تأتي كلمة «الكُفر» ومشتقاتها، في السياق القرآني، وفي اللسان العربي، بمعنى الستر والتغطية والمحو: «كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِه»، «لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ»، قال الفراهيدي «ت ١٧٤هـ» في كتاب العين: «وكل شيء غطى شيئًا فقد كفره»، وقال ابن فارس «ت ٣٩٥هـ» في مقاييس اللغة: «هو الستر والتغطية»، وقال ابن منظور «ت ٧١١هـ» في اللسان: والكفارة هي الفعلة والخصلة التي من شأنها أن تُكفر الخطيئة أي تمحوها وتسترها».
إذن فلماذا يخاف الناس من «الكفر» وهم يعيشون في بيئته، ويُفَعِّلونه في حياتهم؟! ولماذ ينزعج المسلمون من «التكفير»، وكل مذهب من مذاهبهم الدينية يرفع رايته في وجه المخالف له؟! ولماذا قسم أئمة السلف «الكفر» إلى أنواع، ما أنزل الله بها من سلطان، منها ما يُعاقب المرء عليه بالقتل، ومنها ما لا يُعاقب عليه؟!
إن الناس عندما يختلفون في الملل والأفكار والآراء، وعندما يختلف أئمة الفرق والمذاهب الفقهية عقديا وتشريعيا، فإن هذا الخلاف، هو في حقيقته منظومة «تكفيرية»، يريد كلٌ فيها أن يستر ويمحو ملة أو مذهب أو رأي أو اجتهاد الآخر!!
إن الناس لا يخافون «التكفير»، في حد ذاته، لأنه واقع بينهم، وإنما يخافون العقوبات التي فرضتها منظومة الفقه السلفي على »الكافر«، وفي مقدمتها القتل، أو الاستتابة ثم القتل، ثم نقل الخلف عن السلف هذه العقوبات المفتراة على الله ورسوله، فأصبح الإسلام والمسلمون في نظر العالم مرادفا للإرهاب..، فأقول:
أولا: لقد وردت كلمة «الكُفر» ومشتقاتها، في السياق القرآني، «٥٢٢» مرة، حسب آليات البحث على شبكة الإنترنت، ولا يوجد، في سياق هذه الآيات، سياق واحد يأمر الله فيه المسلمين بعقاب الذين كفروا، سواء كفروا بـ «أصول الإيمان»، أي بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، أو بأحكام الشريعة، أو بمذاهب واجتهادات الصحابة والتابعين!!
إن المتدبر لسياق الآيات التي وردت فيها كلمة «الكُفر» ومشتقاتها، يعلم أن »الكُفر» في حد ذاته لا عقوبة عليه في الدنيا، إلا إذا كانت عذابا ينزله الله على ملة الكفر، من كافرين، ومشركين، ومنافقين، وفق مشيئته، فيقول تعالى في عذاب «الكافرين»:
«فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ»
ويقول الله تعالى في عذاب «المشركين»:
«قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ»
ويقول تعالى في عذاب «المنافقين»، الذين أنعم الله عليهم بحياة سعيدة، وبكثرة في الأموال والأولاد، فكفروا بنعمه، وأصبحوا فتنة للمؤمنين:
«وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ»
إننا لن نجد في كتاب الله، أن الله تعالى يعاقب الناس على هوياتهم الدينية، ولا على كفرهم بأصول الإيمان، ولا بأحكام الشريعة، وما نقرأه في أمهات كتب الفرق والمذاهب العقدية، وما نراه يحدث حولنا، لا علاقة له بدين الله الذي ارتضاه للناس جميعا، وإنما هو من تدين أئمة السلف واجتهاداتهم المذهبية، التي حملها المصدر الثاني للتشريع، والتي يتخذها اليوم أئمة كل فرقة، بل وكل مذهب من مذاهب الفرقة الواحدة، سلاحا يعاقب به من خالف مذهبه العقدي أو التشريعي!!
ثانيا: إن المتدبر للسياق القرآني، يعلم أن «الكفر» عبارة عن موقف إيماني، يتخذه المرء عن قناعة ذاتية بما آمن به، وخالف فيه غيره، وقد يحدث هذا الموقف بصفة مؤقتة أو دائمة، فالذي يخالف الآخرين في آرائهم، هو «كافر» بهذه الآراء، وهم أيضا في نفس الوقت «كافرون» بآرائه، فإذا تغيرت الآراء، واقتنع أحدهم برأي الآخر، فقد خرج من حالة «الكفر» إلى حالة «الإيمان».
والذي يعصى ربه، ولا يعمل بشريعته، فهو في حالة تلبسه بالمعصية، «كافر» بربه وبشريعته، فإن تاب وأناب، فقد خرج من الكفر إلى الإيمان، ويمحو الله، أي »يُكَفِّرْ« عنه سيئاته، فيقول تعالى: «وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ..».
إن ماهية «الكفر» تتوقف على طبيعة الشيء الذي يستره ويغطيه، وهل هي حالة مؤقتة، خرج المرء منها، وتاب وأناب إلى ربه، أم هي حالة وموقف دائم، يعيشه المرء ويصر عليه؟!
إن الذي يستر دلائل الوحدانية، بصفة دائمة، كافر بملة الوحدانية، والذي يستر أحكام الشريعة الإلهية ولا يعمل بها كافر بالله وبشريعته، لأن الإيمان لا ينفصل عن العمل، وهذا هو الكفر بملة الإسلام، وحساب «الكافر» في الآخرة.
أما الذي كفر بالله في موقف معين، أو بحكم من أحكام الشريعة، ثم تاب وأناب إلى ربه، ولم يصر على كفره، فقد خرج من حالة الكفر إلى حالة الإيمان، ويُكفِر الله عنه سيئاته، ويعيش ويموت مسلما.
إن حساب «الكافر» في الآخرة، فإن أراد أن يعيش ويموت كافرا، فهذا حقه الذي أعطاه الله له، وحسابه في الآخرة، يقول الله تعالى:
«إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ، ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ، ثُمَّ ٱزْدَادُواْ كُفْراً، لَّمْ يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً»، تدبر قوله تعالى: «ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ».
ويقول الله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»، تدبر قوله تعالى: «وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ».
إن من حق الكافر أن يعيش كافرا بملة الآخر، ويموت على ذلك، والآيات السابقة من البراهين قطعية الدلالة، على أن قتل الكافر بسبب كفره مُحرم شرعا، حتى ولو صاحب الكفر صد بـ «القول» عن سبيل الله، ومشاقة «مخالفة» الرسول، قال تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ»، وقال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ».
تدبر قوله تعالى: «ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ»، فهل رتب الله على «كفر» الكافرين، ومخالفتهم الرسول، أي عقوبة؟!
فلماذا ينزعج الناس من مسألة «التكفير»، في جميع أحوالها وصورها، مادام الأمر مفوضا إلى الله تعالى، وحسابه في الآخرة؟!
إنه في جميع الأحوال والمواقف التي شملتها منظومة «التكفير»، لا يُعقل أن يعاقب كافر كافرًا مثله، لأن الناس جميعا يعيشون داخل هذه المنظومة، ويوم القيامة سيتبرأ المتبوعون من التابعين، أي »سيكْفُرُون بهم«، وكذلك التابعون من المتبوعين، يقول الله تعالى: «ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ، وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا»، كما سيتبرأ الشيطان من أتباعه: «إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ».
ثالثا: إن جميع الآيات القرآنية التي ورد في سياقها قتل الكافرين، لم يكن هذا القتل بسبب «الكفر»، وإنما بسبب عدوانهم وقتلهم المسلمين، فيقول الله تعالى: «أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ..».
تدبر قوله تعالى: «وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ».
ويقول الله تعالى: «وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَٱلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَٱقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلْكَافِرِينَ».
تدبر هذه الجمل: «مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ»، « وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ .. حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ»، «فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَٱقْتُلُوهُمْ».
ويقول الله تعالى: «وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً، فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا».
وهنا يجب أن نتوقف قليلا مع هذه الآية، وهي الآية »٨٩« من سورة النساء، هذه الآية التي أخرجتها المذاهب السلفية الإرهابية من سياقها، واعتبرتها دليلا على قتل الكافر بسبب كفره!!
إن سياق هذه الآية يتحدث عن الأعمال الإجرامية التي يرتكبها المنافقون، ووقوفهم في صف المعتدين في محاربة المسلمين، وهذا ما بينته الآية «٨٨»، حيث يقول الله تعالى:
«فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا ..»، تدبر قوله تعالى «بِمَا كَسَبُوا»، وقد فصل هذا الكسب في قوله بعدها «الآية ٩٠»: «..فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا»، تدبر قوله تعالى: «فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ».
ثم يقول الله بعدها «الآية ٩١»: «..فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ..»، تدبر قوله تعالى: «فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ»، «وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ».
إن أحكام القتال في الشريعة القرآنية تدور جميعها حول محور واحد هو: الحرب والمواجهة «الدفاعية»، ولا توجد آية واحدة تأمر المسلمين بقتال أهل الملل الأخرى حتى يُسلموا!!
رابعا: إن المتدبر لآيات سورة التوبة، يعلم أن السياق من بدايتها يتحدث عن نقض المشركين العهود التي بينهم وبين المسلمين، فأعطاهم الله مهلة «أربعة أشهر» يلتزمون خلالها بهذه العهود، وإلا فليستعدوا للقتال.
ولقد حذر الله المسلمين من مكر المشركين، فقال تعالى في «الآية ٨»: «كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ»، وقال تعالى في »الآية ١٠» : «لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ»!!
تدبر قوله تعالى: «وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ«، ثم استمر السياق يتحدث عن المشركين حتى «الآية «٢٨، وقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ..»، ثم تحول الخطاب فجأة في الآية «٢٩» إلى الأمر بقتال فريق من «الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ»، حتى «يُعْطُوا الْجِزْيَةَ»، فقال تعالى:
«قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ»؟!
والسؤال: ما علاقة »الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ« بالمشركين، خصوصا وقد جاء الأمر بقتالهم «حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ» في سياق الحديث عن المشركين؟!
الجواب: إننا إذا تدبرنا «الآية ٤»، وهي قوله تعالى: «إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ».
نعلم أن من شروط الوفاء بالعهود مع المشركين، ألا يتحالفوا مع أحد ضد المسلمين، لقوله تعالي: »وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا«، إذن فدخول فريق من »الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ« في هذا السياق، يعني أن تحالفا حدث بينهم وبين المشركين، للتآمر والاعتداء على المسلمين، فأصبحوا في خندق واحد يتصفون بهذه الصفات: «لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ»، ومعلوم أن المشركين لا شريعة لهم، ولا يدينون دين الحق، فلماذا تحالفوا مع الذين أوتوا الكتاب؟!
إن مسألة «الجزية»، لا يمكن فصلها عن سياق الآيات «١- ٢٨» من سورة التوبة، والتي تحدثت عن نقض المشركين العهود، وما كان بينهم وبين المسلمين من مواثيق..، كما لا يمكن فصلها عن ما عُرف عند العرب باسم «الجزية»، هذه الكلمة التي جاءت معرفة بأل التعريف: «حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ»، لبيان أن العرب كانوا يعرفونها قبل نزول القرآن.
إن العرب كانت تعلم أن «الجزية» جزاء مالي، أي عقوبة مالية، تُدفع في حالة مخالفة شرط من الشروط المنصوص عليها في المواثيق والعهود المبرمة بين الطرفين، فهي فعلة من »الجزاء«، كما ذكر ذلك ابن منظور في اللسان.
ولقد تحالف فريق «مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ» مع المشركين، للاعتداء على المسلمين، مخالفين بذلك شرط «لَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا»، فكان عليهم دفع «الجزية» المنصوص عليها في المعاهدات، عقوبة لهم على هذا التحالف، ولم يكن الأمر بقتالهم لأنهم رفضوا الدخول في الإسلام، كما يدعي أئمة السلف، وإنما لأنهم اعتدوا على المسلمين.
إن الشريعة القرآنية يستحيل أن تُغير موقفها من مبدأ «السلام» مع أهل الملل الأخرى، ولا تُجبرهم على اعتناق الإسلام بأي صورة من الصور، فقد وضعت القاعدة العامة المحكمة: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ»، والله تعالى لم يقل: «قاتلوهم حتى يسلموا»، وإنما قال: »حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ«، فعليهم أن يختاروا: بين القتال أو دفع «الجزية»،
وليس بين القتال أو الدخول في الإسلام، ولذلك أحاط الله حكم إعطاء «الجزية» بقيدين:
الأول: «عَن يَدٍ»، لبيان قوة وقدرة الجيش المسلم على القتال، وعلى إبادة المعتدين، ولكنه سيقبل «الجزية»، إن أراد المعتدي إعطاءها، احتراما للعهود المتفق عليها.
الثاني: «وَهُمْ صَاغِرُونَ»، والصغار والصغر ضد الكبر، والمراد هنا شعور المعتدي بانكسار شوكته، واضطراره أمام قوة الجيش المسلم إلى دفع «الجزية»، وهو خاضع لأحكام الشريعة، وليس المراد، كما يدعي أئمة السلف، تحريض المسلمين على امتهان كرامة الذين أوتوا الكتاب، وإذلالهم، أثناء إعطائهم هذه »الجزية«!!
لقد مُلئت أمهات كتب الفرق والمذاهب المختلفة بأحكام وفتاوى التكفير، شملت أصول الدين وفروعه، وسُفكت الدماء، ومازالت تسفك، بسبب هذه المنظومة التكفيرية، التي حملها المصدر الثاني للتشريع، والتي يستحيل أن يستغنى عنها أئمة الخلف، بدعوى أنها حملت مرويات «السنة النبوية»، التي هي «وحي يوحى»!!
إذن فكيف نطالب بتجديد «الخطاب الديني»، في ظل هذا التراث الديني الدموي، المفترى على الله ورسوله، الذي جعل تدين أئمة السلف حاكما على الدين الإلهي؟!
محمد السعيد مشتهري