نحو إسلام الرسول

(386) 10/10/2015 (علم الجرح والتعديل .. هكذا تحمي كل فرقة مروياتها في كتب الحديث)

لا يشك مسلم أن الله تعالى رضي عن المؤمنين من صحابة رسول الله الذين أخلصوا دينهم لله، وبايعوا الرسول على ذلك، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله. ولا يشك مسلم أن الله تعالى حذر من المنافقين من أهل المدينة ومن حولها من الأعراب، ومات رسول الله وهو لا يعلم من هم، يقول الله تعالى:

«وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ».

فعلى أي أساس شرعي أقام أئمة الجرح والتعديل علمهم بأحوال الرواة الذين قام عليهم علم الحديث، وهناك صفات في البشر تحتاج إلى فترات زمنية طويلة، وإلى مواقف متعددة من الابتلاء والتمحيص، حتى يمكن اكتشافها، خصوصا أن الله وحده هو الذي يعلم ما يحمله الإنسان في قلبه، فهو القائل:

«الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى».

لقد دوّن أئمة الجرح والتعديل كتبهم في معرفة أحوال الرواة على أساس عقدي مذهبي، وليس على أساس أخلاقي، وذلك على مستوى كل الفرق الإسلامية، فجعلوا الشرط الأول لقبول رواية الراوي أن يكون مذهبه العقدي موافقا لمذهب الفرقة التي ينتمي إليها إمام الجرح والتعديل!!

فإذا درسنا مدارس الجرح والتعديل على مستوى الفرق الإسلامية، سنجد أولا أن الإشكال الأكبر هو غياب مدوناتها عن القرن الأول الهجري، وهو القرن الذي حمل الحلقات الأولى من السند الروائي!! وثانيا: لن نستطيع أن نخرج بنتيجة شافية في الحكم على أي راو من الرواة، فالمجروح عند الشيعة عدل عند السنة، بل وسنجد داخل الفرقة الواحدة أن المجروح عند مذهب من مذاهبها العقدية عدل عند مذهب عقدي آخر!!

فإذا ذهبنا إلى مدونات القرن الثاني الهجري، وجدنا الذهبي يذكر قائمة بأسماء جمع من المؤلّفين قيل إن لهم مدونات، وعند التحقيق العلمي لم يعثر إلا على صحف منسوبة إلى الإمام مالك قيل إنها الموطأ، وأصحاب هذه المدونات هم:

ابن جريج «ت١٥٠هـ»، أبو حنيفة «ت١٥٠هـ»، ابن اسحاق «ت١٥٢هـ»، سعيد بن عروبة «ت١٥٦هـ»، الأوزاعي «ت١٥٧هـ»، سفيان الثوري «ت١٦١هـ»، حماد بن سلمة «ت١٦٧هـ»، الليث بن سعد «١٧٥هـ» مالك بن أنس «ت١٧٩هـ»، ابن المبارك «ت١٨١هـ»، ابن وهب «ت١٩١هـ».

قال الذهبي: ومن هذا يُعرف أنّ عمدة التدوين انّما وقعت في القرن الثالث من الهجرة!!

فإذا ذهبنا إلى القرن الثالث الهجري، عصر النهضة الحديثية، الذي ظهر فيه فجأة أصحاب أصح وأشهر أمهات كتب الحديث عند أهل السنة وهي الكتب الستة، نجد كتاب «الطبقات الكبرى»، لصاحبه محمد بن سعد «ت٢٣٠هـ»، وهو أهم كتاب من كتب تراجم الصحابة ومن جاؤوا بعدهم.

لقد قسم ابن سعد المصادر التي استقى منها تراجمه إلى قسمين: قسم لم يصرّح فيه بمصادره، وهو القسم الأكثر من كتابه، وقسم أفصح فيه عن مصادره وعددها ثمانية، وقد ضعف المحدثون كثيرا منها، وسأذكر منها ثلاثة:

١- محمد بن إسحاق «ت١٥٢هـ»: صاحب كتاب السيرة النبوية، اتهمه بعض أهل الحديث بالزندقة، وأنه أدخل في السيرة النبوية روايات منكرة منقطعة، نقل عنه زياد البكائي «ت١٨٣هـ» أخبار السيرة، ثم نقل ابن هشام «ت١٨٢هـ» عن زياد هذه السيرة بعد أن نقحها واختصرها وسماها «سيرة ابن هشام»!!
إن معظم المسلمين يعلمون أن سيرة ابن هشام، «ت١٨٢هـ»، هي المرجع الصحيح لمعرفة السيرة النبوية والأكثر شهرة بينهم، ولكنهم لا يعلمون أن صاحب هذا الكتاب أصلا هو ابن إسحاق، «ت١٥٢هـ»، المتهم من قبل أئمة الجرح والتعديل بالزندقة!!

٢- هشام بن محمد الكلبي الكوفي «ت٢٠٦هـ»: من كبار الأخباريين الشيعة الأُوَل، جرحه أهل السنة لأنه انتقد الأمويين واعتبرهم المسئولين عن الفتنة الكبرى، وأيد العلويين والعباسيين، واعتمد الطبري في تاريخه على روايات الكلبي في الأحداث التي تخدم موقفه من الفتنة الكبرى، ولم ينظر إلى مسألة تشيعه!!

٣- محمد بن عمر الواقدي «ت٢٠٧هـ»: اتُهم بالتشيع، انفرد بروايات وأخبار وأحاديث غير معروفة، بلغ عددها ثلاثين ألف حديث، تباينت آراء المحدثين في درجة توثيقه، واعتبره البعض متروكا لتشيعه، وتبدو ميوله العلوية واضحة في رواياته، فقد أيد علي بن أبي طالب في مواجهته لجيش السيدة عائشة وطلحة والزبير، وكذلك جيش معاوية، وانتقد بشكل حاد سياسة عثمان!!

لقد رمي أئمة الجرح والتعديل الكلبي والواقدي بالتشيع، فمتى علموا بتشيعه؟! الجواب: بعد أن اخترق رواة الشيعة مرويات أهل السنة، وبعد أن دونها المؤرخون والمحدثون في كتبهم، ثم بعد عقود من الزمن اكتشفوا هذا الاكتشاف العظيم!!

لقد أورد الشيخ محمد جعفر الطبسي في كتابه «رجال الشيعة في أسانيد السنة، الصحاح الستة» مئة وأربعين رجلا من رجال الشيعة «١٤٠» دخلوا أسانيد السنة في أصح كتبها مع الإشارة إلى تشيعهم، ومن هؤلاء:

١- سليمان بن صرد الخزاعي «ت٦٥هـ»: ورد في صحيح البخاري وصحيح مسلم، وقال ابن الأثير في أسد الغابة: كان خيّرا فاضلا له دين وعبادة، وقال الذهبي: من شيعة علي ومن كبار أصحابه!!

٢- ظالم بن عمرو الدؤالي «ت٦٩هـ»: ورد في صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وعده يحيى بن معين من الثقات، وكذلك ابن حجر، وقال الذهبي: كان من وجوه الشيعة!!

٣ـ فضيل بن مرزوق «ت٧٠هـ»: ورد في صحيح مسلم، وقال سفيان الثوري: ثقة، وقال الذهبي: كان معروفا بالتشيع من غير سبّ!!

فهذه صورة من الصراع المذهبي الذي كان يحكم قلوب رواة الفرق والمذاهب المختلفة قبل عصر تدوين أمهات الكتب الدينية: «تفسير – حديث – فقه – سيرة»!!

فتدبر قوله الذهبي: «كان معروفا بالتشيع من غير سبّ»، لتعلم أن مسألة سب الصحابة، سواء كانوا من السنة أو الشيعة، مسألة لها جذورها التاريخية، وأن أئمة الجرح والتعديل أقاموا على هذه المسألة توجهاتهم العقدية والتشريعية في الجرح والتعديل!!

إن من فضّل عليّ بن أبي طالب على عثمان قالوا عنه «متشيع»، ومن فضل عليّا على أبي بكر وعمر قالوا عنه «رافضي»، ومن نال من معاوية ومن بني أمية فهو «متشدّد في التشيّع»، ومن نال من أبي بكر وعمر فهو «مغال في الرفض»!!

ووسط هذه البيئة المذهبية التخاصمية، عاش محمد بن إسماعيل البخارى «١٩٤ـ-٢٥٦هـ»، صاحب أصح كتاب من كتب الحديث عند أهل السنة، «صحيح البخاري»، وولد محمد بن يعقوب الكليني عام «٢٥٢هـ»، وهو صاحب أصح كتاب من كتب الحديث عند الشيعة، كتاب الكافي، «ت٣٢٩هـ»!!

هذه هي المنظومة الروائية المذهبية التي ظهر فيها المصدر الثاني للتشريع، الذي يحكم أئمة السلف والخلف على منكره بالكفر، ولكن لماذا هذا الحكم الذي ما أنزل الله به من سلطان؟! الجواب: لحماية هذا المصدر الثاني للتشريع، الذي ظهر ينافس دين الله تعالى ويكون حاكما عليه، بعد أن عجز الشيطان عن اختراق كتاب الله تعالى!!

فإذا سألت معظم علماء المسلمين: هل عقوبة الرجم من الشريعة الإسلامية؟! قالوا: نعم!! هل هي في كتاب الله؟! قالوا: لا!! أليست هذه العقوبة سفكا للدماء بغير حق يُخلد من فعلها في جهنم؟! قالوا: كيف وهي من المصدر الثاني للتشريع الذي حمل «السنة النبوية» التي أوحاها الله لرسوله خارج حدود كتاب الله!! وقد كتبت في هذا الموضوع مقالا بعنوان: «عندما يكون الرجم شريعة يهودية لبست ثوب السنة النبوية»!!

لقد كان الصحابة معاصرين لرسول الله، ومنهم من تولى الخلافة، فلماذا لم يكن تدوين الحديث من أولويات عملهم إذا كان حقا شريعة إلهية واجبة الاتباع؟! وإذا كانت هناك مدونات في القرن الأول الهجري، كما يدعي أهل الحديث، فلماذا لم تأخذ مكانتها العلمية قبل مدونات القرن الثالث الهجري؟!

والسؤال الذي يفرض نفسه دائما: لماذا لم تتول «الخلافة الراشدة»، بمؤسساتها الحكومية المختلفة، مسؤولية تدوين كتب التفسير والحديث والفقه والتاريخ الإسلامي، وأعطت ظهرها لما يفعله المسلمون في دين الله تعالى، كلٌ حسب عقيدته التي تربى عليها، فلا نجد كتاباً من أمهات كتب التراث الديني إلا وصاحبه إن لم يكن إمام مذهب يكون تابعا له مقلدا!!

لقد قام «علم الجرح والتعديل» على أسس وشروط عقدية تحمي كل فرقة بها مروياتها من أن تُخترق من رواة الفرق الأخرى، ومع ذلك حدث الاختراق، ومازال موجودا في الكتب إلى يومنا هذا، ولم يستطع المتأخرون من علماء الحديث أن يحذفوا حرفا منه، لأنهم لو فعلوا هدموا مكانة المتقدمين العلمية، ولذلك اكتفوا بالتنبيه في هذه الكتب على أن هذا الراوي صفته كذا وكذا، فهل هذا العلم المسمى بعلم الحديث يمكن أن يحمل مرويات «السنة النبوية» التي يكفر منكرها؟!

إنه أمر طبيعي أن يكون تراث الأمم ظنياً في ثبوته عن أصحابه، وظنياً في دلالة مروياته، فلا توصف مروياته بالقطعية بأي حال من الأحوال، أما دين الله تعالى فقطعي الثبوت عن الله، فلماذا يصر أئمة السلف أن يجعلوا الظني الثبوت عن البشر حاكما على القطعي الثبوت عن الله، والله تعالى يقول:

«أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»

معلومات:

* ابن جريج: ضعف العلماء رواياته، أباح زواج المتعة استنادا إلى فقهاء مكة ومذهب شيخه عطاء، قال الشافعي: استمتع بتسعين امرأة، وقال الضبي: وتزوج ستين امرأة، وقيل رجع عن المتعة في آخر حياته.

* الزندقة: تعني الإلحاد والابتداع وإنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة، يرمي بها كل إمام من أئمة الفرق المختلفة المخالف له، وهي تعني عند أئمة الجرح والتعديل الطعن الشديد في عدالة الراوي من جهة دينه.

 

 

أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى