نحو إسلام الرسول

(383) 5/10/2015 (فتنة علم الحديث قادتنا إلى المذهبية العشوائية)

إن الدارس لأمهات كتب المؤرخين والمحدثين يعلم أن الأخبار التاريخية والأحاديث المنسوبة إلى النبي قد أُخذت من أفواه الإخباريين والرواة، بعد أن مزقت الفُرقة والمذهبية الأمة الإسلامية تمزيقا، ولم تكن هناك مدونات موثقة يُرجع إليها للتأكد من صحة المنقول حتى منتصف القرن الثاني الهجري وبداية عصر التدوين!!

لقد كان من الطبيعي أن يختلف المؤرخون والمحدثون حول ما صح وما لم يصح من مرويات الإخباريين والرواة التي وصلت إليهم عبر قنوات الاتصال الشفهية، والتي ظهر تعصبها العقدي والتشريعي بوضوح عند تدوين كل فرقة أمهات كتب تراثها الديني!!

[الإخباري: هو من أخذ عنه المؤرخ. والراوي: هو من أخذ عنه المحدث]

يقول شيخ المؤرخين والمحدثين الطبري في مقدمة كتابه «تاريخ الملوك»، والذي يعتبر المصدر الأساس للتاريخ الإسلامي عند أهل السنة:

«فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين، مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجها في الصحة ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا، وإنما من قبل بعض ناقليه إلينا، وإنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أُدي إلينا»!!

لقد ولد الطبري عام ٢٢٤هـ وتوفي عام ٣١٠هـ، وحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، وصلى بالناس وهو ابن ثماني سنين، وكتب الحديث وهو ابن تسع سنين، إذن فقد كان في شبابه ورشده إماما عاصر كبار المحدثين، وفي مقدمتهم البخاري «ت٢٥٦هـ» ومسلم «ت٢٦١هـ».

إذن فعندما يقول الطبري: «إنما أدينا ذلك على نحو ما أُدي إلينا»، هل هذا يعني أن الذي سيتحمل مسئولية إشكاليات المرويات التي دونها في كتبه هم الذين نقلوها إليه، مما يُفهم منه غياب المنهجية العلمية في التوثيق، وأن ذلك كان وراء اختراق الكثير من الموضوعات مروياته؟!

إذن فعلى أي أساس أصبح الطبري إماما؟!

فإذا تركنا القرن الرابع الهجري، وذهبنا إلى القرن السابع، نجد أن ابن الأثير يقول في مقدمة كتابه «الكامل في التاريخ» عن المصادر التي استقى منها مروياته:

«إنني قد جمعت في كتابي هذا ما لم يجتمع في كتاب واحد، فابتدأت بالتاريخ الكبير الذي صنفه الإمام أبو جعفر الطبري، إذ هو الكتاب المعول عند الكافة عليه والمرجوع عند الاختلاف إليه، فأخذت ما فيه من جميع تراجمه، لم أخل بترجمة واحدة منها»، ثم قال:

«فلما فرغت منه أخذت غيره من التواريخ المشهورة فطالعتها وأضفت منها إلى ما نقلته من تاريخ الطبري ما ليس فيه، إلا ما يتعلق بما جرى بين أصحاب رسول الله فإني لم أضف إلى ما نقله أبو جعفر شيئا، وإنما اعتمدت عليه من بين المؤرخين إذ هو الإمام المتقن حقا، الجامع علما وصحة اعتقاد وصدقا»!!

إن ابن الأثير «ت٦٣٩هـ» هو صاحب كتاب «جامع الأصول في أحاديث الرسول»، الذي جمع فيه أحاديث الكتب الستة المعتمدة في الحديث وهي: الموطأ، صحيح البخاري، صحيح مسلم، سنن أبي داود، سنن الترمذي، سنن النسائي، وكان يرى أن موطأ الإمام مالك أصح من صحيح البخاري، لذلك كان يقدمه على البخاري، كما هو مدون على غلاف كتابه.

و ابن الأثير هو صاحب كتاب «النهاية في غريب الحديث والأثر»، وصاحب كتاب «أسد الغابة في معرفة الصحابة»، فهو مؤرخ ومحدث، فلماذا جعل الطبري المرجع الأساس في التاريخ؟! الجواب: لأن وجهة نظر الطبري في الأحداث التاريخية تتماشى مع وجهة نظر ابن الأثير، خصوصا في ما يتعلق بأحداث الفتن الكبرى، لذلك قال في كلامه السابق:

«إلا ما يتعلق بما جرى بين أصحاب رسول الله فإني لم أضف إلى ما نقله أبو جعفر شيئا، وإنما اعتمدت عليه من بين المؤرخين، إذ هو الإمام المتقن حقا، الجامع علما وصحة اعتقاد وصدقا».

لقد اعتمد ابن الأثير على شيخه الطبري في مرويات أحداث الفتن الكبرى لاعتقاده أن الطبري محدثٌ ومؤرخٌ وأمامٌ لا شك في علمه وصدقه، وعليه فهو المسؤول عن مروياته، فهل كان ابن الأثير يعلم أن الطبري استقى معظم مروياته من إخباريين متهمين بالتشيع والزندقة وسوء الحفظ؟!

إذن فقد أراح الطبري «ت٣١٠هـ» نفسه وحَمّل الأخباريين المسؤولية، وأراح ابن الأثير «ت٦٣٩هـ» نفسه وحَمّل الطبري المسؤولية، وأراح ابن خلدون «ت٨٠٨هـ»، نفسه وحَمّل الطبري المسؤولية، فقال في مقدمته:

«هذا آخر الكلام في الخلافة الإسلامية، وما كان فيها من الردة والفتوحات والحروب ثم الاتفاق والجماعة، أوردتها ملخصة عيونها ومجامعها، من كتاب محمد بن جرير الطبري، وهو تاريخه الكبير، فإنه أوثق ما رأيناه في ذلك، وأبعد عن المطاعن والشبه في كبار الأمة وأخيارها، وعدولها من الصحابة والتابعين».

والسؤال: لماذا ذهب ابن خلدون إلى القرن الرابع الهجري ليتخذ الطبري مرجعا، وترك ابن كثير «ت٧٧٤هـ» الأقرب إليه، وهو الإمام المؤرخ صاحب كتاب «البداية والنهاية»، والمحدث صاحب كتاب «جامع السنن والمسانيد»، والمفسر صاحب كتاب «تفسير القرآن العظيم»، وهو الأشهر عند بين أهل السنة؟!

الجواب: لاختلاف التوجهات العقدية والتشريعية بين أئمة السلف، وخاصة مسائل الأسماء والصفات المتعلقة بذات الله تعالى، والتي سُفكت في سبيلها الدماء على مر العصور، ولا أريد أن أشغل القارئ بها، وقد أشرت إليها في مقال سابق بعنوان «عندما تصبح ثوابت الدين الإلهي ثوابت مذهبية».

وتعالوا نلقي نظرة على آراء أئمة الجرح والتعديل في الطبري، وهو الإمام والمرجع، من خلال كتاب «المعجم الصغير لرواة الإمام ابن جرير الطبري» للشيخ أكرم بن محمد الأثري، الذي ذكر فيه آراء أئمة الجرح والتعديل في كل الرواة الذين ذكرهم الطبري في كتبه المسندة المطبوعة، وهي: «التفسير، التاريخ،-تهذيب الآثار، صريح السنة»، فقال في خلاصة البحث:

أولا: «بلغ عدد الرواة الذين روى عنهم الطبري في سائر كتبه نحو (٧٢١٤)، وهو قريب من مجموع عدد رجال الكتب الستة مجتمعين، حيث بلغ مجموع رجال الكتب الستة المترجمين في «تهذيب الكمال» (٨٦٤٠)».

ثم قال: «وأكثر رواة الطبري من الشيوخ الذين روى عنهم أصحاب الكتب الستة أيضا»، يقصد: البخاري «ت٢٥٦هـ»، مسلم «ت٢٦١هـ»، الترمذي «ت٢٧٠هـ» ابن ماجة «ت٢٧٣هـ» أبو داود «ت٢٧٥هـ» النسائي «ت٣٠٣هـ».

والسؤال: إذا كان «أكثر رواة الطبري من الشيوخ الذين روى عنهم أصحاب الكتب الستة» فلماذا لم يأخذ الطبري مكانته العلمية وسط هؤلاء؟!

ثانيا: «كثرة الأخبار والآثار الضعيفة والموضوعة، رغم كثرة طرقها وشواهدها ومتابعاتها، رغم أن للطبري منهجه الخاص به في تصحيح الأحاديث الضعيفة، بل والموضوعة أيضا».

والسؤال: هل كان السبب وراء عدم أخذ الطبري مكانته العلمية بين أصحاب الكتب الستة أنه كان صاحب منهجا خاصا في تصحيح الأحاديث الضعيفة والموضوعة، لذلك لم يلق قبول المحدثين، فأسقطوه كمحدث وجعلوه إماما مؤرخا، فلم نعرف الطبري إلا مؤرخا ومفسرا؟!

ثم ما الفرق بين الطبري مؤرخا والطبري محدثا ومنهج الطبري في تصحيح الضعيف والموضوع في الحالتين واحد؟!

الحقيقة إن أكبر فتنة ابتلي بها المسلمون بعد الفتن الكبرى هي فتنة علم الحديث «المذهبي»، الذي صنعه أئمة كل فرق من الفرق الإسلامية، بل وأئمة كل مذهب من مذاهب الفرقة الواحدة، بما يتماشى مع توجهاتها العقدية والتشريعية!!

إن ما اتُهم به الطبرى المحدث اتهم به كل أئمة الحديث عند الفرق الإسلامية، وهذه الحقيقة يعلمها أهل هذه الصنعة، ولكنها للأسف غائبة عن عامة المسلمين من أتباع الفرق المختلفة، الأمر الذي يدعوني إلى تبسيط هذه الإشكاليات بجرعات قليلة في مقالاتي، لتبصير المسلمين بحقيقة هذا العلم، الذي يستحيل أن يحمل وحيا إلهيا باسم السنة النبوية أو الحديث النبوي، يكفر منكره!!

ثالثا: «كثرة المبهمين الذين يبهمهم من رجاله في مواضع، ويصرح بهم أو لا يصرح بهم في مواضع أخرى من كتبه، وقد بلغ مجموعهم (٥٥٠) مبهما».

إن هذه الإشكالية لا تخص الطبري وحده، فسواء عرف الباحث الرواة أو كانوا مبهمين فإن القضية قي اليد التي تحمل ميزان الجرح والتعديل، وهل هي يدٌ سنية أم شيعية، فإذا حملته يد شيعية فإن النتيجة ستختلف تماما!!

لقد أورد الباحث، نقلا عن أئمة الجرح والتعديل، الصفات التي جرحوا على أساسها رواة الطبري، ولنا أن نتخيل لو أن ميزان الجرح والتعديل كان في يد شيعي، أو في يد مذهب من مذاهب أهل السنة العقدية، كالأشعرية أو القدرية أو المرجئة، فماذا ستكون النتيجة؟!

فمما ذكروه عن صفات الرواة: «ثقة فقيه عابد رُمِيَ بالتشيع، صدوق رُمِيَ بالقدر وكان يدلس، رُمِيَ بالنصب، رُمِيَ بالرفض، فقيه صدوق سني، صدوق تُكُلِمَ فيه لبدعة الخوارج، أول من تكلم في الإرجاء، صدوق كثير الخطأ والتدليس، متروك الحديث وكان صالحا في نفسه، مقبول، ضعيف، ضعيف جدا، مجهول، منكر الحديث، كان يكذب، سكت عنه البخاري، لا بأس به».

فهل هذه شريعة يكفر من ينكرها؟!

لقد اتخذ المحدثون مرويات الرواة مصدرا تشريعيا إلهيا ثانيا باسم «السنة النبوية» بدعوى أنها المبينة للقرآن والمكملة لأحكامه، وذلك لإعطاء شرعية لكل المصائب التي حلت بالمسلمين بعد تفرقهم وتخاصمهم وسفك دماء بعضهم بعضا، والمصيبة الأكبر أنهم أفتوا بكفر من ينكر نصوص هذه «السنة المذهبية»، التي لا علاقة لها أصلا بدين الله وشريعته القرآنية!!

«أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»

معلومات:

* النواصب: مصطلح ديني أطلق على من ناصبوا العداء لعلي بن أبي طالب وأهل بيته، وحكموا عليهم بالكفر أو الفسق، بالقول أو الفعل، وقد ظهر في أحداث الفتن الكبرى، وإسقاطه على أرض الواقع اليوم جهل وإفساد في الأرض.

* الروافض: مصطلح سياسي أطلق على من رفضوا خلافة أبي بكر وعمر، ولا علاقة له بعلي وأهل بيته الذين لم يخرجوا على الثلاثة الراشدين، ثم ظهر في أحداث الفتن الكبرى، وإسقاطه على أرض الواقع اليوم جهل وإفساد في الأرض.

أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى