نحو إسلام الرسول

(401) 15/12/2015 (القرآن «آية إلهية» … رغم اختلاف مصاحفه)

إن ربط مسألة الإسناد بالقراءات القرآنية، وهو القاعدة الرئيسية التي قام عليها علم الحديث، لإثبات أن القرآن وصل إلينا بـ «الرواية» عن رسول الله، كما وصلت إلينا «أحاديثه»، أمر في غاية الخطورة على الفكر الإسلامي، وعلى ثقافة المسلمين الدينية!!

إن أقصى ما يمكن أن يتوصل إليه علم الإسناد، هو إثبات صحة ما نسبه الرواة إلى رسول الله من قراءات قرآنية، ودين الله لا تثبت حجيته بصحة النسبة إلى الرسول، وإنما بصحة النسبة إلى الله تعالى، الأمر الذي يحتاج إلى برهان من الله يثبت هذه الحجية، وهذا البرهان لا يملكه علم الإسناد، وهذا ما غاب عن أئمة السلف والخلف، وعن أنصار فقه الحداثة والمعاصرة!!

إنني عندما أريد الاستدلال بكلام الله تعالى أقول: قال الله، وأقرأ الآية مباشرة من المصحف، دون إسنادها إلى أحد من البشر، ولو كان الرسول نفسه، فإذا سألني سائل: وما الدليل على أن هذا الذي تقرؤه هو كلام الله؟! هنا لزم البيان:

(أولا): يستحيل أن يُثبت أحد، من الإنس والجن أن هذه الجمل المدونة في المصحف هي كلام الله عن طريق علم الرواية والإسناد، ذلك أن آخر ما يمكن أن يتوصل إليه هذا العلم هو إثبات مدى صحة النسبة إلى رسول الله، وليس إلى الله تعالى، وهذا هو مربط الفرس!!

إن الذي يحتاج إلى «سند» هو الشيء المائل الذي لا يقوم إلا به، وإلا وقع، وإذا كان هذا هو حال «الأحاديث» التي نسبها الرواة إلى رسول الله، والتي يستحيل أن يكون لها وجود أصلا إلا بـ «السند الروائي»، فإن كلام الله يستحيل أن تثبت حجيته بهذا «السند الروائي»، وها هي أمهات كتب «علوم القرآن» أمامكم، أروني كيف أثبتت، بمذاهبها ومدارسها العقدية المختلفة، أن الجمل المدونة في المصحف اليوم هي كلام الله؟!

(ثانيا): إن القراءات القرآنية المنتشر مصاحفها بين المسلمين اليوم، هي:

١- قراءة حفص «ت١٨٠هـ» عن عاصم «ت١٢٧هـ».
٢- قراءة ورش «ت١٩٧هـ» عن نافع بن عبد الرحمن «ت١٦٩هـ».
٣- قراءة قالون «ت٢٢٠هـ» عن نافع بن عبد الرحمن «ت١٦٩هـ».

فإذا نظرنا إلى هذه المصاحف، لن نجد سورة واحدة مختلفة في قراءة من هذه القراءات عن غيرها، ولا حتى أصغر سورة، وهي الكوثر، فماذا يعني هذا؟!

إن الله تعالى عندما أراد أن يقيم الحجة على المكذبين بنبوة رسوله محمد، لم يطلب منهم أن يأتوا بكلمة من كلمات هذا القرآن، أو برسم مختلف لها، أو بإعراب مختلف، أو أن يغيروا الفعل الماضي إلى الحاضر أو المستقبل…، وإنما طلب منهم أن يأتوا بسورة واحدة من مثله، فعجزوا أن يأتوا حتى بمثل سورة الكوثر، فهل اختلفت سورة الكوثر، بجملها الثلاث، الموجودة في هذه المصاحف بقراءاتها المختلفة؟!

أليس وجود قوله تعالى: «وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ…»، في هذه المصاحف، بقراءاتها المختلفة، دليلا على أن عجز أهل اللسان العربي أن يأتوا بسورة من مثله قد شمل سور هذه المصاحف، بقراءاتها المختلفة، وبالتالي تكون قد حملت جميعها «الآية الإلهية» الدالة على أن هذا القرآن هو كلام الله يقينا؟!

لقد أحصى الدكتور محمد الحبشي، ما ورد من اختلاف بين المصاحف، في كتابه «الشامل في القراءات المتواترة»، وهي رسالة دكتوراة، يقول في المبحث الثالث منها، تحت عنوان: «حصر تفاوت مصاحف الأمصار»:

«ولنأخذ الآن في إحصاء ما ورد من خلاف في الرسم بين المصاحف العثمانية على سبيل الإحاطة المستوعبة»، ثم قال: «سائر الاختلاف في الرسم محصور في (٤٩) كلمة…»، ثم ذكر الآيات التي وردت فيها هذه الكلمات بصورها المختلفة، ويمكن للقارئ الكريم أن يطلع على هذا المبحث، وغيره من عشرات الدراسات، ليقف على ما حملته هذه الاختلافات من صور بلاغية!!

(ثالثا): إن «الآية الإلهية» هي البرهان الدال على صدق الله في ما أنزل، وصدق الرسل في ما بلغوا عن ربهم من رسالات، ولقد كانت هذه الآيات حسية، لا تقوم حجيتها إلا على من شاهدها، فإذا توفى النبي انتهت بوفاته فاعلية آيته، ثم بعث الله نبيه الخاتم محمدا، بـ «آية عقلية»، لا تنتهي فاعليتها بوفاته، بل تظل قائمة بين الناس إلى يوم الدين.

إن «الآية العقلية» الدالة على صدق «نبوة» رسول الله محمد، هي كتاب الله الخاتم، ورسالته إلى الناس جميعا، هي القرآن الكريم، ولا تثبت حجية هذه الآية بنصوصها المدونة في المصاحف فقط، وإنما بتفاعلها مع المقابل الكوني لها في هذا الوجود، ولقد سبق أن ذكرت البراهين الدالة على ذلك في مقالي: «حجية القرآن ليست في نصوصه فقط، وإنما في مقابلها الكوْني».

إن كل المصاحف المتداولة بين أيدي المسلمين اليوم، كتاب إلهي واحد، يبدأ بسورة الفاتحة، وينتهي بسورة الناس، ويشهد بدلائل الوحدانية، وبصدق «نبوة» رسول الله محمد، وقد حمل للناس الآية بمعناها الكوني، وهو تفاعل كلام الله المقروء مع مقابله الكوني، الذي لا حدود له، وهذا ما نفهمه من قوله تعالى: «قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا».

(رابعا): إننا قد نعلم اليوم الحكمة من اختلاف المصاحف وقد لا نعلمها، وقد يأتي من يعلمها، ثم يأتي من هو أعلم منهم، وهذا وجه من الوجوه الدالة على أن هذا القرآن من عند الله يقينا، وسأضرب بعض الأمثلة، لبيان أن هناك من لهم دراية بعلم البيان، ففهموا الاختلافات الموجودة بين كلمات بعض الآيات على النحو التالي:

الأول: يقول الله تعالى في سورة آل عمران «الآية ١٨٤»:

«فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ»

لقد أضيف حرف «الباء» إلى كلمة «البينات» فقط، ولم يضف إلى كلمتي «الزبر» و«الكتاب»، وهكذا كُتبت هذه الآية في جميع المصاحف المتداولة اليوم: بقراءة حفص عن عاصم، وبقراءة ورش وقالون عن نافع.

ولكننا نجد أن قراءة هشام عن ابن عمر،أضافت حرف «الباء» إلى كلمتي »الزبر» و»الكتاب«، فجاءت الآية هكذا: «فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَبالزُّبُرِ وَبالْكِتَابِ الْمُنِيرِ»، كما نجد أن ابن زكوان قرأها عن ابن عمر بإضافة حرف الباء إلى كلمة «الزبر» فقط، فجاءت الآية هكذا: «فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَبالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ».

فإذا نظرنا إلى جميع المصاحف المتداولة بين المسلمين اليوم، لا نجد فيها إضافة حرف «الباء» إلى كلمتي «الزبر»، و«الكتاب»، إذن فما الحكمة من زيادة حرف «الباء» في القراءات الأخرى؟!

إن الحكمة نجدها في علم «الحذف والإضافة»، فإذا قلت: مررت «بزيد وعمرو»، يفهم من كلامك أنك مررت بهما في مرور واحد، أما إذا قلت: مررت «بزيد» و«بعمرو»، بإضافة حرف «الباء» إلى عمرو، يفهم من كلامك أنك قد مررت بهما في مرورين!!

إذن، فإضافة حرف »الباء« إلى الكلمة، قد أفاد معنى جديدا إلى السياق، وإلا ما كان لإضافته معنى، وهنا تكمن الحكمة من اختلاف القراءات، فهو ليس اختلاف تضاد وإنما مزيد بيان، وبرهان ذلك أن جميع المصاحف التي لم تضف حرف «الباء» إلى كلمتي «الزبر» و«الكتاب»، جاءت وأضافته إلى نفس الكلمتين في «الآية ٢٥»، من سورة فاطر، فتدبر:

«وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ»!!

المثال الثاني: يقول الله تعالى في سورة الروم، «الآية ٩»:

«أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً …».

لقد وردت كلمة »مِنْهُمْ«، في قوله تعالى: «أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً«، أيضا في قوله تعالى في سورة فاطر »الآية٤٤«، وقوله تعالى في سورة غافر، »الآية٢١«، إلا أننا نجد ابن عمر قرأها «مِنْكُمْ»، في سورة غافر فقط، فهل هناك حكمة في ذلك؟!

نعم، هناك في علم البيان ما يُعرف بتوجيه الضمائر، وبأسلوب الالتفات من الغيبة إلى الحضرة، فإذا أريد توجيه الضمير إلى الغائب استخدمت كلمة «منهم»: »كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً«، وإذا أريد الالتفات من الغيبة ومخاطبة الحضور، استخدمت كلمة »منكم«: »كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً«، وهذه الأساليب البيانية لها ما يؤيدها من كتاب الله، كقوله تعالى في سورة يونس «الآية ٢٢»: «هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ».

فنلاحظ أنه بدأ بخاطب الحضور: »هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ»، يذكرهم بنعم الله عليهم، ثم انتقل إلى الذين كفروا بنعم الله، وتحدث عنهم بضمير الغيبة: «وَجَرَيْنَ بِهِم»، والذي يؤكد أن ضمير الغيبة يعود إلى الذين كفروا بنعم الله، قوله تعالى بعدها «الآية ٢٣»: «فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ»، والمؤمنون الشاكرون لا يبغون في الأرض بغير الحق!!

المثال الثالث: يقول الله تعالى في سورة آل عمران، «الآية ١٤٦»: «وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ».

قرأ قالون وورش عن نافع هذه الآية: »وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قُتِلَ مَعَهُ»، وليس «قَاتَلَ مَعَهُ»، فمن قرأ: «قُتِلَ مَعَهُ» كان قوله تعالى: «فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ..» مدحا للبقية الذين لم يقتلوا، ومن قرأ: «قَاتَلَ مَعَهُ»، كان قوله تعالى: «فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ..»، مدحا للمقاتلين جميعا، وكان من قُتل منهم داخلا في المدح، فتكون كلمة «قَاتَلَ» أعم.

المثال الرابع: يقول الله تعالى في سورة البقرة، «الآية ١٢٤»: «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ».

يعتقد البعض أن كلمة «إبراهيم» كُتبت في سورة البقرة، في جميع المصاحف، من دون حرف «الياء»: «إِبْرَهِم»، مع إضافة الألف الصغيرة بعد الراء، ثم جاءت في باقي السور بحرف «الياء»: «إبراهيم».

إن كلمة «إِبْرَاهِيمَ» كُتبت في المصاحف، حسب قراءة ورش وقالون عن نافع، في جميع سور القرآن بحرف »الياء«: »إِبْرَهِيمَ«، مع إضافة الألف الصغيرة بعد الراء، وقُرأت كذلك حسب قراءة ابن كثير، وشعبة عن عاصم، وأبي جعفر، ويعقوب الحضرمي، ولم تُكتب من دون حرف «الياء»: «إِبْرَهِم«، إلا في سورة البقرة فقط، بقراءة حفص عن عاصم، ومع ذلك يقرؤها المسلمون »إِبْرَاهِيمَ»!!

والسؤال: مع وجود عشرات الدراسات المنشورة على شبكات التواصل الاجتماعي تجيب عن جميع شبهات المشككين في حفظ الله لكتابه، وتبين الحكمة من اختلاف المصاحف، هل وجدنا قارئ من القراء، على مر العصور، استغل مسألة اختلاف المصاحف، للطعن في حفظ الله لكتابه، وفي صدق «نبوة» رسول الله محمد؟!

الجواب: «أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»

محمد السعيد مشتهري

معلومات:

* علم الإسناد: علم يبحث في الطرق الموصلة إلى مصدر قائل الحديث، عن طريق الرواة الذين نقلوا عنه حديثه، ويستخدمه علماء الحديث لمعرفة صحة الحديث وضعفه، عن طريق بحث أحوال هؤلاء الرواة، من حيث الجرح والتعديل.

علوم القرآن: هي ما دونه أئمة السلف في أمهات الكتب من علوم التفسير، وأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، والقراءات، والرسم العثماني، وكل ما يتعلق بالدراسات القرآنية من فقه اللسان العربي، ويشمل إعراب القرآن وصوره البلاغية.

أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى