نحو إسلام الرسول

(376) 12/9/215 (عندما تسقط الحلقة الأولى من حلقات السند الروائي)

إن اهتمامي بالحديث عن إشكاليات «المصدر الثاني للتشريع»، الذي يدعي أئمة السلف والخلف أنه يحمل مرويات السنة النبوية، يرجع إلي علمي أن كل ما أصاب ويصيب المسلمين من أزمات عقدية وتشريعية، ومن تفرق في الدين وتخاصم وتقاتل، كان بسبب مرويات وأحكام وفتاوى هذا المصدر، التي يستخدمها رجال الدعوة الإسلامية اليوم لتوظيف عاطفة الشعب الدينية، لنصرة توجهاتهم المذهبية المتصارعة، السلمية منها والجهادية، تحت راية العمل بالكتاب والسنة، والذي يدفع الثمن هو الشعب!!

في البداية تعالوا نُميّز بين فترتين من الزمان، مر خلالهما هذا المصدر الثاني للتشريع:

الفترة الأولى: فترة الرواة والإخباريين، الذين شهدوا مسرح الأحداث، بداية بعصر الرسالة وحتى عصر التدوين، سنة ١٥٠هـ تقريبا!!

الفترة الثانية: فترة ما بعد عصر التدوين، والتي دوّن المحدثون والمؤرخون خلالها، نقلا عن الرواة والإخباريين، أمهات كتب هذا المصدر الثاني التشريعي!!

في الفترة الأولى كانت المرويات والأخبار يتداولها الصحابة والتابعون شفاهة، فلم يكن يخطر ببال أحدهم أن يكون صاحب مدونة في التفسير أو الحديث أو الفقه، فهذا عمل من مسئولية الدولة، ويجب أن يتم تحت إشراف مؤسسة الخلافة، لذلك كان افتقاد هذه المدونات عقبة أمام المحدثين والمؤرخين عند تدوين كتبهم!!

ولمواجهة هذه العقبة، ابتدع المحدثون قاعدة التوثيق بـ «إحسان الظن»، فتؤخذ مرويات الصحابة والتابعين الأُوَل بغض النظر عن أحوالهم، بدعوى أن الصحابة يستحيل عليهم الكذب على رسول الله، وأن التابعين الأُوَل يستحيل عليهم الكذب على الصحابة، وتخرج بذلك الحلقة الأولى لـ «السند الروائي» من دائرة الجرح والتعديل!!

والسؤال: هل كان المحدثون يعلمون أن سقوط هذه الحلقة يعني سقوط السند الروائي كله؟!

نعم كانوا يعلمون، ولذلك لم يستطيعوا القول بقطعية ثبوت الأحاديث عن رسول الله، وقالوا بظنيتها، ولكن الغريب أنه مع علمهم بسقوط حجية هذه الأحاديث كشريعة إلهية، لعدم ثبوتها ثبوتا قطعيا عن رسول الله، جعلوها مصدرا تشريعيا ثانيا يكفر منكره، وأصبح المساس بأمهات كتب هذا المصدر مساسا بالقرآن!!

ثم ظهرت إشكالية أخرى في عصر التدوين، وهي: ظهور أمهات الكتب الجامعة للحديث في القرنين الثاني والثالث الهجريين، بجهود فردية، ودون توثيق رسمي، في الوقت الذي لم تكن فيه مثل هذه الكتب الجامعة في القرن الأول الهجري، وهو القرن الأقرب إلى عصر الرسالة؟!

ولمواجهة هذه الإشكالية قالوا إن الأحاديث كانت «مكتوبة» في عصر الرسالة، فلما جاء عصر التدوين جُمعت و«دُونت» في الكتب، وبذلك تكون متصلة الحلقات بعصر الرسالة، فإذا سألنا المحدثين: فأين هي هذه الصحف التي «كتبها» الصحابة في عصر الرسالة؟! قالوا: اندثرت!!

وإذا كانت مدونات القرن الأول الهجري قد اندثرت، فلماذا لم تندثر أيضا مدونات القرن الثاني، ومنها موطأ مالك «ت١٧٩هـ»، ولماذا لم تندثر مدونات القرن الثالث، الذي ظهرت فيه أصح كتب الحديث عند أهل السنة وهي: البخاري «ت٢٥٦هـ»، مسلم «ت٢٦١هـ»، الترمذي «ت٢٧٠هـ»، ابن ماجة «ت٢٧٣هـ»، أبو داود «ت٢٧٥هـ»، النسائي «ت٣٠٣هـ»؟!

فهل كانت أقوال الرواة في القرن الأول الهجري مشكوكا في صحة نسبتها إلى رسول الله، لذلك لم يدونها المحدثون، ثم صحت نسبتها في القرنين الثاني والثالث فقاموا بتدوينها؟! هل يعقل هذا الكلام؟! وهل يعقل أن تحمل مدونات القرنين الثاني والثالث شريعة إلهية واجبة الاتباع، ثم لا يكون لها أصل مُدوّن في القرن الأول موثق بمعرفة الخلافة الراشدة؟!

تعالوا نتعرف على الصحف التي قيل أنها دُوّنت في القرن الأول الهجري، وتحديدا في عصر الرسالة، وهل كانت موضع ثقة عند المحدثين، وهل حقا أخذوا منها الأحاديث التي دوّنوها في كتبهم؟!

أولا: الصحيفة الصادقة:

أجمع المؤرخون على أن الذي كتب هذه الصحيفة هو عبد الله بن عمرو بن العاص «ت٦٣هـ»، حسب ما ورد في «الطبقات الكبرى» لابن سعد «ت٢٣٠هـ»، عن مجاهد قال: «رأيتُ عند عبد الله بن عمرو صحيفة، فسألته عنها فقال: هذه «الصادقة»، فيها ما سمعتُ من رسول الله ليس بيني وبينه أحد»!!

وكان عبد الله يحفظ هذه الصحيفة في صندوق خشية عليها من الضياع، ثم حفظها أهله من بعده، واستقرت عند حفيده عمرو بن شعيب »ت١٢٠هـ«، كأثر من آثار جده، ولكنها لم تصل إلى عصر التدوين!!

أما المحدثون فقالوا إن الصحيفة الصادقة وصلت إليهم بخمس روايات، وقد ضعف علماء الجرح والتعديل معظم رواتها، واختلفوا حول هذه الروايات سندا ومتنا، كما ذكر ذلك ابن حجر في «تهذيب التهذيب»، ولم ينقل أحد من المحدثين أحاديثه منها، لأنها لم تكن موجودة أصلا في عصر التدوين!!

قال بدر الدين العيني في عمدة القارئ: «ما لابن عمرو بن العاص من الحديث في كتب السنة، قد جاء عن طريق الرواية لا من سبيل الكتابة»، أى أن الذين رووا الأحاديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص أخذوها من أفواه الرواة وليس من صحيفته!!

وعن محتوى هذه الصحيفة، قالوا إنها احتوت على ألف «١٠٠٠» حديث، أخرج الإمام أحمد بعضها في مسنده بعنوان: «مسند عبد الله بن عمرو بن العاص»، وذكر الذهبي في ترجمة عبد الله بن عمرو، قال: «يبلغ ما أسند سبعمائة «٧٠٠» حديث، اتفقا له على سبعة «٧» أحاديث، وانفرد البخاري بثمانية «٨»، ومسلم بعشرين «٢٠»!!

والسؤال: لماذا لم يرو البخاري عن عبد الله بن عمرو أكثر من سبعة أحاديث، ولم يرو مسلم عنه أكثر من عشرين حديثا، وهو الذي كتب الأحاديث وهو بين يدي رسول الله؟! وإذا كان عدد الأحاديث المسندة التي دونها عبد الله بن عمرو في صحيفته «٧٠٠» حديث، فكيف وصلت إلى «١٠٠» ألف حديث في عصر مالك «ت١٧٩هـ»، كما ذكر في الموطأ، وإلى «٦٠٠» ألف حديث في عصر البخاري »ت٢٥٦هـ«، حسب قوله؟!

وإذا كان أحمد بن حنبل »ت٢٤١هـ« قد عاصر البخاري، فكيف وصل عدد الأحاديث التي استقى منها مسنده إلى «٧٥٠» ألف حديث، كما ذكر في مسنده؟!

ثم تعالوا نتعرف على المكانة العلمية لعبد الله بن عمرو بن العاص عند المحدثين، من خلال ما ذكره البخاري في صحيحه، باب كتابة العلم، عن أبي هريرة، قال: «ما كان أحد أكثر حديثاً مني عن رسول الله إلا عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب»!!

إذن فهناك صحابيان، مشهود لهما بالصلاح، وبالضبط والعدالة، أحدهما كان يحفظ الحديث عن ظهر قلب، والثاني كان يكتبه، فلماذا لم يجرؤ أحدهما، أو مجموع الصحابة، أو الخلفاء الراشدون، أن يجمعوا كل ما كُتب في عصر الرسالة في كتاب واحد، باسم «الأحاديث النبوية» ليرثها المسلمون مع كتاب الله؟!

إن عبد الله بن عمرو بن العاص كان ممن حاربوا علياً في «صفين»، فقد كان في صف معاوية، وولاه معاوية الكوفة، ولذلك لم يرو عن عليّ بن أبي طالب الحديث، في الوقت الذي روى عن باقي الصحابة، وتسمية صحيفته بـ »الصادقة« جاءت ردا على صحيفة قيل إنها دُوّنت أيضا بين يدي رسول الله، وهي صحيفة عليّ بن أبي طالب!!

ألا يُشتم من ذلك رائحة الوضع، وأن هذا المصدر الثاني للتشريع صُنع صناعة مذهبية في عصر التدوين، ولم يكن له أي أثر قبل ذلك؟!

ثانيا: صحيفة علي بن أبي طالب

لقد وردت هذه الصحيفة أيضا بعدة روايات، وقد نقل الإمام أحمد في مسنده عن عليّ قال: «والله ما عندنا كتاب نقرؤه عليكم إلاَّ كتاب الله تعالى، وهذه الصحيفة أخذتها من رسول الله، فيها فرائض الصدقة، معلقة بسيفٍ له»!!

فإذا نظرنا إلى مجمل ما جاء في هذه الرواية من فروض، وما جاء في غيرها، نجد أنها لا تمثل شيئا يذكر مقارنة بأحكام الشريعة القرآنية، وما ذكرته سابقا عن حجية الصحيفة الصادقة ينطبق أيضا على هذه الصحيفة!!

ثالثا: الصحف الأخرى

ذكر المحدثون أن هناك صحفا أخرى كتبت في القرن الأول الهجري، وهي: صحيفة جابر بن عبد الله الأنصاري، وصحيفة سعد بن عبادة الأنصاري، وسمرة بن جندب، وعبد الله بن أبي أوفى، وما روي من قول محمد الباقر أبي جعفر: «إن عندي لصحيفة فيها تسعة عشر صحيفة قد حباها رسول الله»، وقوله: «إن عندنا صحيفة من كتب عليّ بن أبي طالب طولها سبعون ذراعاً»!!

إن افتقاد القرن الأول الهجري لمدونات الحديث التي كتبها الصحابة والتابعون نقلا عن رسول الله مباشرة يسقط حجية المصدر الثاني للتشريع كشريعة إلهية، ولن يشفع لأئمة السلف والخلف يوم القيامة توثيقهم للصحابة والتابعين الأُوَل بـ «إحسان الظن»، لأن هذه القاعدة إن صحت عند أهل السنة، لا تصح عند الشيعة، لأنها قاعدة مذهبية نسبية، كما يعلم ذلك أئمة الفرق والمذاهب الإسلامية المختلفة!!

إن جميع منابر الدعوة الإسلامية الرسمية وغير الرسمية، منابر مذهبية، لذلك يستحيل مكافحة الإرهاب، أو إدارة الخطاب الديني وإشكاليات الإسلام السياسي بنجاح، دون التبرؤ الرسمي من هذا المصدر التشريعي المذهبي، الذي لا تجد منبرا من منابر الدعوة إلا ويوظف مرويات وأحكام وفتاوى هذا المصدر لصالح مذهبه العقدي أو التشريعي، وأخطر ما فيه التستر وراء «التقية» لتحقيق مصالح سياسية!!

معلومات:

الإخباريون: هم الذين شهدوا مسرح الأحداث التاريخية، بداية بعصر الرسالة مرورا بأحداث الفتن الكبرى، ثم الخلافة الأموية…، حتى وصلت أخبارهم إلى عصر التدوين، فدونها «المؤرخون» نقلا عنهم، كلٌ حسب المذهب العقدي والتشريعي الذي ينتمي إليه.

أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى