يرجع موقفي من «عقوبة الرجم» إلى عام ١٩٧٢م، وقت أن كنت داعياً (سلفيا)، أحمل لطلاب الكليات والمعاهد العليا ثقافة التكفير والتخاصم المذهبي، وأفتي في مسائل الحلال والحرام على أنها أحكام الشريعة الإسلامية، قطعية الثبوت عن الله تعالى….، وكان لي درس يوم الجمعة، بمسجد الجمعية الشرعية الرئيسية، بشارع الجلاء، رمسيس، القاهرة!!
وفي هذا العام، وأثناء انعقاد ندوة التشريع الإسلامي المنعقدة بمدينة البيضاء، ليبيا، خرج الشيخ محمد أبو زهرة على الحضور قائلا: إن الرجم كان شريعة يهودية، أقرها الرسول في أول الأمر، ثم نُسخت بعقوبة الجلد، بعد نزول سورة النور..، وأنه كتم هذا الرأي في نفسه عشرين سنة، وآن له أن يبوح به، قبل أن يلقى الله ويسأله: لماذا كتمت ما لديك من علم، ولم تبينه للناس؟!
لقد أصابني هذا الموقف بالذهول، فقد كنت أرى، كما يرى علماء المسلمين، أن منكر «الرجم» كافر، خارج من ملة الإسلام، فكيف يأتي عالم أزهري، صاحب مدرسة فكرية لها وزنها العلمي، وينكرعقوبة «الرجم»، أمام نخبة من علماء العالم الإسلامي؟!
لقد دفعني هذا الموقف إلى إعادة النظر في تديني الوراثي، ودراسة حجية أحكام الشريعة، في ضوء هذه الخلافات الفقهية، ولقد انتهيت من هذه الدراسة في أوائل الثمانينيات، وظهرت أمامي البراهين الدالة على أن عقوبة «الرجم» مفتراة على الله ورسوله!!
فهل يُعقل، أن تنسخ عقوبة (الرجم)، التي جاءت بـ «رواية مذهبية»، عقوبة (الجلد) التي جاءت بـ «آية قرآنية»، لتصبح ثقافة «الرواية»، حاكمة على فقه «الآية»؟!
وهل يُعقل، أن السورة التي سماها الله بـ (النور)، ووصف آياتها بـ (الآيات البيّنات)، هي التي يُفترى على أحكامها الكذب، ويتحول (نورها) إلى ظلمات، وتتحول (آياتها البيّنات) إلى روايات؟!
وهل يعقل، أن تأتي الآية البيّنة بعقوبة (الجلد)، أي العقوبة (المخففة)، ثم تأتي الرواية المذهبية بـ (القتل)، وهي العقوبة (الأشد)، بدعوى أن الله تعالى فوض رسوله أن يستقل بهذا التشريع؟!
وهل يعقل أن يقول الله تعالى: «اجلدوا»، ثم يقول الرسول: «ارجموا»، بدعوى أن (السنة النبوية) مبينة للقرآن؟!
أليست هذه مؤامرة على الشريعة القرآنية، شارك فيها كل من آمنوا بهذه العقوبة، من الأئمة، والعلماء، والشيوخ، والدعاة، المتقدمين والمتأخرين؟!
فماذا أقول في قوله تعالى، في أول آية من سورة النور:
«سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ»
والتي أعقبها الله بقوله:
«الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ»
أولا: لقد تحدثت الآية عن فعل (الزنا)، على إطلاقه، لم تفرق بين محصنة وغير محصنة، ولا بين محصن وغير محصن، فقال تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي»!!
ثانيا: لقد نصت الآية على عقوبة (الزنا)، وهي تحديدا (الجلد)، ولم تتركها لبيان النبي، فقال تعالى: «فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ»!!
ثالثا: عندما اشترط الله الإشهاد على العقوبة، وصفها بـ (العذاب)، فقال تعالى: «وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ»!!
رابعا: عند الحديث عن أحكام اللعان، وهي أحكام خاصة بالمرأة التي اتهمها زوجها بالزنا، بيّنت الآية (٨)، أن عقوبة هذه المرأة (العذاب)، المعرف بأل العهدية، فقال تعالى: «وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ…»، إشارة إلى (العذاب) الذي بينته الآية (٢)، وهو (الجلد): «وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ»!!
خامسا: فإذا ذهبنا إلى سورة النساء، وجدنا أن الأمة (المتزوجة) إذا زنت، فعليها نصف عقوبة (الحرة) فقال تعالى: «فَإِذَا (أُحْصِنَّ) فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى (الْمُحْصَنَاتِ) مِنْ الْعَذَابِ»
فإذا (تزوجن) الإماء، فعليهن نصف ما على (الحرائر) من العذاب، أي أن عقوبة (الأمة) نصف عقوبة (الحرة)، خمسون جلدة، وليس «القتل» رميا بالحجارة!!
فمن أين جاء أئمة، وعلماء، وشيوخ، ودعاة المسلمين، أن الزانية (المحصنة) تُرجم؟!
قالوا: جئنا بها من المصدر الثاني للتشريع!! هذا المصدر الذي صنعه أئمة الفرق والمذاهب المختلفة بأيديهم، ووسموه باسم (السنة النبوية)، ليأخذ قدسية في قلوب أتباعهم، وليخدم توجهاتهم العقدية والتشريعية المختلفة، فمن أراد أن يقتل نفسا بغير حق، أخرج من خزانة هذا المصدر ما يبيح له فعل ذلك!!
فإذا سألتهم: وهل يُعقل أن تقتل النفس التي حرم الله بـ (رواية)، والله تعالى يقول: (إلا بالحق)؟!
قالوا: إن مرويات (السنة)، تخصص، وتقيد، وتنسخ، أحكام القرآن، وهذا هو (الحق) الذي نصت عليه الآية!!
فإذا سألتهم: وكيف تنسخ (الرواية) البشرية (الآية) القرآنية؟!
أخرجوا لك من خزانة مصدرهم التشريعي المفترى، القواعد التي صنعوها بأيديهم، ليقيموا عليها أحكام شريعتهم المذهبية، ومنها قاعدة (النسخ) في القرآن، الذي صنّفوه إلى ثلاثة أصناف:
أولا: ما نُسخ تلاوته وحكمه، أي الآيات التي لا وجود لها في المصحف!!
ثانيا: ما نُسخ تلاوته وبقي حكمه، أي الآيات التي لا وجود لها في المصحف، ولكن حكمها باق!!
ثالثا: ما نُسخ حكمه وبقيت تلاوته، أي أن الآيات موجودة في المصحف، ولكن لا يُعمل بأحكامها!!
وبهذه القواعد المفتراة على الشريعة القرآنية، استطاعوا أن يجدوا مخرجا لكل الإشكالات التي تواجه مصادرهم الثانية للتشريع، وما حملته من مرويات، يدّعون أنها (السنة النبوية) واجبة الاتباع!!
فإذا سألتهم: ولماذا لم يُدوّن الصحابة (آية الرجم) في كتاب الله؟! قالوا: لأنها نسخت تلاوة (أي لا تكتب في المصحف)، وبقيت حكما (أي ويبقي حكمها معمولا به إلى يوم القيامة)، وهو الصنف الثاني من النسخ!!
فهل هذه شريعة إلهية؟! هل هؤلاء عرفوا قدر ربهم؟! هل هؤلاء أسلموا وجوههم لله تعالى؟!
فإذا سألتهم: وما دليلكم على وجود ما يُسمى بـ (آية الرجم) أصلا؟!
أخرجوا لك من خزانة مرويات (السنة)، ما رواه البخاري ومسلم، عن ابن عباس، قال: قال عمر بن الخطاب، وهو جالسٌ على منبر رسول الله:
إن الله قد بعث محمدًا بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه (آية الرجم)، قرأناها ووعيناها وعقلناها، فرجم رسول الله، ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن (الرجم) في كتاب الله حق، على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البيّنة، أو كان الحَبَلُ، أو الاعتراف!!
فها هم يدّعون أن عمر بن الخطاب، الخليفة الثاني، شهد أن الله أنزل على رسوله (آية الرجم)، وقد قرأها الصحابة…، فإذا بحثت في كتب المرويات، تجد أن (آية الرجم)، جاءت من طريق واحد هو سفيان بن عيينة، الذي قال فيه النسائي في سننه الكبرى: (لا أعلم أحدا ذكر في هذا الحديث: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم»، غير سفيان، وينبغي أنه وهم، والله أعلم)
فإذا نظرنا في كتاب الله، فلن نجد لهذه الآية «الشيخ والشيخة…» أي أثر، وإذا كان السبب هو أنها نُسخت تلاوة، فلماذا اختلف المحدثون على صحة متنها اختلافا كبيرا، وقالوا إن (آية الرجم) كانت في صحيفة تحت سرير عائشة، فدخل داجن فأكلها؟! (الداجن: كل مستأنس من حيوان وطير)
إنني لن أضيع وقت القارئ في خلاف (عقيم) حول صحة هذه الرواية، وسأكتفي بنقل ما قاله الشيخ محمد بن صالح العثيمين، عضو هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، عند شرحه لكتاب «زاد المستنقع – كتاب الحدود»، حيث قال:
«إن حكم الرجم مناط بـ (الإحصان)، وليس بـ (الشيخوخة)، كما في الآية المذكورة، فالشاب المحصن يرجم، والشيخ غير المحصن لا يرجم، وإن بلغ من العمر عتيًّا، وهذا لا يفيده ظاهر الآية»!!
فالشيخ ابن العثيمين، يشكك في صحة (آية الرجم)، لمعارضتها لقول عمر بن الخطاب: «وإن الرجم في كتاب الله حق، على من زنى إذا (أحصن) من الرجال والنساء»، فيسأل ما علاقة الشيخوخة بالإحصان؟!
والغريب، أن هناك رواية في صحيح البخاري، عن عبد الله بن أوفى، أنه سُئل عن الرجم، وهل كان بعد نزول سورة النور أم قبلها، فقال: (لا أدري)!!
وعلى فرض أن النبي (رجم)، قبل نزول آيات سورة النور، فيستحيل أن يستمر في (الرجم)، وقد نزلت آيات مبينات، قطعية الدلالة، تنص على أن عقوبة الزنا هي (الجلد)؟!
فماذا أقول في العلماء والشيوخ والدعاة، الذين يؤمنون أن (الرجم) من أحكام (السنة النبوية)، فيسفكون بذلك الدماء بغير حق، في الوقت الذي أراهم يصدرون بيانات الإدانة والشجب، عندما تسفك الجماعات الإرهابية الدماء بغير حق، وكأن القضية تتعلق بهوية القتلة، وليس بأمهات الكتب، التي يأخذ منها القتلة الدليل والفتوى على شرعية أعمالهم الإجرامية؟!!
«أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»
معلومات
المحصنة: المحصنة في السياق القرآني تعني إما العفيفة: {والمحصنات مِنَ المؤمنات}، أو الحرة: {فَإِنْ أَتَيْنَ بفاحشة فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب}، أو المتزوجة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم … إلى قوله {والمحصنات مِنَ النساء}.
اللعان: يكون بين الزوجين، فيحلف الزوج أربع شهادات بالله أنه شاهد امرأته تزني، ويقول في الخامسة (أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ)، ثم تحلف امرأته أربع شهادات بالله أنه كاذب، وتقول في الخامسة (أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ).
رابط المقال:
https://www.feqhelquran.com/…/2015629111330423Mq%2029-6-2015…