نحو إسلام الرسول

(391) 6/11/2015 (الإسلام.. إسلام الآية القرآنية)

لقد خُتمت «النبوة»، وبدأ عصر تتحمل فيه البشرية مسؤوليتها في التعامل المباشر مع رسالة الله و«آيته القرآنية»، القائمة بين الناس إلى يوم الدين، وأصبح هناك سبيلان للدخول فى الإسلام: الأول، باب «الآية القرآنية»، والثاني، باب «الإسلام الوراثي».

الأول، باب «الآية القرآنية»: التعامل المباشر مع كلام الله، وآيات ذكره الحكيم، من خلال تعلم ودراسة نصوص رسالته الخاتمة، القرآن الحكيم، وهو الباب الذي دخل منه النبى، عليه السلام، وصحبه الذين رضى الله عنهم، ويدخل منه الناس إلى يوم الدين، وليس للإسلام باب غيره.

ولقد سمى الله تعالى المسلمين الداخلين من باب الآية القرآنية «الربانيين»، ووصفهم في كتابه الحكيم بقوله:

«مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ».

إن الإسلام دين العلم، و«الربّانيون» هم العلماء الذين وقفوا على فاعلية آيات الكتاب في الآفاق والأنفس، في كل مجالات العلوم المختلفة، لذلك يستحيل أن يصل المرء إلى «الربانية» دون تفعيل آليات التفكر والتعقل والتدبر والنظر … ، آليات عمل القلب.

والذين يتصورون أن نصوص «الآية القرآنية» يمكن أن تُفهم دون منهجية علمية، تحمل أدوات لفهم سياقاتها وعطاءات كلماتها، للوصول إلى درجة «الربانية»، هؤلاء واهمون، متناقضون في اجتهاداتهم، يُضلون الناس بتأويلات عشوائية متناقضة لا علاقة لها بالفهم الواعي لمنظومة «الآية القرآنية».

إن المسلمين، قبل غير المسلمين، لا يصدقون أن القرآن الذي بين أيديهم اليوم «آية إلهية»، وأنها البرهان الوحيد الذي يملكونه لإثبات صدق «نبوة» النبي الخاتم محمد، عليه السلام، وأنها لا تقل في حجيتها عن «الآيات الحسية» التى أيد الله بها الرسل السابقين، ورآها الناس بأم أعينهم، كعصى موسى، وإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى بإذن الله…، بل إن القرآن هو الذى حفظ خبر هذه الآيات الحسية للناس.

ألم يكن الله تعالى قادرا على أن يجعل آيات هذا القرآن تخرج من المصحف بمجرد تلاوتها، فتكون آية حسية يشاهدها الناس؟! ألم يكن الله تعالى قادرا أن يجعل آيات هذا القرآن تسبح في الهواء أو تمشي على الماء؟! ألم يكن ذلك معينا على إيمان الناس وتصديقهم بنبوة رسول الله محمد، عليه السلام، والإقرار بأن هذا القرآن حقا من عند الله؟!

هل يعلم أتباع الفرق والمذاهب الإسلامية المختلفة لماذا لم تأت آية النبى الخاتم حسية تراها الأعين؟! الجواب: لأن مفعول الآية الحسية ينتهي بوفاة النبى الحامل لها، ولذلك جاءت آية النبي الخاتم آية عقلية تراها القلوب بآليات التفكر والتعقل والتدبر والنظر …، فهى ليست مرتبطة بشخص النبى!

وهل يعلم أنصار وأتباع المنظمات المتطرفة الإرهابية، التي أصبحت اليوم تشكل تهديدا حقيقيا لشعوب العالم وهي ترفع راية الإسلام، أن هذا القرآن ليس ورقا يحمل جملا وكلمات عربية، يوظفونها لصالح شريعتهم الجهادية التي ما أنزل الله بها من سلطان، وإنما يحمل فى ذاته «آية إلهية»، لن يقبل الله تعالى إسلام المرء إلا إذا دخل من بابها، فهل دخلتم الإسلام من هذا الباب؟!

لقد تعامل المسلمون مع القرآن باعتباره كتابا إلهيا، ككتب الرسل السابقين، يدرسون آياته، ويبحثون في إعجازه العددي، وفي حرفه ورسمه …، ويقدمون الأبحاث العلمية عن موضوعاته، ويقرؤونه في المناسبات، وفي الصلاة وتراويح رمضان…، تماما كما فعل أهل الكتب السابقة.

لقد غاب عن أتباع الفرق والمذاهب الإسلامية أن أهل الكتب السابقة ما كانوا ليؤمنوا برسولهم دون برهان يثبت أنه رسول الله، فلولا عصا موسى ما آمن أحد بالتوراة، ولولا الآيات الحسية التي أيد الله بها عيسى ما كانوا ليؤمنوا بالإنجيل، ولولا «الآية القرآنية» ما آمن أحد بالنبى الخاتم محمد.

إنه مع إيماننا بأن العلوم والمعارف، والتقنيات…، سلسلة متصلة الحلقات، ومع اعترافنا بأنه لولا حلقات السلف ما وصلت هذه المعارف إلى الخلف، فإننا نؤمن بأن مجىء رسالة الله الخاتمة «آية قرآنية» حجة على العالمين إلى يوم الدين، وأن حجيتها ليست بشرية، ولا تاريخية، ولا تراثية دينية، وإنما في تفاعل آياتها مع آيات الآفاق والأنفس، تفاعل كل عصر، حسب متطلباته وتحدياته.

لقد جاء الأمر بتدبر القرآن للناس كافة، وليس لفئة معينة، لذلك كان على الناس أن يتعلموا كيف يتدبرون القرآن، لا من خلال تراث المسلمين الدينى، ¬وما حمل من أمهات كتب الفرق والمذاهب المختلفة، وإنما من خلال المنهجية العلمية التي اشترط القرآن اتباعها، وما حملته من أدوات مستنبطة من ذات النص القرآنى، يستحيل فهم أحكام القرآن بمعزل عنها.

إن علماء كل عصر، بتخصصاتهم العلمية المختلفة، مصابيح هداية وإرشاد للناس، ونقل خبرات علمية وتقنية، إنهم والناس جميعا طلاب علم أمام نصوص «الآية القرآنية»، فليس فى الإسلام رجال تفسير وحديث وفقه، فكل هذه التخصصات الدينية ظهرت بعد عصر الخلافة الراشدة، بعد أن تفرق المسلمون إلى فرق عقدية وتشريعية متخاصمة متقاتلة.

وليس في الإسلام منظمات ومؤسسات للإعجاز العلمى للقرآن، منفصلة عن المنظومة العلمية العالمية الحضارية، فالقرآن في ذاته منظومة علمية متكاملة، تحتاج إلى واقع حي تعيش بداخله، يشاهده الناس ويتفاعلون معه، وليس فقط لعقد المؤتمرات وتقديم البحوث، ثم تحفظ بعد ذلك فى الملفات والمكتبات.

الثاني: باب «الإسلام الوراثي»، وهو التعامل المباشر مع كلام البشر وتراثهم الدينى، ومروياتهم المذهبية، من خلال أمهات كتب الفرق والمذاهب الإسلامية المختلفة، وهذا الباب هو الذي دخل منه معظم المسلمين أتباع الفرق والمذاهب الإسلامية المختلفة، وما زالوا يدخلون، ولقد حذر الله تعالى الناس من دخول الإسلام من هذا الباب في أكثر من موضع، ومن ذلك قوله تعالى:

«وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ».

ومصيبة «الإسلام الوراثي» أن أتباعه يفهمون الإسلام من خلال مرجعيات أصحابها في ذمة التاريخ، يأتمرون بأمرهم، ويتحدثون بلسانهم، ويسفكون الدماء بغير حق بفتاواهم، فماذا سيكون موقفكم يوم القيامة إذا علمتم أن تقليد آبائكم بغير علم لن يدخلكم الجنة، وقد حذركم الله من هذا التقليد الأعمى وأنتم ما زلتم في الدنيا؟!

لم تتعلم الشعوب المسلمة أصول المنهج العلمى في التفكير، ولا طرق وأدوات البحث العلمى، لا فى البيئة التي تربت فيها، ولا فى مراحل التعليم الأساسى، وكل ما نسمعه على منابر الدعوة المختلفة عن أمجاد علماء الإسلام الأُول، الذين علموا العالم العلوم، قد ذهب خيره للشعوب التي تربت على المنهجية العلمية في التفكير.

إن تخلف المسلمين وسقوط نهضتهم لم يكن بسبب «الآية القرآنية» التي أنعم الله بها عليهم لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، ولكن بسبب هجرهم للقرآن، فلم يعد القلب الحامل للقرآن يفقه، «قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا»، ولم يعد القلب يعلم، «وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ»، ولم يعد القلب سليما، «إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ»، ولم يعد منيبا، «وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ»، ولم يعد ذاكرا، «مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ».

لقد سقطت قلوب المسلمين في دوامة «الآبائية» والتقليد الأعمى، والاتباع بغير علم، والتغييب العقلى، وأصبح الشغل الشاغل لأئمة السلف والخلف هو علاج أعراض المرض العضال، دون المساس بشعرة منه، فعاشوا حياتهم يجلسون بجوار المريض يبكون، ويصدرون الفتاوى وبيانات الشجب والإدانة، فكانت النتيجة المنطقية أن يُخرجوا الناس من النور إلى الظلمات، ظلمات الجاهلية الأولى التي أنقذهم الله منها، «وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا».

إن الذي يريد أن يعرف حقيقة الإسلام عليه أن يدخل من الباب الذي دخل منه رسول الله وصحبه الذين رضى الله عنهم، وهو باب «الآية القرآنية»، وتناغم نصوصها مع آيات الآفاق والأنفس، ومع آليات التفكر والتعقل والتدبر، فلا إسلام من غير علم، ولا علم من غير تفكر وتعقل وتدبر، فالله تعالى القائل:

«أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ»

إننا لا يمكن أن نحمل للناس الحق والعدل، الهدى والنور، الصلاح والفلاح، التقدم والرقى، ونحن نقدم لهم الإسلام من خلال المرجعيات السلفية، والروايات البشرية، والفهم العشوائى المذهبى لنصوص «الآية القرآنية».

إن كل الجماعات والجمعيات والمنظمات «السلمية والإرهابية» التى ترفع رآية الإسلام، والعمل بالكتاب والسنة، المنتشرة في العالم، كلها لم تدخل الإسلام من الباب الذي دخل منه النبى، عليه السلام، وصحبه الذين رضى الله عنهم، لذلك فإنها التحدي الأكبر الذي يجب أن تواجهه الشعوب بقوة، وإلا فإنها ستدفع ثمن تهاونها وتخاذلها عبودية جديدة في ثوب الجاهلية الأولى.

إنه لا مفر من إعادة تقديم أوراق الالتحاق بـ «المدرسة الربانية» مرة أخرى، وفيها لن يقبل مسلم أن ينسب إلى الله أو إلى رسوله شيئا إلا بالبرهان قطعى الثبوت عن الله تعالى، وليس فقط عن رسوله، بعد أن حكم الإسلام الوراثى «الآية القرآنية»، وحكم الهوى السياق القرآنى، وحكم فقه السلف المؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية، وحكمت القراءات الشاذة للقرآن كثيرا من قلوب المسلمين، والله تعالى يقول:

«أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»

———————
معلومات :
الرَبّانِية: نسبة إلى الرب. والربانى الموصوف بعلم الرب، وهو العالم «العامل» المعلم الراسخ في العلم الحكيم، الدارس فاعلية آيات الكتاب في الآفاق والأنفس، ويرسل الله الرسل ليقولوا للناس: «كونوا ربانيين»، لا «كونوا قرآنيين».

أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى