نحو إسلام الرسول

(366) 13/8/2015 (علم الناسخ والمنسوخ وسيلة السلفيين للتلاعب بالدين)

إن المتدبر لآيات الذكر الحكيم، يعلم أن عصر الرسالة الخاتمة، كان عصر تنزيل واكتمال للدين، وكان من مقتضيات هذا العصر، أن تُنسخ تشريعات بتشريعات أخرى، سواء كانت من تشريعات الرسالات السابقة، أو من عادات أهل الجزيرة العربية!!

لقد كان الجمع بين الأختين في نكاح واحد مباحا، ثم نزل التحريم بقوله تعالى: «وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ»، فأصبح هناك رجل يجمع بين أختين ويعيش معهما في الحلال، لقوله تعالى: «إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ»، وفي نفس الوقت رجل يحرم عليه أن يجمع بين الأختين بعد نزول الآية!!

لذلك فإن الشريعة الإسلامية لا تستمد أحكامها من أحداث ومواقف عصر التنزيل، وإنما من كتاب الله بعد أن اكتمل الدين وتمت النعمة، وأصبح هو المرجع الوحيد الذي تستقى منه أحكام الشريعة، وقد حمل للناس ما شاء الله أن ينقله من أحداث وتشريعات هذا العصر!!

ثم توفي النبي، وحدث ما حدث من انقلاب على الأعقاب، ومن فتن كبرى، ثم جاء عصر التدوين، فوجد أئمة السلف أنفسهم أمام كم هائل من الأخبار والمرويات والفتاوى والتفسيرات لآيات الذكر الحكيم، فظهرت أمهات كتب المصدر الثاني للتشريع، وحملت ما يُسمى بعلوم القرآن ومنها علم «الناسخ والمنسوخ»، الذي ابتدعه أئمة السلف عندما ظهرت أمامهم مرويات وفتاوى تتعارض مع آيات الذكر الحكيم، فذهبوا إلى القرآن يحرفون آياته وأحكامه، حتى لا يمسوها بسوء!!

لقد اتفق أئمة السلف، من السنة والشيعة، على أن علم «الناسخ والمنسوخ» من العلوم التي يستحيل فهم القرآن بدونها، وقسّموه إلى:

أولا: ما نُسخ تلاوته وحكمه، أي ما حُذفت آياته وأحكامها!!

ثانيا: ما نُسخ تلاوته وبقي حكمه، أي ما حُذفت آياته مع بقاء العمل بأحكامها!!

ثالثا: ما نُسخ حكمه وبقيت تلاوته، أي ما بقيت آياته دون العمل بأحكامها!!

وأخطر ما في هذا الباب نسخ القرآن بمرويات السنة، أي أن تكون المرويات الظنية الثبوت عن
رسول الله ناسخة للآيات قطعية الثبوت عن الله تعالى، ولن أدخل في بيان مصائب هذا الباب وإشكالياته، فهي منشورة بالتفصيل على شبكات التواصل الاجتماعي، لمن أراد أن يعلم كيف استطاع الشيطان أن يخترق تدين أئمة السلف، ويصنع لهم مصدرا تشريعيا ثانيا، لا يقل في قدسيته عندهم عن قدسية كتاب الله!!وسأضرب مثالين على ذلك:

أولا: يقول الله تعالى في سورة النساء: «وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا»، قالوا: إن هذه الآية نُسخت بقوله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ»، فبعد أن كانت عقوبة الزانية الحبس في البيت، أصبحت الجلد!!

والحقيقة أن آية سورة النساء لا علاقة لها بعقوبة الزنى، فهي تتحدث عن عقوبة السحاق بين النساء، بدليل قوله تعالى بعدها مبينا عقوبة اللواط بين الذكور: «وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا»، والحكمة التشريعية في الفرق بين العقوبتين، ولماذا جاءت عقوبة السحاق بصيغة الجمع «وَاللَّاتِي»، وعقوبة اللواط بصيغة المثنى «وَاللَّذَانِ» …، تفصيلها في موضع وسياق آخر!!

ثانيا: روى مسلم في صحيحه، عن السيدة عائشة، أنها قالت: «كان فيما أُنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يُحرّمن، ثم نُسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله وهن فيما يُقرأ من القرآن»!! فها هو حديث صحيح محسوب على بيان «السنة النبوية» للقرآن، ويعتبره أئمة السلف والخلف من ثوابت الدين التي يكفر منكرها، ومع ذلك يحمل أدوات هدمه من داخل علم الناسخ والمنسوخ نفسه!!

فهذه الرواية تدخل تحت نوعين من أنواع النسخ في وقت واحد، فالجزء الأول «المنسوخ» الخاص بالعشر رضعات، يدخل تحت «ما نُسخ تلاوته وحكمه»، فآية العشر رضعات لا وجود لها أصلا في المصحف، ولا يُعمل بحكمها!! أما الجزء الثاني «الناسخ»، والخاص بآية الخمس رضعات، فيدخل تحت «ما نُسخ تلاوته وبقي حكمه»، وهذه الآية أيضا لا وجود لها أصلا في المصحف، فقد نُسخت تلاوتها، مع بقاء العمل بحكمها!!

والسؤال: إذا كان عدد الرضعات قد استقر نهائيا بنزول آية قرآنية تحدده بخمس رضعات، وتوفي رسول الله وهن فيما يُقرأ من القرآن، فلماذا مُلئت أمهات كتب المذاهب الفقهية بخلافات مأسوية حول عدد الرضعات، التي بعدها يصبح الرضيع محرما على من رضع معه؟!

أهذه هي أمهات الكتب التي تريدون من المؤسسات الدينية الرسمية تجديد الخطاب الديني من خلالها؟!!

لقد انشغل فقهاء المذاهب بكلمة «أَرْضَعْنَكُم»، ولم يوجهوا نظرهم إلى كلمة «أُمَّهَاتُكُمُ»، التي وردت في آية المحرمات من النساء: «وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ»، فالله تعالى لم يحرم النساء اللاتي أرضعن، وإنما حرّم «الأمهات» اللاتي أرضعن، وذلك لبيان أن التحريم يقع عندما يشعر المولود بأمومة من أرضعته، وتشعر المرضعة أنه ابنا لها، وهو أمر يسهل جدا إدراكه، هذا بالإضافة إلى القدر الكافي من اللبن الذي يُكوّن لحم الرضيع وعظمه وعصبه، والذي يحدد ذلك هم أهل العلم المتخصص في هذا الشأن، فالقضية ليست بعدد الرضعات، ولا يثبت التحريم بمصة أو مصتين!!

إن كل ما دونه أئمة السلف في أمهات كتب علوم القرآن، وقالوا إنه نُسخ تلاوة، أو حكما، أو تلاوة وحكما معا، أو إنه نُسخ بآية السيف، لا علاقة له بكتاب الله، المحفوظ بحفظ الله له، فهم غالبا يتحدثون عن كتاب آخر، صنعه التطرف الديني بالسيف، في عصر الخلافة غير الراشدة!!

لقد اعتاد أئمة السلف توظيف الآيات القرآنية لخدمة توجهاتهم العقدية والتشريعية، ومن هذه الآيات قوله تعالى في سورة البقرة «الآية ١٠٦»:

«مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»

فظنوا أن ورود كلمة «نَنسَخْ» في سياق هذه الآية يمكن أن يكون سندا لهم في إثبات حجية علم «الناسخ والمنسوخ»!!

لقد جاءت هذه الآية في سياق الرد على المكذبين برسالات الرسل، المكذبين بشريعة موسى، وبشريعة عيسى، وبشريعة خاتم النبيين محمد، عليهم جميعا أفضل السلام، «الآيات ٨٧ – ١٠٤»، ثم قال تعالى بعدها «الآية ١٠٥»:

«مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ»!!

إذن فالقضية التي كانت مثارة، لا علاقة لها بنسخ أحكام القرآن، ولا ببيان النبي للقرآن، وإنما بالتشكيك في مجيء النبي الخاتم بـ «آية» عقلية، لا تنتهي فاعليتها بوفاة النبي، كما انتهت فاعلية الآيات الحسية بوفاة الرسل السابقين!!

إن لفظ «آية» في السياق القرآني، إذا ورد بصيغة المفرد، فإنما يراد به «البرهان» المبين، أي الحدث الجلل الذي يحتاج إلى قدرة إلهية، وهذا ما يتسق مع ذيل الآية «١٠٦»:

«أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»

ومع سياق الآية «١٠٧»:

«أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ»

وأيضا مع توجيه الخطاب إلى الذين أرادوا أن يسألوا رسولهم محمدا كما سأل بنو إسرئيل موسى أن يريهم الله جهرة، فقال تعالى «الآية ١٠٨»:

«أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ»!!

إذن فآية النسخ «١٠٥» جاءت تُبيّن العلاقة بين الرسالة الخاتمة ورسالات الرسل السابقين، وأن القرآن جاء ناسخا لكل هذه الرسالات، سواء كان هذا النسخ متعلقا بما حملت هذه الرسالات من تشريعات، أو متعلقا بطبيعة «البرهان» الذي أيد الله به الرسل، والذي جعله الله لرسوله الخاتم «آية» عقلية، قائمة بين الناس إلى يوم الدين!!

إن ما ذكرته سابقا عن آية النسخ «١٠٥» ينطبق تماما على أختها «الآية ١٠١» من سورة النحل ، حيث يقول الله تعالى:

«وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ»

إن قولهم «إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ» ليس بسبب نسخ أحكام القرآن أو تبديلها، فهم أصلا لا يؤمنون بالقرآن، وإنما بسبب أن القرآن حمل في ذاته «الآية» الدالة على صدق نبوة محمد، عليه السلام، وهذا ما بينه الله بعدها بقوله:

«قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ»!!

لقد مُلئت بطون كتب المصدر الثاني للتشريع، عند الفرق والمذاهب المختلفة، بأمهات كتب الحديث، من صحاح وسنن ومسانيد ومصنفات ومستدركات…، وبأمهات علوم القرآن، من تفسير وأسباب نزول وناسخ ومنسوخ وقراءات…، بما جعل الرسالة الخاتمة، التي جاءت لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، والتي حملها من أرسله الله «رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ»، جعلها لا تختلف كثيرا عن الرسالات التي حرفها أتباع الرسل السابقين!!

والسؤال: من المسئول عن أن تتحول الرحمة إلى عذاب، وإلى تطرف وإرهاب، وتخلف وإفساد؟!

إنه المصدر الثاني للتشريع، الذي تحمي مرجعياته المؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية، ليستقي منها أئمة الخلف تدينهم، وينشروه على الناس من خلال منابر الدعوة المختلفة، ثم بعد ذلك نطالب نفس هذه المؤسسات بتجديد «الخطاب الديني» ومحاربة الإرهاب!! الحقيقة، شيء لا يصدقه عقل!!

معلومات:

روح القدس: هو جبريل، عليه السلام، لقوله تعالى: «وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ»، والروح: المَلَك، والقدس: الطُهر، ومعناه الفضل وجلالة القدر، وإضافة الروح إلى القدس من إضافة الموصوف إلى الصّفة، والمعنى: الملك المقدس.

أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى