عندما تصبح «الحكمة» الإلهية المنزلة، «مرويات» بشرية!!
عندما تحكم المناهج العشوائية الفكر الإسلامي، وتنحرف بالمسلمين عن المنهجية العلمية في تفعيل آليات التفكر والتعقل والتدبر…، فلا تسألني لماذا تخلف المسلمون، وتفرقوا وتخاصموا وتقاتلوا، وحلّ بهم غضب الله..، وهم يحملون «الكتاب الإلهي»، الذي يخرج الناس من الظلمات إلى النور:
«الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ»
إن المنهجية العلمية، التي تحمل أدوات فهم وتدبر القرآن، تفرض علينا عدة حقائق:
أولا: لم يعرف النبي محمد، عليه السلام، ولا صحبه، في عصر الرسالة، إلا دينا واحدا، وإسلاما واحدا، وأمة واحدة، وسنة نبوية واحدة، شاهدوها بأعينهم، وتفاعلوا معها، وكانت حقيقة قرآنية، عرفها المسلمون جميعا، على مر العصور.
ثانيا: لم يشهد عصر الرسالة، ولم يكن من بين صحابة النبي، سني أو شيعي…، حنفي أو مالكي…، أشعري أو سلفي أو ماتريدي…، فمن أين جاءت هذه الفرق، وهذه المذاهب (العقدية) المختلفة، التي يكفر بعضها بعضا؟!!
ثالثا: لقد أمر الله رسوله، أن يتبرأ من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا: «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ»…، وحذر المؤمنين، من أن يشركوا بالله، إن هم تفرقوا في الدين: «… وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ – مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا، كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»!!
وبناء على هذه المحاور الرئيسة، سيفرض السؤال نفسه:
بأي منطق علمي، وعلى أي أساس شرعي، يخرج علينا علماء ودعاة وأتباع كل فرقة من الفرق الإسلامية، وهم يصفون أنفسهم بأنهم (الفرقة الناجية)، المتمسكة بـ (السنة النبوية) الصحيحة، وغيرهم في النار؟!!
إن المنطق العلمي، القائم على أساس شرعي، يفرض على المسلمين، ألا يقبلوا من أي عالم من علماء الفرق المختلفة، أن يتحدث باسم (الإسلام)، ولا باسم (الأمة الإسلامية)، ولا يدافع عن (السنة النبوية)، لأنهم جميعا، لا يعلمون شيئا عن هذه الحقائق، إلا من على خلال تراثهم الديني المذهبي، الذي دوّنه أئمتهم، بعد وفاة النبي، بقرنين من الزمن، على أقل تقدير!!
إن على علماء ودعاة كل فرقة من الفرق الإسلامية المختلفة، أن يعلنوا صراحة على منابر الدعوة المختلفة، من هم، ومتى نشأت الفرقة التي ينتمون إليها، ليس بالكلام المرسل، وإنما بالوثائق التاريخية، التي حفظها الله تعالى، لتكون حجة عليهم، على مر العصور!!
إن (مرويات السنة) صناعة بشرية بنسبة ١٠٠٪، ولا علاقة لها بـ (السنة النبوية) التي انتهت فاعليتها بوفاة النبي، ونزل بها قرآن يُتلى، إلى يوم الدين. ولذلك ذهب أئمة السلف، يُنقبون في كتاب الله، لعلهم يجدون دليلا، يجعلونه برهانا على حجية (مرويات السنة) التي صنعوها بأيديهم، فوجدوا ضالتهم في آيتين:
الأولى: قوله تعالى في سورة النساء (١١٣):
«…. وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ (وَالْحِكْمَةَ) وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا»
والثانية: قوله تعالى في سورة الأحزاب (٣٤):
«وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ (وَالْحِكْمَةِ) إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا»
والسؤال الذي سيفرض نفسه:
إذا كانت «الحكمة»، المنزلة والمتلوة، هي (مرويات السنة)، التي إن صحت عند فرقة، لم تصح عند أخرى، فلماذا لم يستخدم الصحابة كلمة «الحكمة»، للتعبير عن «السنة النبوية»، أو عن «الحديث النبوي»، إذا كان هذا هو مفهوم الصحابة للحكمة، ولماذا لم يتعهد الله بحفظ هذه (المرويات)؟!
إن من له أدنى دراية بعلم (السياق القرآني)، عندما يريد أن يقف على معنى كلمة من كلمات القرآن، عليه أن يبحث عن هذه الكلمة، في القرآن كله، لعله يجد معناها، ولا يكون هناك مجال للاجتهاد!!
لقد وردت كلمة (الحكمة)، في السياق القراني، بأكثر من معنى، والذي يهمنا هو المعنى المتعلق بالحكمة (المنزلة) و(المتلوة)، وهي أحكام الشريعة (الحكيمة)، التي وردت في (الآيات ٢٢- ٣٨) من سورة الإسراء، والتي قال الله تعالى بعدها (الآية ٣٩):
«ذَٰلِكَ مِمَّا أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا»
إن اسم الإشارة (ذَٰلِكَ)، يعود إلى جميع ما ذكر من الأوامر والنواهي، التي وردت في الآيات قبلها، وجاءت (من) التبعيضية (مِنَ الْحِكْمَةِ)، لبيان أن هناك أحكاما أخرى في كتاب الله، غير التي وردت في هذه السورة، وهي أيضا من (الحكمة) المنزلة!!
إذن فالحكمة (المنزلة)، التي وردت في سورة النساء: (وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)، والحكمة (المتلوة)، التي وردت في سورة الأحزاب: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ)، هي مجموع أحكام الشريعة (الحكيمة)، التي حملتها آيات الذكر الحكيم.
ونلاحظ أن قوله تعالى: «مَا يُتْلَى» ثم قوله بعدها «مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ»، يُبيّن أن (المتلو) عبارة عن آيات وحكمة، ومعلوم أن (التلاوة)، لم تذكر في سياق التنزيل، إلا وقصد بها تلاوة آيات الذكر الحكيم.
إن «الحكمة» المتلوة، التي وردت في سورة الأحزاب، هي ما يجب أن يُتلى في بيوت المسلمين، من أحكام الشريعة، أسوة ببيوت النبي، فقوله تعالى: (وَاذْكُرْنَ)، أمر بمذاكرة وتذكر (مَا يُتْلَى) من آيات الله، وخاصة ما حملته من أحكام الشريعة، القاعدة الأساس، التي تقوم عليها تزكية النفس.
إن «الحكمة» المنزلة، في (الآيات ٢٢-٣٩) من سورة الإسراء، بدأت بالإقرار بـ (الوحدانية): «لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً» وانتهت بتأكيد الإقرار بالوحدانية (الآية ٣٩): «ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنْ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً»
فهل يُعقل، أن تتساوى حجية هذه الأحكام الحكيمة، قطعية الثبوت عن الله تعالى، قطعية الدلالة، والمحاطة بـ (الوحدانية) من كل جانب…، مع (مرويات السنة)، التي صنعها المحدثون بأيديهم، حسب مذاهبهم (العقدية والتشريعية)، ومدارسهم في الجرح والتعديل؟!
إنه يستحيل أن تكون «الحكمة» المنزلة، مصدرا تشريعيا مستقلا عن «كتاب الله»، ثم لا يأمر الله النبي بتدوينها كما دوّن «الكتاب»، ويترك هذه المهمة، للذين «فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا»؟!!
إن عطف (الحكمة) على الكتاب، في سورة النساء: (الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)، وعطف الحكمة على الآيات في سورة الأحزاب: (آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ)، هو ما يُعرف في علم (السياق القرآني) بعطف الخاص، الذي هو (أحكام الشريعة) على العام، الذي هو (كتاب الله)!!
إن «الحكمة» المنزلة، هي القواعد والأحكام القرآنية (الحكيمة) المنظمة لحياة المسلم!!
وإن «الفرقان» المنزل، هو آلية التفريق بين الحق والباطل!!
وإن «النور» المنزل، هو المنهج الهادي إلى صراط الله المستقيم!!
وإن «الميزان» المنزل، هو القاعدة التي يقيم المسلم حياته عليها، بقيم الحق والعدل!!
وإن كل هذه الصفات، صفات (بيان) لآيات الكتاب الحكيم.
لقد دعا إبراهيم، عليه السلام، ربه فقال:
«رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ…»
فهل كان إبراهيم يقصد، أن يعلم النبي أصحابه، علوم الحديث، وكيف يُميّزون (بعد وفاته)، بين الحديث الصحيح والضعيف، حسب اجتهادات جهابذة علماء الحديث؟!
إن المنهج (المتلو)، الذي يتعلم منه الناس دينهم، هو آيات الكتاب: «يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ»، ولا يستطيع أن يخرج القائم على العملية التعليمية، عن المنهج الإلهي (المتلو)، ولذلك قال تعالى: «(وَيُعَلِّمُهُمْ) الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ»، لبيان أن «الحكمة» المنزلة، هي من علم (الكتاب)!!
واللافت للنظر، أن من «الحكمة»، التي أوحاها الله إلى رسوله، قوله تعالى في (الآية ٣٦) في سورة الإسراء: «وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً»
والقفو: الاتباع، والاتباع المحرم هو الاتباع بغير علم، فهل اتبع المسلمون «الحكمة» الإلهية المنزلة، أم اتبعوا (مرويات السنة) المذهبية المُصنّعة؟!
لذلك لا تتعجب، عندما ترى المسلمين، بين سني وشيعي، ومعتزلي وأباضي، وحنفي ومالكي…، وأشعري وسلفي …، إلى آخر عشرات الفرق، وعشرات المذاهب، والجماعات، والتنظيمات الإرهابية، المتفرعة عنها!!
ولا تتعجب، عندما تكتشف، أن معظم أحكام الشريعة الإسلامية، التي يدّعي أنصار (الفُرقة والمذهبية)، أنه لولا (السنة النبوية)، ما عرفناها، ولا عملنا بها…، هي في الحقيقة مرويات وفتاوى أئمة المذاهب الفقهية، التي جعلوها وحيا إلهيا، وألبسوه لباس «الحكمة» المنزلة، لتأخذ قدسية في قلوب أتباعهم!!
لذلك ليس بمستغرب، أن نجد قائمة طويلة، بأسماء (القنابل البشرية)، التي تنتظر دورها لتفجر نفسها وسط المخالفين لها في المذهب، لأن الجنة ستكون في انتظارهم، يدخلونها بغير حساب، بفتوى إمام أو أمير، مرجيعته هي المصدر الثاني للتشريع!!
حقا … إن (المذهبية)، غشاوة على القلوب، تجعل أصحابها لا يفكرون، ولا يتعقلون، ولا يتدبرون!!
«وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ -ـ- فَأَعْرَضَ عَنْهَا ـ- وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ـ- إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ ـ- وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ـ- وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ ـ- فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا»
معلومات:
* الفرقة الناجية: وضع الرواة رواية نسبوها إلى النبي، تقول إن أمته ستنقسم إلى ٧٣ فرقة، كلها في النار، إلا فرقة واحدة…، فخرجت كل فرقة من هذه الفرق تقول لأتباعها، نحن الفرقة الناجية!!
* جهابذة علم الحديث: هم أئمة ما يُسمى بعلم الحديث، الذين اصطلح أئمة السلف على تسميتهم بالمحدثين، حسب التوجه (العقدي والتشريعي) للفرقة التي ينتمون إليها، والذين ظهروا في القرن الثالث والرابع والخامس الهجري!!
محمد السعيد مشتهري
رابط المقال
https://www.feqhelquran.com/…/201561412514595MQ-1.compressed…