حجية القرآن ليست في نصوصه فقط، وإنما في مقابلها الكوْني
لقد أنزل الله القرآن على قلب النبي الخاتم محمد، عليه السلام، وسمى ما كان يتنزل «كتابا»، قبل استكمال نزول آياته، وذلك لبيان أن هذا القرآن، المجموع في قلب النبي، ستُدوّن آياته في الصحف، ولن يتوفى النبي إلا وهي مجموعة في كتاب، يعلم الناس أوله وآخره، وكلماته وسوره، ولقد جاءت سورة البقرة ببيان هذه الحقيقة، فقال تعالى:
«الم – ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ».
لقد جاء اسم الإشارة «ذلك» في سياقه المحكم، فاستعمل للإشارة إلى القريب، وهو مقدار ما نزل من آيات قبل هذه الآية، واستعمل للإشارة إلى البعيد، وهو ما سيلحق ما نزل من آيات، كما استعمل لبيان علو شأن الكتاب، وأنه محفوظ بحفظ الله له، وهذا ما يُفهم من قوله تعالى: «لَا رَيْبَ فِيهِ»، ومن قوله تعالى في سورة الحجر (الآية ٩): «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ».
إن حفظ الله للذكر الحكيم، لا يعني حفظ ورق المصحف من أن يمسه أحد بسوء، فقد شاهد الواقع على مر العصور حرق المصاحف، وحدوث تحريفات وأخطاء مطبعية لم تُكتشف إلا بعد أن انتشرت بين الناس، ولم يتدخل الله لمنعها، فلم تشل يد وهي تقوم بتحريفه، ولم تحرق ماكينة الطباعة التي أخطأت!!
إن حفظ الله للذكر الحكيم، يشمل حفظ الكلمة، وحفظ المسمى المقابل لها في الآفاق والأنفس، ولذلك سمى الله تعالى الجملة القرآنية «آية»، ووصفها بالذكر: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ»، وقال تعالى في سورة ص: «وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ».
إن الإنسان لا يستطيع الوقوف على حقيقة شيء لم يشاهد مُسماه من قبل، ولا يمكن أن يتذكر شيئا لم توجد له صورة ذهنية عنده، ولذلك وصف الله الجمل القرآنية (المتلوة) بالآيات، فقال تعالى في سورة آل عمران: «ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ»، والتلاوة هنا تعني اتباع ما يتلى.
ووصف الله الجمل القرآنية (المدونة) في الكتاب بالآيات، فقال تعالى في سورة الحجر: «الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ».
ووصف الله الجمل القرآنية (المقروءة) بالآيات، فقال تعالى في سورة النمل: «طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ».
و«الآيات» هي «البراهين» الدالة على الوحدانية، وعلى صدق النبوة، وحكمة التشريع، والتي يعجز الجن والإنس أن يأتوا بمثلها، وهذا دليل على أن حفظ «الذكر» لا ينظر إليه من منظور الجمل القرآنية المدونة في الكتاب فقط، وإنما بالنظر إلى المقابل الكوني لها، الذي حملته آيات الآفاق والأنفس، وهذا ما نفهمه من قوله تعالى:
«قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا».
إن كلمات الله هي دلائل وحدانيته القائمة بين ذرات هذا الكون، والتي يستحيل فصل أجزائها عن بعضها، ومنها كلمات الله التي أنزلها على النبي الخاتم محمد، عليه السلام، لذلك قال بعدها:
«قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا».
إن قضية إقامة البراهين الدالة على صدق نسبة هذا القرآن إلى الله تعالى، ليست خاصة بعصر الرسالة فقط، ولا بالعرب وحدهم، وإنما هي للناس جميعا، على مر العصور، وإلى يوم الدين، يقول الله تعالى في الآية (٢١) من سورة البقرة:
«يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ».
ثم ذكر بعدها دلائل الوحدانية التي تقتضي إخلاص العبودية لله تعالى، والتصديق برسالة النبي الخاتم، فقال تعالى (الآية ٢٢):
«الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ».
وبعد أن بيّن الله حجية الآيات الدالة على الوحدانية، انتقل إلى بيان حجية المقابل لها في كتاب الله، فقال تعالى (الآية ٢٣):
«وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ».
إذن، فلم يكن المقصود بقوله تعالى: «فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ»، أن يأتوا بمثل الجمل القرآنية التي تكونت منها السور، من حيث نظمها وبلاغتها، وإنما أن يأتوا أيضا بالمقابل الكوني لها، ولذلك عقب بقوله تعالى:
«فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ»؟!
إن قوله تعالى مخاطبا المكذبين: «وَلَن تَفْعَلُوا»، كان يجب أن يدفعهم إلى تكثيف الجهود والاستعانة بالإنس والجن «ليفعلوا»، ولكنهم وقفوا عاجزين عن أن يفعلوا شيئا، بعد أن أدركوا أن «المثلية» ليست في الإتيان فقط بمثل «الجمل القرآنية»، وإنما بمثل «الآيات القرآنية»!!
فما فائدة أن تحاكي أو تستنسخ نصوصا بلاغية قرآنية، ثم تعطي ظهرك للمحور الأساس في هذه القضية، وهو المقابل الكوني لها، خاصة وأن قوله تعالى: «فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ» جاء في سياق بيان دلائل الوحدانية: «فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ»، ومن هذه الدلائل إثبات أن هذا القرآن من عند الله تعالى!!
فتدبر قوله تعالى: «فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ»، ثم قوله بعدها: «فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا»!!
وقوله تعالى في سورة الإسراء: «قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا»!!
فهل يُعقل أن يقول الله تعالى للعرب، وللإنس والجن، في عصر الرسالة، وعلى مر العصور: «وَلَن تَفْعَلُوا»، «لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ»، أي في الحاضر والمستقبل، وإلى يوم القيامة، ثم يكون هناك من يستطيع أن يأتي بسورة واحدة من مثله، في أي عصر، أو يقوم بتحريفها، إلا إذا كان المقصود أن يكون هو المبدع لمقابل الكوني لها؟!
إن أقصر سورة من سور القرآن، هي سورة الكوثر، فعدد كلماتها عشر (١٠)، يقول الله تعالى: «إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ – فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ – إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ»
فهل استطاع أحد من أهل اللسان العربي، المرتابين المشككين في حفظ الله لكتابه، المتخصصين في فنون البلاغة والمعاني والألفاظ، أن يحاكي هذه الجمل القرآنية الثلاث، ويخلق المقابل الكوني لها؟!
إن المحاور الرئيسية التي تدور حولها هذه الجمل القرآنية الثلاث هي:
أولا: إثبات الوحدانية: في ضمير «إِنَّا»: «هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ»؟!
ثانيا: إثبات النبوة: في « أَعْطَيْنَاكَ»: «أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ»
ثالثا: إثبات أحكام الشريعة، وارتباطها بالوحدانية: «فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ»
رابعا: موقف النبي من أعدائه: «إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ».
وهذه كلها ليست جملا قرآنية فقط، وإنما هي آيات إلهية، يستحيل أن يأتي أحد من أهل الفصاحة والبيان، بالمقابل الكوني لها، إلا إذا كان هو الخالق، الله عز وجل؟!
إن البرهان على أن القرآن، الذي بين أيدي المسلمين اليوم، هو «الآية الإلهية»، الدالة على صدق نبوة رسول الله محمد، هو تفاعل نصوص هذا القرآن مع آيات الآفاق والأنفس، قال تعالى:
«سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ».
إن قوله تعالى: «حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ»، برهان على أن القرآن حق، وآيات الآفاق والأنفس حق، لذلك عقب بقوله: «أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ»، لبيان أن هذه المنظومة الكونية التي حملها كتاب الله، والمنظومة المشاهدة التي حملتها آيات الآفاق والأنفس، هي منظومة محكمة، متصلة الحلقات، لا تنفصل أجزاؤها أبدا، وذلك بشهادة الله تعالى، فكيف يتم اختراقها، أو العبث بها وتحريفها؟!
إن فالعلاقة بين «القرآن»، و«الكون»، علاقة وثيقة، يستحيل أن يخترقها إنس ولا جان، ومن الآيات القرآنية التي جاءت تبيّن هذه العلاقة، قوله تعالى:
«أَوَ لَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ، وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ، فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ؟!
فتدبر قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ»، وعلاقته بقوله تعالى: «فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ»، لتقف على معنى المقابل الكوني للقرآن.
ولذلك عندما طلب المكذبون الآيات الحسية، نزل القرآن يبين للناس هذه المسألة، فقال تعالى:
«وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ، قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ«.
ثم بيّن الله بعدها أن الآيات الحسية تنتهي فاعليتها بوفاة النبي، أما الآية القرآنية فحجيتها قائمة بين الناس إلى يوم الدين، فقال تعالى:
«أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ، أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى، لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ«.
والسؤال: كيف تكون «الآية الإلهية»، التي حملها القرآن، حجة على الناس جميعا، وقد نزلت بلسان العرب؟! وإذا كانت حجيتها قد ثبتت لأهل اللسان العربي، فكيف تثبت لأهل اللسان الأعجمي؟!
أقول: إن حجية «الآية الإلهية» ليست في نصوصها العربية فقط، وإنما في المقابل الكوني لها، وهذا المقابل الكوني حجة على الناس جميعا، فهم يرونه، ويفهمونه بألسنتهم المختلفة، بل ويفهم علماؤهم ما في داخله من آيات وآيات وآيات..، لا يعلمها أهل اللسان العربي!!
ولذلك يكفي لغير العربي، أن يجلس مع من يجيد لغته من المسلمين الدارسين كتاب الله، المتدبرين آياته، ويترجم له النص القرآني، مشيرا إلى المقابل الكوني له، ويخبره أن الذي خلق هذا الكون، هو الذي أنزل هذا القرآن، ولم يظهر من عارض ذلك منذ نزول القرآن وإلى يومنا هذا!!
إن كل ما سبق بيانه في هذا المقال، يتعلق بجانب واحد فقط، من البراهين الدالة على أن هذا القرآن كلام الله يقينا، وهو برهان التفاعل القائم بين كتاب الله المقروء، وكتاب الله المشاهد، وهذا التفاعل قائم بين الناس جميعا، لم ينكره أحد!!
فلماذا لا يؤمنون بمن أنزل هذا القرآن، وبمن بلغ هذا القرآن، وكان هذا القرآن «الآية الإلهية» الدالة على صدق نبوته؟!
أما عن البراهين الأخرى المرتبطة بعلم البيان، وببلاغة وإحكام السياق القراني، فمن أراد أن يقف على فاعليتها، فعليه أن يتعلم اللسان العربي، لأنه المكون الأساس الذي قامت عليه هذه البراهين!!
فإذا اكتفى بأن أهل اللسان العربي قد عجزوا عن معارضة هذه البراهين، فهذا شأنه، وهي طريقة مقبولة من طرق تحصيل العلم.
أما كيف يكون القرآن «آية إلهية»، محفوظة بحفظ الله لها، مع اختلاف المصاحف التي بين أيدينا اليوم، فهذا موضوع المقال القادم.
«أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ، أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى، لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ».
محمد السعيد مشتهري
معلومات:
* الآفاق: جمع أفق، وهو الناحية والجهة، والمقصود إطلاع الناس على دلائل الوحدانية في جميع جهات السموات والأرض، من آيات كونية مثل آيات الشمس والقمر والنجوم، والليل والنهار، والرياح والأمطار، والجبال والبحار والأنهار والنباتات.
* الأنفس: جمع نفس، والمقصود بها الإنسان، وإطلاع الناس على دلائل القدرة الإلهية في داخل جسم الإنسان، وما فيها من إحكام الصنعة وبديع الحكمة، بحيث شملت وظائف الأعضاء التي يعلمها الإنسان، والتي مازال يكتشفها إلى يومنا هذا.