نحو إسلام الرسول

(373) 31/8/2015 (عندما تكون الأحزاب الدينية محرمة شرعا؟)

عندما تكون الأحزاب الدينية محرمة شرعا؟!!

إن قضية «الإسلام الوراثي» هي أخطر ما يواجه الدين الإسلامي من تحديات، لأن الشعوب المسلمة لم تختر إسلامها بإرادتها، فلا تعرف شيئا عن الإسلام إلا من خلال القنوات المذهبية التي وجدت عليها الآباء، فلا يتحدث المسلمون في دين الله إلا بلسان أئمة المذهب، ولا يُفتون إلا بفتاوى فقهاء المذهب، والأئمة والفقهاء في ذمة التاريخ!!

لقد أفرز «الإسلام الوراثي»، على مر العصور، فرقا ومذاهب وأحزابا دينية، ما أنزل الله بها من سلطان، ودين الله لا يعرف فُرقة ولا مذهبية، ولا صراعات سياسية وسفكا للدماء من أجل إقامة الخلافة الإسلامية في الأرض!!

لقد انقلب أتباع الرسل على أعقابهم بعد وفاة الرسل، وبعد أن كانوا أمة واحدة انقسموا على طوائف دينية متناحرة، فيقول الله تعالى في سياق الحديث عن مواقف الأمم من الرسالات الإلهية:

«وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ – فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا – كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»

لقد كانوا أمة واحدة، «فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا»، عندما غابت «تقوى الله» عن قلوبهم، وتدبر هذا التعبير القرآني المبدع «فَتَقَطَّعُوا»..، فقد «مزقوا» دينهم بينهم مزقا بعد وفاة الرسل!!

والغريب أنه مع تحذير الله لأتباع الرسل بعدم التفرق في الدين، لأنه محرم شرعا، فإن كل طائفة كانت سعيدة بهذا التفرق، وبما تتبعه من كتب ومصادر تشريعية سماها الله «زبرا»، أي كتبا تعتبرها شريعة إلهية تعتمد عليها في شؤون حياتها، فالتقطع يقتضي التحزب، ومن شأن التحزب أن يكون لأهل الحزب كتاب، يحمل دستور ومنهج الحزب: «كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»!!

لقد حَرّم الله تعالى «التفرق في الدين» على جميع أتباع الرسالات، وأمرهم أن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه، وجعل ذلك فريضة شرعية، فقال تعالى:

«شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ»

لقد خاطب الله تعالى بهذه الآية المؤمنين أتباع النبي الخاتم محمد، عليه السلام، ليُبيّن لهم أن إقامة الدين وعدم التفرق فيه سنة جميع الرسل: «أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ»، ونلاحظ أن تحريم التفرق في الدين لا يتعلق بمسألة «التعددية» الفكرية التي سمحت بها جميع الرسالات، وإلا ما ذمه الله وجعله محرما!!

إن التفرق في الدين المحرم هو التفرق العقدي، قبل أن يكون التشريعي، هذا التفرق الذي قامت عليه جميع الفرق والمذاهب الإسلامية، فقد أصبح لكل فرقة مرجعيتها الدينية التي تستمد منها عقيدتها وتشريعاتها، وتفصيل ذلك يرجع إليه في تاريخ الفرق العقَدية، والتسلسل التاريخي لظهورها، لتقف على حجم المأساة التي عاشها – ويعيشها – المسلمون اليوم، من تعصب مذهبي يقوم على هذه المرجعيات الدينية المقدسة، التي ما أنزل الله بها من سلطان!!

إن التفرق في الدين تفرق في مرجعيته وأصوله العقدية والتشريعية، ولقد حذر الله أتباع النبي الخاتم محمدا، عليه السلام، من خطر هذا التفرق، فقال تعالى:

«فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» – «مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» – «مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»

لقد خاطب الله رسوله محمدا بصيغة الإفراد: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً»، ثم وجه الخطاب إلى جميع المؤمنين بصيغة الجمع: «مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ»، لبيان أن اتباع الرسول يكمن في اتباع شريعته التي جاءت بها رسالته القرآن الكريم، وفي مقدمتها أحكام هذه الآية، فتدبر:

عندما يبدأ السياق بالأمر بالوحدانية، ويعقبه الأمر بالإنابة والتقوى وإقامة الصلاة، ثم التحذير من الشرك: «وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ»، فإن هذا يعني أننا أمام أصول ثلاثة عاصمة من الشرك: الإنابة والتقوى وإقامة الصلاة، فهل عصمت هذه الأصول الثلاثة الطوائف الدينية المختلفة من التفرق في الدين حتى لا يكونوا: «مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»؟!

حيثما وجدنا تفرقا في الدين نعلم أن نوعاً من الشرك قد اخترق هذا الدين، الأمر الذي يفضى إلى التخاصم والتقاتل بين أتباع الفرق الدينية المختلفة، وتكفير بعضهم بعضا، فهل المساجد التي يصلي فيها المسلمون اليوم مجمّعة لهم أم مفرقة؟! وهل الجماعات والجمعيات والمنظمات والأحزاب الدينية مجمعة لهم أم مفرقة؟!

فإذا ذهبنا إلى واقع هذه الطوائف الدينية المختلفة، التي حولت المساجد عبر عقود مضت، إلى منابر دعوة لصالح توجهاتها المذهبية، لنرى ماذا قدمت للإسلام، فماذا نجد؟! لن نجد غير تدعيم أزمة التخاصم والتفرق بين المسلمين، بصرف النظر عما تقدمه من أعمال ومشاريع خيرية، لأن هذه الأعمال في النهاية هي لصالح هذه التوجهات.

ألم تقرأ الحكومات التي تسمح بوجود أحزاب دينية هذا التحذير الإلهي مخاطبا رسول الله محمدا، باعتباره ولي أمر المسلمين: «وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ – مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا – كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ؟!
ألم تقرأ المؤسسات الدينية، الرسمية وغير الرسمية هذه الآية؟!

لقد نصت المادة الثانية من الدستور المصري على أن الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع، فهل أباحت الشريعة الإسلامية وجود أحزاب دينية؟! ثم كيف يستقيم فهم هذه الآية مع وجود أحزاب دينية؟!

أليس هذا منكرا واجبا النهي عنه؟! ألا تُعد الموافقة على وجود أحزاب دينية مخالفة صريحة لأحكام الشريعة القرآنية قبل أن تكون مخالفة للدستور؟!

وإذا كان الله تعالى قد خاطب رسوله والذين آمنوا معه محذرا إياهم من الشرك، فقد جاء في موضع آخر وأمر رسوله أن يتبرأ من الذين فرقوا دينهم وأعطوا ظهورهم لهذا التحذير، فقال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ»!!

تدبر قوله تعالى: «لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ»، الذي يضع الخط الفاصل بين الرسول والذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعا، فرسول الله ليس منهم في شيء، ودينه ليس من دينهم في شيء، وكتابه ليس من كتبهم في شيء، وشريعته ليست من شرائعهم في شيء: «ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ»!!

كيف تستقيم محبة الله ورسوله، وادعاء التمسك بكتاب الله وسنة رسوله، والله ورسوله بريئان من هؤلاء الذين يرفعون هذه الرايات، ويسفكون الدماء بغير حق من أجل إقامة الخلافة الإسلامية، وهم من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، المغضوب عليهم والضالين؟!

لقد أصبح الفكر الإسلامي فكرا مذهبيا لا علاقة له بالإسلام الذي ارتضاه الله دينا للناس جميعا: «وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا».. فكرا تخاصميا نتيجة تمسك الأبناء بميراث الآباء الديني: «بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا».. فكرا تكفيريا، لاعتقاد كل طائفة أنها الطائفة الناجية التي تحكم بما أنزل الله، وأن الطوائف الأخرى لا تحكم بما أنزل الله، والله يقول: «وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ»!!

ولكن الغريب، أن نجد هذه الطوائف التي أشركت بالله ما لم ينزل به سلطانا، تقف صفا واحدا إذا حان وقت النفير، لماذا؟! لأن كل طائفة تريد أن تصل إلى تحقيق أهدافها بمساعدة الطوائف الأخرى، وهي تعلم أنها عندما تتمكن ستتخلى عن باقي الطوائف، بل وقد تقتلهم، وتاريخ الإسلام السياسي في الماضي والحاضر، خير شاهد على ذلك!!

وإذا كانت قضية «الإسلام الوراثي» هي أخطر ما يواجه الدين الإسلامي من تحديات، فإن الخطر الأكبر، والذي أراه أصبح ظاهرة بدأت تنتشر على جميع وسائل الإعلام، هو ارتداء أتباع التيارات الدينية، وخصوصا الأحزاب الدينية، بل وبعض رجال المؤسسات الدينية الرسمية، ثوب «التقية»، لتحقيق مصالح سياسية!!

إن «التقية» رخصة أعطاها الله للمؤمنين، لاتقاء شر الكافرين المعتدين، بأن يداريهم المؤمن باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان، وذلك في حالات الخوف من الإيذاء البدني الذي قد يصل إلى القتل، فقال تعالى:

«لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ»

نلاحظ – أولا – أن قوله تعالى: «وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ»، تحذير من تجاوز الحدود في هذه «التقية»، بالتساهل أو المغالاة، وأنها فقط رخصة للمؤمنين لاتقاء شر الكافرين المعتدين!!

والسؤال: كيف تحولت «التقية» من اتقاء المؤمنين شر الكافرين المعتدين، إلى خداع المسلمين للمسلمين، من أجل تحقيق مصالح سياسية، رافعين راية التمسك بكتاب الله وسنة رسوله؟!

إننا اليوم أمام أزمة خطيرة جدا، تحتاج إلى تركيز وانتباه من القاعدة الشعبية الكبيرة التي تتحرك بعاطفتها الدينية نحو الاستماع إلى أتباع التيارات الدينية المذهبية المختلفة، فتقع فريسة هذه «التقية» التي تستغل منابر الدعوة للتأثير على ضحاياها!!

فهل ستتعلم الشعوب الدرس، وتعلم أن كل هذه التيارات الدينية المذهبية المختلفة ليست من دين الله في شيء؛ لأنها أعطت ظهورها لتحذير الله إياها بعدم التفرق في الدين؟!

«قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ»

معلومات:

التقية: مصطلح ديني، ظهر في عصور الاضطهاد والتمييز القائم على الهوية الدينية، ويعني اخفاء ما يعتقده الشخص، خشية الضرر الذي سيقع عليه، وأول من استخدم هذه التقية في التاريخ الإسلامي هم الشيعة، حفاظا على حياتهم في العصر الأموي.

أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى