كشف منشور الأمس «وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا»، عن خلل كبير في منظومة تدبر القرآن، عند أصحاب القراءات القرآنية الشاذة، الذين سبق أن قلت إنهم أشد خطرا على الإسلام من السلفيين، وذلك لجهلهم بعلم توظيف «اللسان العربي» في «سياقه القرآني»، وسأضرب مثالا على ذلك، وهو قول الله تعالى:
«وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا» – «وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا»
أولا: عندما يكون الأصل الأول من أصول الشريعة القرآنية هو الطاعة المطلقة لله تعالى «أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ»، ثم يأتي الأصل الثاني معطوفا على الأول بواو العطف «وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا»، فلا يُعقل أن نفهم من ذلك، أن «الإحسان»، في هذا السياق، يعنى ألا نطيع الوالدين، وإنما (نخدهم على أد عقلهم)، ونعمل احنا إلي في دماغنا…، هو انت فاكر إنك لما تضحك على نفسك، حتضحك على ربنا؟!
ثانيا: عندما يقول الله تعالى: «إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا» فهل هذا يعني أن قبل بلوغ الوالدين الكبر، يحل للإبن أن يقول لهما «أف» و«ينهرهما»؟! تصوروا … هكذا يفهم أصحاب القراءات الشاذة السياق القرآني، ويقولون نعم يحل للأبناء ذلك لأن الله قيّد هذا الحكم التشريعي ببلوغ الكبر!!
ثالثا: وبناء على ثانيا، فعندما يقول الله في سورتي العنكبوت ولقمان، في سياق الحديث عن نهي الأبناء عن الشرك بالله، فيقول تعالى: «فَلَا تُطِعْهُمَا»، فهل يُفهم من هذا النهي، عدم طاعة الوالدين مطلقا، أم فقط في حالة الشرك؟!
الجواب: فقط في حالة الشرك، نفهم من ذلك أن الأصل هو الطاعة المطلقة، ولقد ذكرت ذلك في المنشور السابق عندما قلت: «إن قوله تعالى: «فَلَا تُطِعْهُمَا» هو البرهان القطعي الدلالة، على أن الأصل هو طاعة الوالدين طاعة مطلقة»، وأزيد فأقول: إن معصية الوالدين كبيرة من الكبائر!!
رابعا: عندما يُبيّن الله مفهوم «الإحسان» في سياق تشريع حقوق الوالدين، فيقول: «إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا»، ثم يُعقب بـ (الفاء) الرابطة لجواب الشرط فيقول: «فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا»، ثم يقول: «وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا»، فهنا يجب أن نقف على الحكمة من هذا البيان، وهل هذه الحقوق عند بلوغ الكبر فقط؟!!
إن بلوغ الكبر يصاحبه مشقة القيام برعاية شؤون الوالدين، وخاصة الاستجابة لطلباتهما، وهذه مسألة لا تحتاج مني إلى بيان!! فإذا كان الله قد أمر الأبناء برعاية حقوق الوالدين عند بلوغ الكبر، مع ما في ذلك من مشقة كبيرة عليهم، فيستحيل أن يأمرهم بذلك وهم لم يتربوا عليه أصلا، ولم يتعودوا فعله طوال حياتهم الأسرية!!
إن التعقيب بـ (الفاء) الرابطة لجواب الشرط، في قوله تعالى: «فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا» يُبيّن بالدلالة القطعية، أن مجرد التضجر، الذي تعنيه كلمة (أف)، والذي أدناه الأذى باللسان، يُفهم منه، بطريق فحوى الخطاب بالأوْلى، النهي عن معصيتهما أصلا، وذلك بعدم تنفيذ طلباتهما، لذلك عقب بعدها بقوله «وَلَا تَنْهَرْهُمَا»، ويستحيل أن يكون ذلك عند بلوغ الكبر فقط!!
خامسا: ثم يُبيّن الله تعالى بعد ذلك الحكمة من أن يأتي الأمر برعاية حقوق الوالدين بعد الأمر بوحدانيته مباشرة، فيقول تعالى:
«وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا»
عندما يأمر الله الأبناء بالتواضع للوالدين تواضعاً يبلغ حد (الذل)، فماذا يعني هذا الأمر؟! وكيف يُحقق الأبناء ذلك عمليا ونفسيا، عند بلوغ الوالدين الكبر؟!
إن الوالدين يريدان دائما أن يكونا هما مصدر العطاء لأولادهم، ويعز عليهما أن يعجزا عن ذلك عند بلوغ الكبر، وهذا الضيق النفسي الذي يشعران به، لا يزول إلا عندما ينطلق هذا (الذل) من قاعدة «الرحمة» التي تشربتها قلوب الأولاد، ثمرة التربية الصالحة، التي شارك فيها الوالدان، والتي أثرت في قلوبهم، فدعوا الله لهما بالرحمة: «وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا»!!
إن الذي يعصى والديه، سيجني ثمرة هذه المعصية في الدنيا قبل الآخرة، حتى ولو كانوا مشركين، لأنك منهي عن طاعتهما في الشرك فقط، وما عدا ذلك: «وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفً»!!
إن المصالح الدنيوية لا تقاس ولا تقارن بحقوق الوالدين، لذلك عليك أن تسعى لإرضائهما بطريقة أو بأخرى، لتحقيق ما ترى أن فيه المصلحة، وأن تعلم أنك «مُبتلى»، وأن نجاحك في اجتياز هذا الابتلاء متوقف على مدى «تقواك»: «وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا» – «وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ» – «وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ»!!
إن أحكام الشريعة القرآنية ليست مسئولة عن فساد منظومة تربية الأولاد، الذين هم آباء وأمهات المستقبل، ولا عن فساد منظومة الزواج، فلا يعرف الزوج (المرأة أو الرجل)، حقوق الوالدين، ولا حرمة تقطيع الأرحام…، ولذلك فنحن في أشد الحاجة إلى إعادة بناء إيمانا حسب ما أمرت به الشريعة القرآنية، ويومها سيعرف كل ذي حق حقه!!
وأخيرا أقول:
إن تدبر القرآن، يستلزم منهجية علمية، تحمل أدوات لفهم القرآن، في مقدمتها: علم «اللسان العربي»، وعلم «السياق القرآني»!!
إن معرفة الفروق اللسانية بين معاني الكلمات (كالفرق بين الطاعة والإحسان) لا قيمة لها، إذا لم تُوظف هذه المعرفة توظيفا صحيحا في «سياقها القرآني»!!
إن الأصدقاء الذين يمرون على هذه الصفحة مرور الكرام (ترانزيت)، برجاء أن يحاولوا فهم مشروعي الفكري، وما يحمله من أدوات لفهم القرآن، حتى لا تأتي تعليقاتهم عشوائية، تحمل كلاما مرسلا، لا علاقة له بالمنشور!!