لقد كان الناس على منهج الله وشريعته أمة واحدة، ففتنهم الشيطان فاختلفوا في الدين، وبغى بعضهم على بعض، فأرسل الله النبيين لهدايتهم وردهم إلى صراطه المستقيم، يقول الله تعالى:
«كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ».
تدبر قوله تعالى:«وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ»، أي أن الذين اختلفوا في الكتاب هم أنفسهم الذين أوتوا الكتاب، وقد اختلفوا: «مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ»، لماذا؟! «بَغْياً بَيْنَهُمْ»!!
أما أن يتعدى البغي الخلاف الفكري والعقدي إلى سفك الدماء بغير حق، فإن المصيبة أكبر!!
إن الله تعالى عندما قال عن الفئة الباغية: «فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ»، فذلك لبيان دور السلطة الحاكمة عند نشوب تقاتل بين طائفتين في البلاد، وقد سبق بيان ذلك في مقال بعنوان: «عند السلفیین .. اقتل أخاك المسلم وادخل الجنة».
يذكر المؤرخون أن الزبير قال لعمار بن ياسر في موقعة الجمل: أتقتلني يا أبا اليقظان؟ ويضربه عمار بالرمح دون أن يدخله في صدره ويقول له: لا يا أبا عبد الله. ويخشى الزبير أن يكون ممن وصفهم الرسول بالفئة الباغية حين قال لعمار: «وَيْحَكَ ابْنَ سُمَيَّةَ تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ»، فيخشى الزبير أن يكون من هذه الفئة الباغية، ويريد أن يكفّ عنه، ولم يقتل أحدهما الآخر.
إن هذه الرواية لم تحدد من هي الفئة الباغية، لذلك فإن «الفئة الباغية» التي قتلت عمار ليست إلا قتلة عثمان، وهي التي سفكت الدماء في معركة الجمل، وفي صفين، وبعدها من مصائب وكوارث، فليست القضية في قتل شخص عمار!!
ولنبدأ قصة البغي من بدايتها: لماذا لم يواجه خليفة المسلمين عثمان بن عفان الفئة الباغية، والفتنة المشتعلة خارج قصره، واكتفى بالصبر، ولم يأمر جيشه بالتدخل لفك حصاره؟! إذن فنحن أمام تصرفات غير مفهومة، وغير مبررة شرعا، ولذلك نحتاج أن نسأل:
أولا: ألا يتحمل خليفة المسلمين وجيشه، وكبار الصحابة الذين جلسوا في بيوتهم خوفا من المشاركة في هذه الفتنة، مسؤولية سفك دماء آلاف الصحابة بسبب سوء إدارة هذه الأزمة، التي قال عنها شيخ السلفيين ابن تيمية: «حتى قُتل بينهم ألوف مؤلفة من المسلمين»؟!
إذن فمن الذي سيتحمل مسؤولية هذه الدماء التي سفكت، والتي امتدت نيران فتنتها إلى ما بعد مقتل عثمان؟! وكيف يقيم علماء الجرح والتعديل مرويات السنة النبوية على قاعدة «عدالة الصحابة»، وقد مس معظمهم الجرح في هذه الفتن الكبرى؟!
ثانيا: أين كانت الأحاديث المنسوبة إلى النبي، وقت حصار خليفة المسلمين عثمان، التي تأمره بقتال الفئة الباغية، وتأمر المسلمين بالوقوف في صف إمامهم، والتي دوّنها المحدثون في كتبهم في عصر التدوين، كسنة نبوية واجبة الاتباع؟!
لماذا لم يطع خليفة المسلمين وكبار الصحابة رسول الله في هذه الأحاديث التي كانت متداولة على ألسنة الرواة في عصرهم، وإلا فكيف وصلت إلى عصر التدوين؟!
أم أن هذه الأحاديث وُضعت لمواجهة إشكاليات سفك الدماء عمدا مع سبق الإصرار والترصد، ثم دُونت في أمهات الكتب كسنة نبوية، كلٌ حسب وجهة نظره في الدفاع عن موقفه وتبرئة ساحته، وذلك لقطع الطريق على المشككين في عدالة الصحابة أو في عصمة الأئمة؟!
ثالثا: لماذا لم تصدر فتوى من كبار الصحابة بكفر الطائفة الباغية التي كانت وراء فتنة مقتل عثمان، هذه الفتنة التي امتدت نيرانها إلى يومنا هذا؟! هل لأن هناك من كبار الصحابة من اتهموا بإشعال نار هذه الفتنة، ثم راحوا بعد ذلك يطالبون بدم عثمان، فحدثت معركة الجمل، كطلحة والزبير؟!
روى الطبري في تاريخه عن علقمة قال، قلت للأشتر: قد كنت كارها لقتل عثمان فكيف قاتلت يوم الجمل «أي مع جيش علي»؟! قال: إن هؤلاء بايعوا عليا ثم نكثوا عهده، وكان الزبير هو الذي حرك عائشة على الخروج فدعوت الله أن يكفينيه، فلقيني كفه بكفه فما رضيت لشدة ساعدي أن قمت في الركاب فضربته على رأسه ضربة فصرعته!!
رابعا: اتفق البخاري ومسلم على تحريم الخروج على الإمام في عدة روايات، منها:
– من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية!!
– ومن رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه، فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبراً فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية!!
– ومن كره من أميره شيئاً فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبراً مات ميتة جاهلية!!
إذن فالذين خرجوا على خليفة المسلمين عثمان بن عفان بغاة ماتوا ميتة جاهلية، فهل اطلع علماء الجرح والتعديل، أتباع الفرق الإسلامية المختلفة، على قلوب من شاركوا في فتنة مقتل عثمان، أو تخاذلوا عن نصرته، فعلموا أنهم تابوا وأنابوا إلى ربهم، لذلك شهدوا لهم بالعدالة؟!
وهل يقبل الله توبة القاتل عمدا مع سبق الإصرار والترصد من غير قصاص؟! وهل شهد التاريخ أن عليا اقتص من قتلة عثمان؟! وهل قامت معارك الفتن الكبرى، التي قتل فيها آلاف الصحابة، من أجل البحث عن قتلة عثمان لقتلهم؟!
خامسا: يروي البخاري في موضعين من صحيحه، الأول: كتاب الصلاة، والثاني: كتاب الجهاد، رواية منسوبة إلى النبي تقول: «ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار»!!
ألا تعتبر هذه الرواية بيانا نبويا يتهم الفئة التي تحارب جيش علي في معركة الجمل «وفيه عمار»، بارتكاب كبيرة من الكبائر لقيامها بدعوة جيشه إلى النار، وعلي ومن معه يدعونهم إلى الجنة، حسب ما ورد في هذه الرواية؟!
وهل يمكن أن تشمل هذه الرواية أيضا معاوية في قتاله لعلي في معركة صفين، والذي راح ضحيتها عدد كبير من كبار الصحابة وأبنائهم؟!
لقد اختلف المحدثون حول جملة وردت في هذه الرواية هي: «يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار»، لماذا؟! لأن هذه الجملة تبين مفهوم كلمة البغي التي وردت في الجملة قبلها، وتجعل البغاة في النار، وبذلك تسقط عدالة كل من شاركوا في أحداث الفتن الكبرى!!
انظر ماذا قال ابن حجر في فتح الباري: «ويظهر لي أن البخاري حذفها عمداً، وذلك لنكتة خفية، وهي أن أبا سعيد الخدري أعترف أنه لم يسمع هذه الزيادة من النبي، فدل على أنها في هذه الرواية مدرجة، والرواية التي بيّنت ذلك ليست على شرط البخاري… »، إلى آخر ما ذكر!!
وقال الحميدي في «الجمع بين الصحيحين»: «ولعلها لم تقع للبخاري أو وقعت فحذفها عمداً»!!
ثم انظر قول النووي في شرحه على صحيح مسلم: «قال العلماء هذا الحديث حجة ظاهرة في أن علياً رضي الله عنه كان محقاً مصيباً، والطائفة الأخرى «بغاة»، لكنهم مجتهدون، فلا إثم عليهم، إلى أن قال: «وفيه معجزة ظاهرة لرسول الله من أوجه منها: أن عماراً يموت قتيلاً، وأنه يقتله مسلمون، وأنهم بغاة، وأن الصحابة يتقاتلون، وأنهم يكونون فرقتين، باغية وغيرها، وكل هذا قد وقع مثل فلق الصبح، صلى الله وسلم على رسوله الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى»!!
انظر وتدبر قول النووي جيدا، وكيف كان أئمة السلف يقدسون هذه الروايات، الظنية الثبوت عن الرواة أنفسهم، بدعوى أنها وحي يوحى!!!
سادسا: ثم يأتي الحافظ ابن كثير فيرفض تكفير البغاة وإن سفكوا الدماء عمدا مع سبق الإصرار والترصد، فيقول في «البداية والنهاية»:
«ولا يلزم من تسمية أصحاب معاوية «بغاة» تكفيرهم، كما يحاوله جهلة الفرقة الضالة من الشيعة وغيرهم، لأنهم وإن كانوا «بغاة» في نفس الأمر، فإنهم كانوا مجتهدين فيما تعاطوه من القتال، وليس كل مجتهد مصيباً، بل المصيب له أجران، والمخطئ له أجر، ومن زاد في هذا الحديث بعد «تقتلك الفئة الباغية»، «لا أنالها الله شفاعتي يوم القيامة»، فقد افترى في هذه الزيادة على رسول الله، فإنه لم يقلها إذا لم تنقل من طريق تقبل والله أعلم».
فها هو ابن كثير يثبت صحة رواية «تقتلك الفئة الباغية»، وينفي صحة الزيادة «لا أنالها الله شفاعتي يوم القيامة»، وعلى كل حال فهذه الزيادة ليست موضوعنا، وإنما انظر إلى قوله: «فإنه (يقصد الرسول) لم يقلها إذا لم تنقل من طريق تقبل والله أعلم»!!
إذن فإثبات حجية أقوال الرسول تتوقف على طرق نقل الرواة لها، وطبعا هذه مسألة مذهبية تتوقف على توجهات الرواة العقدية والتشريعية!!
وهكذا كانت تُصنع الأحاديث المنسوبة إلى النبي عند تدوين المحدثين الأُول لها، ثم يُعاد تنقيتها وفك ألغازها بعد قرون على أيدي جهابذة علم الحديث، وذلك على مستوى الفرق الإسلامية المختلفة!!
والسؤال: عندما خرج خليفة المسلمين علي بن أبي طالب إلى موقعة الجمل لمواجهة الفئة الباغية بقيادة السيدة عائشة وحدثت المعركة، وسفكت الدماء بغير حق، ألم يستخدم حقه الشرعي في ردع هذه الفئة الخارجة على إمامته، حسب ما نصت عليه الأحاديث المنسوبة إلى النبي، والمتعلقة بتحريم الخروج على الإمام، ووجوب قتال الفئة الباغية؟!
إذن، وبصرف النظر عن الخلاف حول زيادة جملة «الدعوة إلى النار» إلى جملة «تقتلك الفئة الباغية»، وبصرف النظر عن أزمة التخاصم بين السنة والشيعة، فإن السؤال المنطقي الذي سينطلق من قاعدة علم الجرح والتعديل:
ألا يعتبر كل الصحابة الذين قاتلوا في جيش السيدة عائشة بغاة لا تُقبل مروياتهم؟!
لقد وقعت هذه الفتن، وهذا البغي، في بداية القرن الأول الهجري، وشارك فيها كبار الصحابة، وكانت بين جيوش مسلمة، فلماذا غض أئمة الجرح والتعديل الطرف عن الصحابة الذين شاركوا فيها؟!
«أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»
معلومات
– البغي: في اللسان العربي له أكثر من معنى، ومن معانيه التعدي على حقوق الآخرين، والتخاصم في الدين القائم على اعتزاز كل صاحب مذهب بمذهبه، وتحميل نصوص الشريعة غير محاملها بهدف إفساد رأي الآخرين!!