لقد توفي رسول الله محمد، عليه السلام، ولم يعرف صحابته إلا خطابا دينيا واحدا، هو الذي أمرهم الله به، هو خطاب «الآية القرآنية»، التي حملت نصوصها البرهان الوحيد الدال على صدق نبوة رسول الله محمد، والذي سماه الله بـ «النور»، فقال تعالى:
«فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».
لقد توفي رسول الله ولم يعرف صحابته إلا خطابا مجمعا وليس مفرقا، فكانوا خير أمة أخرجت للناس، هذا الخطاب الذي حمل للناس النور، يدعوهم إلى التعرف على حقيقة الإسلام ومقاصده الحكيمة، فأخرجهم من ظلمات الشرك والجهل والتخلف، إلى نور الوحدانية والعلم والتقدم، قال تعالى:
«هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ».
لقد توفي رسول الله ولم يعرف صحابته إلا مصدرا تشريعيا واحدا، هو نصوص «الآية القرآنية»، وأنّ أحكام الشريعة الإلهية لا تُستقى من خارج حدود هذا المصدر، وأن «الإسلام» الذي لن يقبل الله دينا غيره، في اتباع هذا المصدر، قال تعالى:
«وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ»
فأين «الخطاب الديني» اليوم من هذا «الإسلام»؟!
لقد أصبح «الخطاب الديني» خطابا مذهبيا، بعد أن تفرق المسلمون إلى طوائف عقدية وتشريعية متخاصمة، لكل طائفة مساجدها التي تدعو فيها الناس إلى مذهبها، باعتبار أنه الدين الحق الذي أمر الله باتباعه…، فمن المسؤول عن هذا الخطاب المذهبي الذي مزق المسلمين من داخل مساجدهم؟!!
إن في مصر آلاف المساجد، في المدن والقرى والنجوع، يقوم على شؤون «الخطاب الديني» فيها دعاة من مختلف التوجهات العقدية والتشريعية، وتعتبر هذه المساجد مدارس تربوية حاضنة للثقافة والمعارف الإسلامية، التي تشربتها قلوب المسلمين عقودا من الزمن، ولن تجد في مسجد واحد من هذه المساجد من يدعو إلى غير التوجه الديني المذهبي الذي يؤمن به!!
إذن فمن المسئول عن هذا «الخطاب الديني» العشوائي، الذي أفرز مسلمين لا يعلمون شيئا عن الإسلام غير الذي تعلموه في هذه المساجد، فخرجوا بعاطفتهم الدينية يقولون «نعم»، دون علم بحقيقة التيارات الدينية التي ستحكم البلاد، لذلك وبعد عام من الحكم باسم الإسلام، خرج كثير منهم يقولون له «لا»، وآخرون أصروا على «نعم»، فخرجوا واعتصموا وشاركوا في أعمال العنف وسفكوا الدماء بغير حق، ومازالوا يفعلون إلى يومنا هذا!!
فمن كان المسئول عن توجيه «الخطاب الديني» في هذه المساجد، خلال العام الذي حكمت فيه هذه التيارات الدينية البلاد؟! ولماذا لم تُبيّن المؤسسات الدينية الرسمية للشعب، حقيقة هذا التحالف الديني بين التيارات المختلفة، وتاريخها، وكيف أنها تُداهن في خطابها الديني «تقية» حتي تتمكن، وكل ذلك «ابتغاء وجه الله»، فهل لم تكن تعلم حقيقة هذه التحالفات، ولديها هيئة كبار العلماء، ومجمع البحوث الإسلامية، ثم علمتها بعد عزل هذه التيارات عن الحكم؟!
إن «الخطاب الديني» الذي يحمل التعددية المذهبية «العقدية والتشريعية» ليس من دين الله في شيء، لذلك أقول:
أي «تجديد» هذا، وأي «تطوير»، وأية «تنقية»، لخطاب ديني هو في أصله خطاب مذهبي باطل، يحمل عقائد وتشريعات تخاصمية تكفيرية، يدافع عنها أصحابها، بدعوى أنها «السنة النبوية»، التي أجمعت الأمة الإسلامية عليها، وأصبحت من «المعلوم من الدين بالضرورة»؟!
إن مصطلح «أجمعت الأمة» مصطلح تطلقه كل طائفة على أتباعها، باعتبار أنها «الفرقة الناجية»، وإلا فأين هي هذه الأمة التي أجمعت، وأين أجمعت، ومتى أجمعت…، وهل عرف رسول الله وصحبه هذا الإجماع المذهبي الذي تتحدث عنه كل طائفة، وما هو موقف الأزهر والأوقاف من هذا الإجماع؟!
فما أشده منكرا، أن تُجمع الطوائف الدينية المختلفة، في خطابها الديني للناس، على أن مرجعية «الإسلام» وحيان: وحي إلهي محفوظ بحفظ الله له، النور الذي أنزله الله على رسوله، وهو نصوص «الآية القرآنية»، ووحي وصل إلينا عن طريق مرويات «السنة» المنسوبة إلى النبي، كما يدّعون، التي أتاه الباطل من بين يديها ومن خلفها!!
ما أشده منكرا، أن يحمل «الخطاب الديني» للناس، أن تفرق المسلمين وتخاصمهم وتقاتلهم يرجع إلى إرادة الله، فلو شاء الله ما فعلوه!! وأن الإسلام انتشر بالسيف!! وأن عقوبة الزنا الرجم، في الوقت الذي يقول فيه القرآن أن العقوبة الجلد!! وأن المرأة مخلوق ناقص، خلقها الله من أجل الاستمتاع، وهي التي أخرجت آدم من الجنة، وإذا مرت بين يدي مصلي، فإنها تقطع صلاته، كما يقطعها الكلب والحمار!! وأن منابع الرق مازالت موجودة إلى اليوم، وأن أسرى الحروب من النساء يعتبرن سبايا «ملك يمين»، يوزعن على الضباط والجنود!!
ما أشده منكرا، أن يحمل «الخطاب الديني» للناس، أن من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية، أما أن يصدر ذلك عن مؤسسة الأزهر، في بيان رسمي لها، «الجمعة ٢١ نوفمبر ٢٠١٤»، بشأن دعاوى رفع المصاحف، فهذه مصيبة كبرى!! لقد حمل بيان الأزهر للناس رواية منسوبة إلى النبي، رواها مسلم فى صحيحه، تقول:
«مَن خرَج من الطاعة، وفارق الجماعة، فمات مات ميتةً جاهلية، ومَن قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبةٍ، أو يدعو إلى عصبةٍ، أو ينصُر عصبةً، فقُتِلَ فقِتلةٌ جاهليَّةٌ، ومَن خرج على أمَّتى يضرب بَرَّها وفاجرها، ولا يتحاشى من مُؤمِنها، ولا يفى لذى عهدٍ عهدَه فليس منى ولست منه»!!
فماذا يقصد الأزهر بالاستدلال بهذه الرواية؟! هل يقصد بـ «الجماعة» مؤسسة الأزهر وإمامها، وعلى هذا يصبح من لم يبايع الإمام، ويتبع «المذهب الأشعري»، الذي هو مذهب مؤسسة الأزهر، مات ميتة جاهلية؟!
إذن فما موقف الأزهر من «إمام أهل السنة»، الذي يبايعه أعضاء الجمعية الشرعية خلال عقود مضت، وتعد مساجدها بالآلاف؟!
وما موقفه من رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية، وأمراء الجماعة السلفية، والجماعة الإسلامية، وغيرها…، فهل هؤلاء فارقوا «الجماعة»، لأنهم لم يبايعوا الإمام، ولم يتبعوا المذهب الأشعري؟!
لقد وُضعت هذه الرواية بعد أحداث الفتن الكبرى، وأقام معاوية على أساسها حكمه العضود، ووَرّث أبناءه الخلافة، ثم أصبحت هي السند الشرعي لكل الجماعات المتطرفة والإرهابية التي تسعى في الأرض فسادا، وتسفك الدماء بغير حق، ويُخيف بها أمير الجماعة أتباعه، ويحذرهم من الخروج عليه، لأن الرسول قال من «فارق الجماعة»، فمات «مات ميتةً جاهلية»!!
لقد صدر قانون ضم جميع المساجد الأهلية إلى وزارة الأوقاف، عام ١٩٦٠م، وأصبحت هذه الوزارة تتحمل مسئولية الإشرافها على جميع المساجد الأهلية بمصر، فهل كانت هذه المسئولية تتعلق بالإشراف المالي والإداري فقط، أم بالمسئولية الدينية، والوعظ والإرشاد، هذا الدور الدعوي الخطير الذي يمكن أن تقوم به هذه المساجد بين الناس؟!
وإذا كانت مسئولية وزارة الأوقاف تتعلق بشئون الدعوة في المساجد، فأين كانت الوزارة يوم أن فتحت هذه المساجد أبوابها لكل التوجهات العقدية والتشريعية المتطرفة، وكانت «ومازالت» هي البيئات الحاضنة لها، من خلال الدروس والخطب المنبرية التي تعقد فيها، والتي كان لها الفضل الكبير في تقسيم الشعب المصري إلى طوائف دينية متخاصمة متقاتلة، تشكل خطرا كبيرا على أمن البلاد والعباد؟!
أم أن مؤسسة الأزهر هي المسئولة عن هذه الأجيال المتطرفة، التي تخرجت من هذه المساجد، لأنه وحسب القانون الصادر عام ١٩٦١م بشأن إعادة تنظيم الأزهر والهيئات التابعة له، يتحمل الأزهر مسئولية وأمانة الدعوة الإسلامية إلى كل الشعوب، وإظهار حقيقة الإسلام وأثره في تقدم البشر، وطبعا الشعب المصري له الأولوية في هذه المسئولية، فهل تحمل الأزهر مسئوليته تجاه الشعب المصري، فقطع دابر التطرف الديني من أمهات الكتب التي تدرس في جامعاته، ويحملها علماؤه معهم إلى الناس في المساجد؟!
ماذا قدمت وزارة الأوقاف، ومؤسسة الأزهر، بهيئة كبار علمائها، ومراكزها البحثية، حتى لا يصل «الخطاب الديني» إلى هذا المستوى المذهبي التخاصمي، الذي تشهده جميع مساجد مصر؟!
فهل يُعقل أن تكون مهمة الأزهر هي فقط تخريج المؤهلين للدعوة الإسلامية، ثم تخلي مسئوليتها، وتحملها لوزارة الأوقاف؟!
إننا في أشد الحاجة إلى هيئة رقابية واحدة، تكون مسئولة عن «الخطاب الديني»، أعضاؤها ليسوا من علماء المذاهب الدينية، وإنما من علماء الدين الإسلامي، وفرق كبير بين عالم الدين وعالم المذهب، يشاركهم علماء من جميع التخصصات العلمية الفاعلة في صنع «الخطاب الديني» الحضاري، الذي يتناغم مع نصوص «الآية القرآنية»، وينطلق من قاعدة شرعية تتعلق بالمساجد، وهي قوله تعالى:
«وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا».
إن أول قرار يجب أن تتخذه هذه الهيئة الرقابية، بناء على هذه القاعدة الشرعية، هو إزالة جميع اللافتات الموجودة داخل وخارج المساجد، التي تُعلن عن هوية هذه المساجد ومذاهبها، وحل جميع مجالس الشورى، وهيئات كبار العلماء، التابعة لها!!
إن »الخطاب الديني« هو النور الذي يهدي الناس إلى صراط ربهم المستقيم، خطاب يتفاعل مع التحديات المحلية والعالمية والمستجدات الحضارية، بلغة معاصرة، تقدم حلولا عملية بعيدا عن «الخطاب الديني» المذهبي المتخلف، الذي لا يغني ولا يسمن من جوع!!
«وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»
معلومات:
* الجامع الأزهر: يرجع تاريخ إنشائه إلى عام ٩٧٠م، وكان الغرض من إنشائه تخريج دعاة للمذهب الإسماعيلي الشيعي، وظل الأزهر يدرس المذهب الشيعي حتي تولى صلاح الدين حكم مصر فجعله جامعا سنياً، وأنشأ المدارس لتدريس الحديث والفقه السني.
* وزارة الأوقاف: يرجع تاريخ إنشائها إلى عام ١٨٣٥م، وكانت هيئة تختص بإدارة أموال الوقف واستثمارها، تحولت إلى وزارة عام ١٩١٣م، ثم في عام ١٩٦٠م صدر القانون بضم جميع المساجد الأهلية إليها.