بعد عرض مزيد من البراهين القرآنية، الدالة على أن طاعة الأبناء للوالدين فريضة قرآنية، وذلك قبل بلوغ الحلم، استنادا إلى قوله تعالى:
«لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ»
وافقنا المختلفون على أن طاعة الوالدين (واجبة) حتى بلوغ الحلم، ولكنهم جعلوها محصورة فقط في ما قبل البلوغ، أما بعد البلوغ، فلا مانع من أن يرمي الأولاد الوالدين في الشارع، ثم يمُرّون عليهما كل كام يوم، يعطيهما بعض المال والمأكولات، من باب الإحسان، كالإحسان إلى الفقراء والمساكين، لأن الله لم يأمر إلا بالإحسان إليهما فقط!!
الحقيقة، أن هذه مصيبة، من مصائب أصحاب القراءات الشاذة للقرآن، الذين يُقحمون أنفسهم في استنباط أحكام الشريعة القرآنية، دون دراية بالمنهجية العلمية التي أمر الله باتباعها لفهم واستنباط أحكام القرآن، والتي تقوم على «منظومة التدبر»!!
لذلك غاب عن هؤلاء، أن الله تعالى قال بعدها:
«وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»
فقوله تعالى: «وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ» يتحدث عن أحكام الشريعة الخاصة بالأولاد بعد بلوغهم الحلم، ثم قوله تعالى بعدها: «فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ» فعل أمر دال على وجوب طاعة الوالدين بعد بلوغ الحلم، حتى لا يفهم البعض أن الأمر بطاعة الوالدين ورعاية حقوقهما، تنتهي فاعليته عند بلوغ الأولاد الحلم!!
والسؤال: لماذا أمر الله الوالدين بتربية أطفالهم على الطاعة منذ الصغر، وقبل بلوغ الحلم؟!!
الجواب: لأن النفس إذا لم تترب في الصغر، على القيم والمبادئ والأخلاقيات، والأحكام التي حملتها الشريعة القرآنية، فلا تسألني: أين البيت المسلم، المؤمن، الذي يعيش في نور الآيات القرآنية وهدايتها؟!!
إن النفس يجب أن تتربى (منذ الصغر) على الالتزام بأحكام الشريعة القرآنية، فيكبر الطفل وهو ملتزم بهذه الشريعة الإلهية، فإذا بلغ الوالدان الكبر: «إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا»، وكثرت طلباتهما، وثقلت أعباؤهما، وزادت إشكالياتهما…، فلا يجد الأولاد صعوبة في تحمل ذلك: «فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا»!!
إن الإبن الذي يستطيع أن يملك زمام مشاعره، حتى لا يصدر منه تصرف يفهم منه الوالدان أنه متضجر (أُفٍّ) من طلباتهما، إن هذا الإبن هو الذي تربى منذ الصغر على أن طاعة والديه فريضة قرآنية، تقع في مقدمة الفرائض الشرعية، بعد الأمر بـ «الوحدانية»!!
فهل يمكن أن يتحمل الأولاد مشقة رعاية الوالدين في الكبر، هذا الحمل الثقيل علي النفس، ويلتزمون بقوله تعالى: «وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا»، دون أن يكونوا مسلمين حقا، مؤمنين، يعلمون ماذا تعني معصية الله في أمر طاعة الوالدين؟!
إن طاعة الوالدين فريضة شرعية: قبل بلوغ الحلم، وبعد بلوغ الحلم…، وفرق كبير بين العلم بأحكام الشريعة، وإقرار المسلم المؤمن بوجوب تنفيذها، وعدم التلاعب بها، وتحريفها عن مقاصدها…، فرق بين هذا الذي يجب أن يكون، وبين ما هو كائن في الواقع الذي نعيشه، والتحديات التي نواجهها!!
فلا الواقع، ولا التحديات، سيشفعان لنا يوم القيامة، مادمنا المسئولين عن تربية أولادنا، فلا نترك أطفالنا أمام التلفاز، وأمام الأجهزة المحمولة، وبين الأصدقاء، وفي رياض الأطفال، ثم في المدارس…، دون رعاية تربوية، ومتابعة منضبطة، من الوالدين، ثم نأتي بعد ذلك ونُحمّل البيئة المحيطة فساد أولادنا!!
إن التربية في الصغر، كالنقش على الحجر، يصعب على البيئة المحيطة إزالتها، وعندما يفقد الوالدان هذه التربية، فلا تسألني عن عقوق الأبناء، ولا عن أطفال الشوارع!!
«أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ» – «أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا»