآية ٦٣» من سياقها الذي يخاطب المعاصرين لرسول الله، والذي يستحيل أن يخاطب غيرهم، لأن الآية تبدأ بقوله تعالى:
«لَّا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا، قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا، فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»
فالتحذير الوارد في قوله تعالى: «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ»، يعود إلى: «الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا»، أي إلى المنافقين الذين كانوا يخرجون من مجلس النبي، متسللّين خفية، يلوذ بعضهم ببعض، أي يستر بعضهم بعضا، فكيف يتحقق ذلك بعد وفاة النبي؟!
ومما يؤكد أن الخطاب كان للمعاصرين للرسول، قوله تعالى في الآية التي قبلها «الآية ٦٢»: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ»
فمن هم الذين قال عنهم الله تعالى: «وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ»؟!
إنهم الصحابة الذين اجتمعوا مع رسول الله في أمر هام، يستوجب عدم الانصراف إلا بعد استئذانه!!
ولكن العقلية السلفية، التي حكمت تدين المسلمين منذ القرن الثالث الهجري، قامت بتوظيف الآيات لخدمة مذاهبها العقدية والتشريعية، فساوت بين أوامر الرسول الصادرة منه شخصيا، وأوامر المحدثين حسب مذاهبهم العقدية، فجعلت مخالفة المحدثين مخالفة للرسول، وأصبح من يخالف البخاري في صحيحه، أو الكُليني في الكافي، مخالفا للرسول، عاصيا لأمره، يُحكم عليه بالردة، لأنه خالف معلوما من الدين بالضرورة، وازدرى الدين الإسلامي!!
ولكن الأعظم من ذلك، أن ينفي الدكتور موسى صفة الإيمان عن الذين خالفوا مذهبه في أن السنة كلها تشريع، واعتبرهم من الذين قال الله فيهم:
«فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا».
فهل يعقل أن يحل «المحدثون»، وعلماء «الجرح والتعديل» محل الرسول في ضمير الخطاب «يُحَكِّمُوكَ»، و«قَضَيْتَ»، ليشمل التحكيم حكمهم بصحة أو عدم صحة مرويات الرواة، حسب مذاهبهم العقدية والتشريعية؟!
وبعد اطلاعي على الكتابين وتدوين ملاحظاتي، ومنها ما ذكرته سابقا، التقيت بالدكتور موسى، وكان يدير الحوار بيننا أحد تلاميذه، والحوار مسجل ومنشور على موقعي «قسم الصوتيات، بعنوان «المذهبية المعاصرة بين أزمة التخاصم والتكفير».
لقد بينت للدكتور موسى أن ما ذكره المخالفون لمذهبه لا يعني أنهم عصوا الرسول وخالفوا أمره، وكفروا بشريعته، فلو بعث الله رسوله ليعيش معنا اليوم، لأنكر معظم مرويات المحدثين!!
لقد نفى الدكتور موسى تكفيره لأحد من المخالفين لمذهبه، فقال: أنا مكفرتهوش، فقلت له: ولكنك قلت إنه خالف الرسول، وكان يجب أن تقول: إنه خالف ما نُسب إلى الرسول، ولا تسقط على من خالفوك الآيات التي تتحدث عن المنافقين الكافرين!! «راجع الجزء الرابع من الحوار»
ثم يأتي الدكتور موسى ويقول إن عدم الإيمان بأقوال الرسول يعتبر عدم إيمان بالرسول نفسه، والقول بعدم قبول أقوال الرسول إلا في ما وافق القرآن «كفرٌ» وإلغاء للعقل، وهذا هو نص ما قاله عني، وعن الدراسة التي قُدّمت إلى مركز السنة:
«كتاباته كلها تعطي أنه لا يقبل قوله (يقصد قول الرسول) في غير القرآن، «وهذا كفر»، ثم كررها: »كفرٌ«!! «راجع الجزء الخامس من الحوار»
إذن فهناك من علماء الأزهر من يُكفّرون المخالفين لمذهبهم، ولن ينفع مؤسسة الأزهر القول إنها حالة فردية، لأن مكانة الدكتور موسى العلمية والوظيفية تجعل فتواه يُعمل بها على الفور، لذلك لم يكن غريبا أن يُصدر مركز السنة تقريره النهائي عن الدراسة التي أعدتها من ثلاثة أجزاء، وسميتها «نحو تأصيل الخطاب الديني»، يقول فيه: «إن الكتاب فكره منحرف، ولا يقتدى به، ولا يؤخذ به، وغير مستقيم»!!
وبناء على هذا التقرير تمت مصادرة الدراسة، ولم يُعقد المؤتمر، وقد نشرت جريدة الحياة قرار المصادرة في عددها ١٥٢٣٤ ديسمبر ٢٠٠٤م، ثم ذهب القرار إلى مجمع البحوث الإسلامية لإبداء الرأي، وظل عدة شهور يُدرس، ثم في الساعة الثانية من صباح الأحد الموافق ٢٩-ـ ٥ ـ- ٢٠٠٥م، تم اقتحام بيتي، وتفتيش كل كبيرة وصغيرة فيه، بحثا عن القلم الذي أكتب به، ثم اصطحابي إلى حجز قسم ثان مدينة نصر، وحُبست فيه شهرا من باب التأديب، أو كما قالوا عند الإفراج عني: هذه فقط «أرصة ودن»!!
عندما تعلن مؤسسة الأزهر، ويعلن علماؤها، أنهم لا يكفرون مسلما، ولا يُخرجونه من دائرة الإيمان، فإنهم يقولون ذلك للإعلام فقط، أما واقع حالهم يشهد أنهم يُكفرون المخالف لهم في المذهب العقدي، بل والتشريعي، فقد أخرج المذهب الأشعري الحنابلة والوهابية من دائرة أهل السنة والجماعة، وإذا كان المذهب الأشعري يرى أن أتباعه هم الفرقة الناجية، فأين إذن يذهب الحنابلة والوهابية؟!
وقد سبق بيان ذلك في مقال بعنوان: «عندما تصبح ثوابت الدين الإلهي ثوابت مذهبية»، وآخر بعنوان: «عندما يصبح الكافر مؤمنا، حسب هوى المذهب».
لذلك أقول: عندما تصادر المؤسسة الدينية الرسمية كتابا دينيا لمخالفته ثوابت الدين، حسب مذهبها العقدي، أو تصادر فكرا حرا بدعوى إنكاره معلوما من الدين بالضرورة، حسب مذهبها التشريعي، ثم يُعاقب صاحب الكتاب، أو صاحب الفكر بأي عقوبة، سواء كانت «أرصة ودن»، أو سجنا لعدة سنوات، أو إعداما، فإنها لا تفعل ذلك دفاعا عن دين الله تعالى، ولا عن سنة النبي، ولا عن ثوابت الدين، وإنما عن مذهبها العقدي والتشريعي، والتاريخ الدموي للصراع بين المذاهب الفقهية والعقدية خير شاهد على ذلك!!
أما بالنسبة لدفاع المؤسسات الدينية عن «دين الله»، فقد حذر «دين الله» من التفرق في الدين، وهذه المؤسسات الرسمية وغير الرسمية تابعة للفرق والمذاهب العقدية المختلفة:
«الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا، كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»!!
وبالنسبة لدفاعهم عن «سنة النبي» فليتفقوا أولا على مفهوم السنة ومصادرها، وهل من حق النبي أن يستقل بالتشريع خارج حدود كتاب الله، فإذا قال الله «اجلدوا»، يقول النبي «ارجموا»؟!
وإذا كانت عقوبة «الرجم» من «السنة النبوية» واجبة الاتباع، فلماذا لم يصدر الأزهر بيانا يكفر فيه الشيخ محمد أبو زهرة، لإنكاره معلوما من الدين بالضرورة، وازدرائه للدين الإسلامي، لأنه أنكر أن يكون الرجم من الشريعة الإلهية، وذلك في مؤتمر دولي، وأمام علماء من الفرق الإسلامية المختلفة!!
أما دفاعهم عن «ثوابت الدين»، فهل تفرق المسلمين إلى فرق ومذاهب عقدية وتشريعية، يُكفر بعضها بعضا، من ثوابت الدين؟! هل مرويات »السنة النبوية«، التي آتاها الباطل من بين يديها ومن خلفها من ثوابت الدين؟!
هل المذهب «الأشعري»، الذي هو مذهب المؤسسة الدينية الرسمية المسؤولة عن مصادرة حرية الفكر، من ثوابت الدين، وقد ولد مؤسسه عام «٢٦٠هـ»، أي بعد وفاة البخاري بأربع سنوات »ت ٢٥٦هـ«؟!
إذن فلتتوقف دعاوي الحسبة، وليتوقف العمل بقانون ازدراء الأديان، حتى تصدر المؤسسة الدينية الرسمية بيانا توضح فيه مفهومها للشريعة الإسلامية، التي تنص المادة الثانية من الدستور على أن مبادئها هي المصدر الرئيسي للتشريع، وما هي المرجعية الإلهية التي تستقى منها هذه المبادئ؟! وهل في هذه المرجعية الإلهية نص يعاقب على ازدراء الدين الإسلامي بأي عقوبة؟!
إن كتاب الله تعالى لا يحمل أي عقوبة على ازدراء الدين الإسلامي، بل ولا على الكفر بآيات الله والاستهزاء بها، فقال تعالى:
«وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ (آيَاتِ اللَّهِ) – (يُكْفَرُ بِهَا) – (وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا) فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا»!!
فهل أمرنا الله تعالى بمعاقبة الذين يستهزؤون بآيات الله بأي عقوبة، أم أمرنا أن ننسحب فورا من المجلس، فإن أقلعوا عن الكفر بآيات الله والاستهزاء بها، أي إن زال السبب الموجب لعدم الجلوس، فلا مانع من أن نستمر في الجلوس معهم؟!
ومن منطلق هذه الآية القرآنية، قطعية الدلالة، ألا يعتبر قانون ازدراء الأديان، مخالفا للشريعة الإسلامية، التي تنص المادة الثانية من الدستور على أن مبادئها هي المصدر الرئيسي للتشريع؟!
محمد السعيد مشتهري
معلومات:
* موسى شاهين لاشين، «ت ٢٠٠٩م»: دكتوراة في الحديث، عمل مدرسا بقسم الحديث بكلية أصول الدين جامعة الأزهر، ثم رئيسا لقسم الحديث، ثم عميدا لكلية أصول الدين، ونائبا لرئيس جامعة الأزهر، ورئيسا لمركز السنة بوزارة الأوقاف.
* الكُليني صاحب كتاب الكافي، «ت ٣٢٩هـ»: محمد بن يعقوب الكليني، صاحب أصح كتاب للحديث عند الشيعة، صنف كتابه في عشرين سنة، وله عدة كتب منها كتاب الرجال، وكتاب الرد على القرامطة، وكتاب رسائل الأئمّة.