نحو إسلام الرسول

(382) 29/9/2015 (عند السلفيين .. اقتل أخاك المسلم وادخل الجنة)

إن تهاون أئمة السلف في مسألة القتل العمد مع بقاء القاتل على إيمانه، كان سببا في استحلال أتباع الفرق الإسلامية دماء بعضهم بعضا على أساس أن المتقاتلين مؤمنون، لن يخلدوا في جهنم، وسيخرجون منها مع العصاة الموحدين إلى الجنة، كما كان سببا في قبول علماء الجرح والتعديل مرويات المتقاتلين على أساس عدم انتفاء شرط العدالة عنهم لأنهم مؤمنون!

يقول ابن حجر العسقلاني في «فتح الباري شرح صحيح البخاري»، كتاب الفتن، باب إذا التقى المسلمان بسيفيهما، تعليقا على رواية البخاري عن الحسن البصري: «خرجت بسلاحي ليالي الفتنة»: والمراد بالفتنة الحرب التي وقعت بين علي ومن معه، وعائشة ومن معها!

ثم ينقل عدة روايات من صحيح مسلم تتحدث عن حكم من اشتركوا في هذه الفتنة، فيقول: وفي رواية مسلم فالقاتل والمقتول في النار، قيل فهذا القاتل يستحق النار فما بال المقتول، أي فما ذنبه؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه!

ونقل عن أحمد: حدثنا محمد بن جعفر بهذا السند مرفوعا ولفظه: إذا التقى المسلمان حمل أحدهما على صاحبه السلاح فهما على جرف جهنم، فإذا قتله وقعا فيها جميعا! وعن النسائي عن أبي بكرة قال: إذا حمل الرجلان المسلمان السلاح أحدهما على الآخر فهما على جرف جهنم، فإذا قتل أحدهما الآخر فهما في النار!

ثم يقول ابن حجر بعد ذلك: قال العلماء معنى كونهما في النار أنهما يستحقان ذلك، ولكن أمرهما إلى الله تعالى إن شاء عاقبهما، ثم أخرجهما من النار كسائر الموحدين، وإن شاء عفا عنهما فلم يعاقبهما أصلا!

إذن، وحسب ما نقله أمير المؤمنين في الحديث ابن حجر عن أئمة السلف، يصبح كل من اشترك في فتنة معركة الجمل من الجانبين في النار، وإذا كان أمر المتقاتليْن معلقا بمشيئة الله: «إن شاء عاقبهما … وإن شاء عفا عنهما»، فهل اطلع أئمة الجرح والتعديل على مشيئة الله حتى يصدروا حكمهم بعدالة الصحابة وعصمة أئمة أهل البيت، الذين شاركوا في موقعة الجمل؟

ويقول ابن حجر: واحتج بهذا الحديث من لم ير القتال في الفتنة، وهم كل من ترك القتال مع علي بن أبي طالب في حروبه، كسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، ومحمد بن مسلمة، وأبي بكرة، وغيرهم، وقالوا: يجب الكف حتى لو أراد أحد قتله لم يدفعه عن نفسه!

إذن فهناك من الصحابة من لم يشارك في فتنة موقعة الجمل لأنهم كانوا يعلمون أن في كتاب الله آية تقول:
«وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً»، فمن اتصف بصفة الإيمان يستحيل أن يقتل مؤمنا إلا إذا حدث ذلك عن طريق الخطأ!

وعند حديثه عن تخلف أسامة بن زيد عن المشاركة في جيش علي، مع علمه أن عليا كان ينكر على من تخلف عنه، ولا سيما مثل أسامة الذي هو من أهل البيت، يقول ابن حجر: فاعتذر بأنه لم يتخلف ضنا منه بنفسه عن علي ولا كراهة له، وأنه لو كان في أشد الأماكن هو لأحب أن يكون معه فيه ويواسيه بنفسه، ولكنه إنما تخلف لأجل كراهيته في قتل المسلمين!

إذن فهناك من أهل البيت من امتنعوا عن المشاركة في فتنة معركة الجمل لعلمهم أن القاتل والمقتول في النار، ولكن هل الذين لم يمتنعوا وشاركوا في القتال وسفكوا الدماء كانوا يعلمون أنهم بقتالهم هذا سيدخلون النار ومع ذلك أصروا على القتال لعدة أيام؟

لقد كان المخرج الوحيد من هذه الأزمة، أن يضع أئمة الجرح والتعديل قاعدة تحمي كل من اشتركوا في معركة الجمل من أن يمسهم أحد بجرح، فذهب أهل السنة إلى القول بـ «عدالة الصحابة»، وذهب الشيعة إلى القول بـ «عصمة الأئمة»، وعلى هذا الأساس لم تخضع طبقة الصحابة ولا طبقة أئمة الشيعة لميزان الجرح والتعديل، وأصبح من يمسهم بسوء كافر مرتد حلال الدم!

ولكن لماذا أخرج أئمة الجرح والتعديل الصحابة وأئمة أهل البيت من دائرة الجرح والتعديل؟! لأن كثيرا من كبار الصحابة وأئمة أهل البيت اشتركوا في أحداث الفتن الكبرى، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، بداية بمقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان، وهي معارك سفكت فيها الدماء مع سبق الإصرار والترصد، فلو دخل هؤلاء الصحابة والأئمة دائرة الجرح لسقطت الحلقة الأولى من حلقات السند الروائي، وقد سبق أن بيّنت ذلك في مقال بعنوان: «سقوط الحلقة الأولى من حلقات السند الروائي»!

لذلك وجدنا ابن حجر يقول: واتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك ولو عُرف المحق منهم، لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد، وقد عفا الله تعالى عن المخطئ في الاجتهاد، بل ثبت أنه يؤجر أجرا واحدا وأن المصيب يؤجر أجرين!

فكيف يكون قتال المسلمين وسفك دماء بعضهم بعضا عن اجتهاد، ويكون المجتهد في الرأي له أجران إن أصاب، وأجر إن أخطأ، ومعلوم أن القتل الخطأ لا يكون أبدا عن تعمد مع سبق الإصرار والترصد! فكيف يكون أحد الفريقين مأجورا وكل منهما كان حريصا على قتل الآخر مع إشراقة شمس كل يوم من أيام معركة الجمل، كان يتم خلالها تجهيز الأسلحة القتالية التي تحقق لكل فريق النصر على الآخر؟

وينقل ابن حجر مذهب أهل السنة في مسألة الخروج على خليفة المسلمين فيقول: وذهب جمهور أهل السنة إلى تصويب من قاتل مع علي لامتثال قوله تعالى «وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا.. الآية»، ففيها الأمر بقتال الفئة الباغية، وقد ثبت أن من قاتل عليا كانوا بغاة، وهؤلاء مع هذا التصويب متفقون على أنه لا يذم واحد من هؤلاء بل يقولون اجتهدوا فأخطؤوا!

إذن فجمهور أهل السنة يعتبر جيش السيدة عائشة هو الفئة الباغية! إذن فهل كانوا يعلمون أن من بين هذه الفئة الباغية كبار الصحابة وعلى رأسهم طلحة والزبير، وهما من المبشرين بالجنة، الأمر الذي يجعلنا نسأل: ألا تعتبر رواية العشرة المبشرين بالجنة من الروايات التي وُضعت في زمن الفتنة حتى لا تُمس الطائفة التي فيها أحد المبشرين بالجنة بسوء؟!

وهل عندما يستدل جمهور أهل السنة على تصويب من قاتل مع جيش علي بقوله تعالى:
«وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ»؟!

ويقولون إن هذه الآية هي الدليل على وجوب قتال جيش السيدة عائشة لأنه الفئة الباغية، فهل سيشفع لهم هذا الاستدلال يوم القيامة، وهذه الآية لا تصلح مطلقا دليلا على ما ذهبوا إليه، لأنها لا تتحدث عن سفك للدماء مع سبق الإصرار والترصد لعدة أيام؟!

إن من معاني كلمة «اقْتَتَلُوا» تشاجروا وتتضاربوا، وقد استخدمها السياق القرآني بهذا المعنى عند الحديث عن المشاجرة التي تمت بين الرجلين اللذين تدخل موسى عليه السلام للفصل بينهما، فقال تعالى:

«وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ (يَقْتَتِلَانِ) هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ»!!

فهل ما حدث في موقعة الجمل كان مشاجرة بين طائفتين، أم قتالا كانت الدولة طرفا فيه؟! إن فعل الأمر «فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي»، خطاب للدولة، التي هي السلطة الحاكمة في البلاد، ولا يعني هذا الأمر اسفكوا دماء الطائفة الباغية، وإلا ما قال بعدها «حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ»، وما قال بعدها «فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا»، وما قال بعدها:

«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ»، فكيف يتم الصلح مع موتى سُفكت دماؤهم؟!

لقد حرف أئمة الجرح والتعديل مفهوم الاقتتال الوارد في هذه الآية ليصبح معناه القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد، وبذلك يكون الذين سفكوا الدماء عن عمد في موقعة الجمل مؤمنين لا تسقط عدالتهم، وبالتالي لا يسقط علم الحديث!

ولكن المتدبر لكتاب الله يعلم أن ورود صفة الإيمان في السياق القرآني ليس بالضرورة أن تكون محققة في الذين وصفهم الله بها، فقد يأتي الوصف لمجرد الادعاء، ثم يثبت الواقع العملي صدق أو كذب هذا الادعاء، ودليل ذلك قوله تعالى:

«قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ».

ويقول الله تعالى:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ».

وفي هذه الآية يصف الله النساء المهاجرات بالإيمان على أساس ادعائهن ذلك، وبعدها خاطب المؤمنين بقوله تعالى: «فَامْتَحِنُوهُنَّ»، ليتحققوا بأنفسهم من صدق هذا الادعاء، ثم قال: «فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ»، أي بعد التاكد من صدق إيمانهن: «فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ».

عندما تتحول المشاجرة بالأيدي والعصي إلى قتال بالأسلحة البيضاء، ويسقط آلاف القتلى خلال أيام مع سبق الإصرار والترصد، فأي شريعة هذه التي لا تخلع صفة الإيمان عن المتقاتلين، والله تعالى يقول:

«وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا».

معلومات:

* ابن حجر العسقلاني «ت٨٥٢هـ»: أطلق عليه المحدثون لفظ «الحافظ» لتفرده من بين أهل عصره في علم الحديث حتى قالوا إن أمير المؤمنين في الحديث لحفظه وإتقانه للحديث، ومن أشهر مؤلفاته «فتح الباري شرح صحيح البخاري» في خمسة عشر مجلدا.

* موقعة الجمل: حدثت في البصرة، في جمادى الثاني عام ٣٦هـ، بين جيش السيدة عائشة زوج النبي، وجيش خليفة المسلمين علي بن أبي طالب ابن عم النبي، وكان متوسط عدد القتلى من الفريقين ثلاثين ألفا!

أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى