نحو إسلام الرسول

(379) 23/9/2015 (سبيلنا إلى معرفة ما لم يذكره القرآن عن الحج)

لقد فهم بعض المسلمين أن قول الله تعالى «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ» يُبيح للمسلم أن يؤدي مناسك الحج في أي وقت شاء من هذه الأشهر، وهو فهم غير صحيح لمخالفته قواعد اللسان العربي والسياق القرآني، ولبيان ذلك لابد من إلقاء بعض الضوء على ما أسميه بـ «منظومة التواصل المعرفي»، لأنها المحور الأساس لفهم كل ما أجمله
القرآن من أحكام الشريعة.

أولا: يقول الله تعالى في سورة البقرة:

«الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ…»

إن قوله تعالى عن أشهر الحج أنها «مَّعْلُومَاتٌ»، وعدم بيان القرآن لأسمائها، يُبين أن العرب كانوا يعلمون أسماء هذه الأشهر قبل نزول القرآن، وذلك عبر «منظومة التواصل المعرفي»، من لدن آدم وحتى بعثة النبي الخاتم محمد، عليهما السلام.

ثانيا: يقول الله تعالى في سورة التوبة:

«إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ»

فمن أين عرف المسلمون أسماء هذه الأشهر وهي غير مبينة في القرآن، باستثناء شهر واحد هو شهر رمضان؟!

لقد عرف المسلمون، وعرف الناس جميعا، هذه الأشهر من خلال «منظومة التواصل المعرفي»، كما عرفوا أن الأربعة الحرم هي: «ذو القعدة»، شهر القعود عن القتال، و«ذو الحجة» شهر الحج، و«محرم» أول الأشهر العربية، و«رجب» شهر العمرة والزيارة، كما عرفوا أن أشهر الحج هي: «ذو القعدة ـ- ذو الحجة ـ- محرم».

ثالثا: إن وجود شهر من الأشهر الإثني عشر باسم «ذي الحجة» يدل دلالة منطقية على أن هذا الشهر هو شهر أداء مناسك الحج، زمانا ومكانا، فلا يعقل أن يؤدي الناس المناسك في شهر غير الذي سمي باسمه، كما أن هذه المناسك لا تؤدى طوال هذا الشهر وإنما في أيام منه، يقول الله تعالى في سورة الحج مخاطبا إبراهيم عليه السلام:

«وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» – «لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ…».

وإن هذه «الأيام المعلومات» أيام «معدودات»، كما بينت ذلك سورة البقرة بقوله تعالى: «وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ…»، وهذه الأيام المعلومات المعدوات من شهر «ذي الحجة» هي التي يؤدي فيها الحجيج مناسك الحج اليوم.

ويجتمع الحجيج في مكان واحد اسمه «عرفة»، وهو ما أشار إليه القرآن بقوله تعالى: «فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ»، وبعد هذا الاجتماع يفيضون إلى المشعر الحرام (المزدلفة):

«فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ»
وقوله تعالى بعدها: «ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ»، يُبين أن القرآن يحيل المسلم إلى مصدر معرفي خارج النص القرآني، ليعرف من خلاله أماكن أداء المناسك وكيفيتها، وهذا المصدر هو «منظومة التواصل المعرفي» التي تواصلت بين الناس.

رابعا: لقد فرض الله أداء مناسك الحج في شهر «ذي الحجة»، وكان من الضروري أن يكون الحجيج آمنين خلال رحلتي الذهاب والعودة، خصوصا هؤلاء الذين سيأتون من «كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ»، لذلك جعل الله أشهر الحج من الأشهر الحرم التي يحرم فيها القتال، لتكون الفترة الزمنية التي تبدأ بخروج المسلم من بيته محرما، وصولا إلى مكان الحج، ثم انتظارا لأداء مناسكه في الأيام المعلومات المعدوات، لتكون هذه الفترة الزمنية آمنة.

لذلك فإن قوله تعالى: «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ» لا يفهم منه أن تؤدى مناسك الحج خلال هذه الأشهر، وإنما هو بيان للفترة الزمنية الآمنة التي تبدأ من خروج الحاج من بيته محرما، والتي قد تصل إلى شهر أو أكثر حسب بعد البلاد عن البيت الحرام وطبيعة وسائل النقل في عصر التنزيل، ويصبح ملتزما بمحظورات الإحرام: «فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ»، وخلال هذه الفترة يُسمى المرء حاجا.

خامسا: هناك أيضا محظورات للإحرام كصيد البر، قال تعالى في سورة المائدة:

«أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ»

وقال تعالى: «وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا»

وقال تعالى: «وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً».

فهل سأل الصحابة رسول الله عن معنى «وَأَنْتُمْ حُرُمٌ»، أو معنى «وَإِذَا حَلَلْتُمْ»، أو معنى «مَا دُمْتُمْ حُرُماً»؟! الجواب: لم يسألوا!!

وهل بيّن القرآن معنى «الإحرام»، وكيف ومتى يتم؟! الجواب: لم يبين القرآن ذلك، وإنما تعلمه المسلمون عبر «منظومة التواصل المعرفي».

إذن فلا يمكن فهم ما أجمله القرآن من أحكام بمعزل عن «منظومة التواصل المعرفي»، لأننا إذا تعاملنا مع ظاهر النص فهمنا منه أن الحج هو ذاته أشهر معلومات «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ»، والحقيقة أن السياق يتحدث عن فعل يتم «في أشهر معلومات»، وهذا الفعل هو نية «الإحرام» بالحج، لقوله تعالى: «فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ»، والالتزام بمحظورات هذا الإحرام.

سادسا: يقول الله تعالى:

«وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّه فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ … فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ…».

فلو كانت أعمال الحج يمكن أن تؤدى في أي وقت خلال أشهر الحج، ما كان لتقديم الهدي نتيجة الإحصار معنى، خاصة وأن الهدي يجب أن يقدم في وقت ومكان معلومين، لقوله تعالى «حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ».

ثم إن قوله تعالى: «فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ» يُبيّن أنه في حالة زوال الإحصار، ووصل الحاج إلى البيت الحرام، وأراد أن يؤدي العمرة قبل موعد الحج، ثم بعد العمرة يتحلل من إحرامه حتى يأتي موعد الحج، فعليه في هذه الحالة هدي مقابل التمتع بالعمرة.

إن انتظار الحاج في حالة تربص متمتعا بالعمرة «إِلَى الْحَجِّ»، يعني أن أعمال الحج لها وقت محدد لا يمكن تقديمه أو تأخيره، ولذلك كان على الحاج الذي تمتع بالعمرة أن يُحرم بالحج بعد أداء العمرة، ولو كانت أعمال الحج يمكن أن تؤدى في أي وقت من أشهر الحج، فلماذا لا يذهب الحاج بعد أداء العمرة مباشرة إلى عرفات، ولا ينتظر حتى حلول موعد الحج ليذهب مع الحجيج إلى عرفات؟!

سابعا: لقد خاطب القرآن العرب عن مناسك يعرفون مواقعها الجغرافية جيدا، وإذا كان هناك فريق من الناس لم يلتزم بهذه الأماكن في وقت من الأوقات، فإن هناك فريقا آخر ظل ملتزما بقدسية هـذه الأماكن ويعلمها جيدا، ومن هذه الأماكن الصفا والمروة، يقول الله تعالى في سورة البقرة: «إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا».

إن قوله تعالى: «فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا» دليل على أن المخاطبين بهذه الآيات يعلمون من قبل نزولها أن هناك مكانا يسمى «الصفا»، ومكانا يسمى «المروة»، وأن السعي بينهما منسك من مناسك الحج، وأن عليهم أن يصححوا التوجه بهذا السعي إلى الله تعالى وحده لا شريك له، لأن هذه المناسك من شعائر الله «إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ».

إن الحقائق العملية التي تنقلها لنا «منظومة التواصل المعرفي» نقبلها ما دام القرآن أشار إليها، وقد أشار القرآن إلى أعمال الحج من حيث مكانه وزمانه: الطواف بالبيت الحرام، السعي بين الصفا والمروة، الوقوف بعرفات، الإفاضة منها إلى المزدلفة «المشعر الحرام»، ثم التحلل وذبح الذبائح: «ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ».

لقد جاء القرآن يقيم الميزان الحق الذي يقبل المسلمون على أساسه ما حملته لهم «منظومة التواصل المعرفي» من معارف نظرية كانت أو عملية، فإذا نظر المسلمون بعين البصيرة إلى ما حملته هذه المنظومة المعرفية من تراث الفرق والمذاهب المختلفة، حول أصول الدين وفروعه، لوقفوا على حقيقة الفرق بين «الآية الإلهية» و«الرواية البشرية»، وبين «الدين الإلهي»، و«التدين المذهبي».

إن تقليد الأبناء لميراث الآباء في مجالات العلوم المختلفة، يختلف جذريا عن تقليدهم في مجال الدين «ملة وشريعة»، لأنه إذا قلد الأبناء الآباء فيما ورثوه من معارف وعلوم غير صحيحة، فسيأتي اليوم الذي يجدون أنفسهم أمام حقائق الكون العلمية الشامخة، وعنده يضطرون إلى نبذ غير الصحيح، والإيمان والتسليم للحقائق العلمية.

إن الدعوة إلى الاكفتاء بالقرآن، بمعزل عن المنهجية العلمية في التعامل مع آياته، دعوة غير صحيحة لأن النص القرآني لا يُفهم دون الاستعانة بأدوات مستنبطة من ذاته، ولا يفهم دون الاستعانة بـ «منظومة التواصل المعرفي»، وهي مفصلة في كتابنا «المدخل الفطري إلى الوحدانية».

«وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ»

معلومات:

* الضامر: قليل لحم البطن، والضمور من محاسن الخيل لأنه يعينها على السير والحركة، وقوله تعالى: «وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ»، أي وعلى كل راحلة، وإنما أسند الإتيان إلى الرواحل لأنها تحمل من لا يستطيع السفر على رجليه.

* التفث: بعد أن ينحر الحاج أو المعتمر هديه، يحلق شعره أو يقصه ويهذبه، ويقص أظافره، ويتطهر ويزيل ما علق بجسمه من أتربة خلال رحلة الحج، ويلبس الثياب
ويتطيب بالعطور.

أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى