نحو إسلام الرسول

(371) 25/8/2015 (رزية يوم الخميس، وأزمة الصراع السني الشيعي)

لقد كانت الأزمة الكبرى التي حدثت بين الصحابة، ورسول الله على فراش الموت، هي أزمة الوصية على الخليفة من بعده، هذه الأزمة التي فرقت المسلمين إلى سني وشيعي، وخارجي ومعتزلي، وجعلت لكل منهم مصدره الثاني للتشريع، هذا المصدر الذي آتاه الباطل من بين يديه ومن خلفه، وقامت على مروياته الجماعات السلفية والجهادية، التي تسعى في الأرض فسادا، وتسفك الدماء بغير حق تحت رآية «لا إله إلا الله ـ محمد رسول الله»، فأساءت إلى الإسلام وإلى المسلمين أبلغ إساءة!!

إن الدارس لأمهات كتب علوم الحديث، عند الفرق والمذاهب المختلفة، يعلم حجم العشوائية التوثيقية التي قامت عليها هذه الكتب، لعدم وجود مدونات أشرف على تدوينها رسول الله، وقام على رعايتها الخلفاء الراشدون، فوصلت مرويات الرواة إلى عصر التدوين وقد آتاها الباطل..، ومنها رواية «رزية يوم الخميس»!!

روي البخاري عن ابن عباس قال: لما اشتد بالنبي وجعه قال: «ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده، قال عمر: إن النبي غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا، فاختلفوا وكثر اللغط، قال النبي: قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع، فخرج ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين كتابه»!!

نفهم من هذه الرواية ما يلي:

١- أن خلافا حدث بين الصحابة والنبي على فراش الموت!!

٢- أن موضوع هذا الخلاف كان حول كتاب أراد النبي أن يكتبه لأمته حتى لا تضل من بعده، إلا أن عمر حال دون ذلك!!

٣- أن النبي امتنع عن كتابة هذا الكتاب حسما لنزاع الصحابة!!

لقد فهم أهل السنة من هذه الرواية أن النبي أراد أن يوصي أمته بالتمسك بالكتاب والسنة، استنادا إلى ما رواه مالك بن أنس في الموطأ بلاغا، أن رسول الله قال: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله»!!

وفهم «الشيعة» من هذه الرواية أن النبي أراد أن يوصي بالخلافة لعلي بن أبي طالب، ولكن عمر حال دون تحققها، استنادا إلى ما رواه الترمذي عن جابر قال: سمعت رسول الله يقول: «إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي». قال الترمذي هذا حديث حسن غريب!!

وبمقارنة هاتين الروايتين برواية البخاري، نعلم كيف حدث الوضع في عالم المرويات، فانظر إلى اشتراك الروايات الثلاث في كلمة «الضلال»، فقد وردت في رواية البخاري «لا تضلوا بعده»، وهي الخاصة بالوصية، ووردت في رواية مالك «لن تضلوا ما تمسكتم بهما»، وهي حجة أهل السنة، ووردت في رواية الترمذي «لن تضلوا»، وهي حجة الشيعة، فهل معنى ذلك أن رسول الله أراد أن يوصي أن تفترق أمته إلى سنة وشيعة؟!

فإذا ذهبنا إلى قول عمر بن الخطاب «حسبنا كتاب الله»، وإلى العامل المشترك بين الروايتين وهو «كتاب الله»، وجدنا أن رواة أهل السنة أضافوا إلى كتاب الله «وسنة رسوله»، وأضاف رواة الشيعة «وعترتي أهل بيتي»، وعلى الرغم من عدم صحة الروايتين سندا ومتنا، فإنهما اشتهرتا على ألسنة العلماء والدعاة إلى درجة أن ظن المسلمون أنهما قرآن!!

فإذا ذهبنا إلى صحيح البخاري، باب »الاعتصام بالكتاب والسنة«، وجدناه لم يشر إلى أي من هاتين الروايتين، على الرغم من أنهما من صلب هذا الباب، فهل هذه هي «السنة النبوية» التي أمر الله اتباعها؟!

وإذا كنا نتحدث عن رواية تحكي عن وصية أراد النبي أن يوصي بها قبل موته، فهل فهم أئمة السلف موضوع هذه الوصية؟! لقد جاءت هذه الرواية عند البخاري بعدة طرق، منها رواية يُفهم منها أنها شيعية الأصل، فيروي البخاري عن سعيد بن جبير، أنه سمع ابن عباس يقول:

يوم الخميس وما يوم الخميس، ثم بكي حتى بل دمعه الحصى. قلت: يا ابن عباس ما يوم الخميس؟! قال: اشتد برسول الله وجعه فقال: ائتوني بكتف أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا. فتنازعوا، ولا ينبغي عند نبي تنازع. فقالوا: ماله، أهَجَر؟! استفهموه، فقال ذروني، فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه. فأمرهم بثلاث، قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، والثالثة إما أن سكت عنها، وإما أن قالها فنسيتها»!!

وينقل ابن حجر عن بعض أئمة السلف عدة احتمالات لحل لغز هذه الرواية، منها:

يحتمل أن بعضهم قال ذلك عن شك عرض له، ولكن يبعده أن لا ينكره الباقون عليه مع كونهم من كبار الصحابة، ولو أنكروه عليه لنقل إلينا.

ويحتمل أن يكون الذي قال ذلك صدر عن دهش وحيرة كما أصاب كثيرا منهم عند موته.

ويحتمل أن يكون قائل ذلك أراد أنه اشتد وجعه فأطلق اللازم وأراد الملزوم، لأن الهذيان الذي يقع للمريض ينشأ عن شدة وجعه.

ويحتمل أن يكون قوله أهجر فعلا ماضيا من الهجر بفتح الهاء وسكون الجيم والمفعول محذوف أي الحياة، وذكره بلفظ الماضي مبالغة لما رأى من علامات الموت.

ويحتمل أنه أراد سكوت الذين لغطوا ورفعوا أصواتهم عنده، فكأنه قال: إن ذلك يؤذيه ويفضي في العادة إلى ما ذكر. «انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري»

فهذه عدة احتمالات، دُوّنت فيها عشرات الصفحات، حول تأويل أئمة السلف موضوع الوصية التي أراد النبي أن يكتبها حتى لا تضل أمته من بعده، ومع ذلك ظلت القضية في حاجة إلى من يحسمها إلى يومنا هذا: هل ترك النبي للمسلمين «الكتاب» فقط، أم «الكتاب والسنة»؟!

وإذا كان التحقيق العلمي لم يثبت وجود مدونات تحمل اسم «السنة النبوية» أو «الحديث النبوي» في عصر الرسالة ولا في عصر الخلافة الراشدة، إذن فمن أين جاءت «مدونات السنة» التي بين أيدي المسلمين اليوم، وما هو موقعها في الشريعة الإسلامية؟!

لقد أثارت كلمة «ائتوني» خلافا بين علماء الحديث، فهل كان أمرا على سبيل الوجوب أم لا؟! قال ابن حجر نقلا عن القرطبي وغيره: «ائتوني» أمر، وكان حق المأمور أن يبادر للامتثال، لكن ظهر لعمر وطائفة، أنه ليس على الوجوب، وأنه من باب الإرشاد إلى الأصلح، فكرهوا أن يكلفوه من ذلك ما يشق عليه في تلك الحالة، مع استحضارهم قوله تعالى: «ما فرطنا في الكتاب من شيء»، وقوله تعالى: «تبيانا لكل شيء»، ولهذا قال عمر: «حسبنا كتاب الله»!!

والسؤال: لماذا لم يقل عمر «حسبنا كتاب الله وسنة رسوله»؟! فهل لم يكن يعلم بوجود مصدر ثان للتشريع، يحمل سنة النبي واجبة الاتباع، واحتمال أن يكون النبي قد أراد أن يضيف لها شيئا قبل موته؟!

فإذا ذهبنا إلى أئمة الشيعة، وجدناهم يعتبرون قول ابن عباس «إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين كتابه»، دليلا على أن الصحابة الذين كانوا حول النبي، هم الذين حالوا بين النبي وبين أن ينص على خلافة علي بن أبي طالب!!

ثم انظر كيف فهم أئمة السلف جملة «وسكت عن الثالثة، أو قال فنسيتها»، حسب ما نقل عنهم ابن حجر: «يحتمل أنه أراد بالثالثة الوصية بالقرآن، كما قال الداودي، ويحتمل أنه أراد تجهيز جيش أسامة، وبه جزم ابن التين، ويحتمل أن تكون الثالثة هي قوله «ولا تتخذوا قبري وثنا»، كما قال عياض!!

ولكن الغريب أن يقول الراوي: «فنسيتها»، فكيف تكون هذه المرويات مصدرا تشريعيا إلهيا؟! نحن نعلم أن رسول الله إذا أمر يجب أن يطاع، بصرف النظر عن حالته الصحية، لأنه «نبي» مؤيد من الله، فهل يعقل أن يترك النبي «سنته النبوية» لصحابته يحفظونها، كلٌ حسب قدراته العقلية، وملكات حفظه؟!

إن بين ابن حجر شارح صحيح البخاري، «ت٨٥٢هـ»، وبين البخاري «ت٢٥٦هـ» ستة قرون ونصف القرن تقريبا..، وبين تدوين البخاري لصحيحه وبين بداية عصر التدوين قرنا من الزمن، ثم ما بين عصر التدوين وعصر الرسالة قرنا من الزمن، ولم يثبت أن عُثر على مدونة موثقة في الحديث خلال هذا القرن الأخير يمكن الاعتماد عليها، فقد كان الصحابة يتناقلون الأحاديث المنسوبة إلى النبي شفاهة، ولم يخطر ببال أحدهم أن يجمعها ويحفظها في كتاب، لأن هذه المهمة من مسئولية خليفة المسلمين، إذا كانت هذه الأحاديث حقا مصدرا تشريعيا إلهيا!!

إذن فمن هو الخليفة الذي أذن بتدوين الحديث النبوي، وأين هي هذه المدونة التي إن وجدت ما كان لأي كتاب في الحديث أن يولد أصلا؟!

ولا تقول عمر بن عبد العزيز، الذي توفي «١٠١هـ»، وإلا فأين هذا الكتاب الجامع الشامل للحديث، الذي أشرف على تدوينه الخليفة بنفسه، وهو الملقب بخامس الخلفاء الراشدين؟!!

ويبقى السؤال قائما: هل يمكن لمصدر تشريعي إلهي، أن يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه؟!
« وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ـ لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ـ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ»

معلومات:

قوله بلاغا: أي أن يقول الراوي بلغني عن فلان، وهذا انقطاع في السند يُضعف الرواية من حيث صحة نسبتها إلى النبي، ما لم توجد رواية أخرى تحمل نفس المتن وتكون متصلة السند!!

حديث حسن غريب: الذي يكون جميع رواته مشهورين بالصدق والأمانة إلا أنهم لم يبلغوا درجة رجال الصحيح في الحفظ والذي تفرد بعض الرواة به أو بأمر في متنه أو سنده!!

أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى