إن المتدبر للسياق القرآني، يجد أن هناك مواقف، تجعل (الإيمان) مراتب، منها:
«وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا» – «الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً» – «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا» – «وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا» – «لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا».
أما (التقوى)، فلا يوجد في السياق القرآني، آية واحدة، تُبيّن أنها مراتب، أعلاها مرتبة (إمام المتقين)، وهذه بعض الأمثلة:
«ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى (لِّلْمُتَّقِينَ)» – «بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ وَاتَّقَىٰ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ (الْمُتَّقِينَ)» – «وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ (لِلْمُتَّقِينَ)» – «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ (الْمُتَّقِينَ)» – «تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ (تَقِيًّا)» – «فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ (الْمُتَّقِينَ) وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا» – «إِنَّ (لِلْمُتَّقِينَ) عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ» – «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ (التَّقْوَىٰ) وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ» – «يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ (التَّقْوَىٰ) ذَٰلِكَ خَيْرٌ» – «لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى (التَّقْوَىٰ) مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ»
إن معظم هذه الآيات، تتحدث عن صفات عليا، وجزاء أوفى، لمن أسلم، وصدق إيمانه، والتزم بأحكام الشريعة، ومع ذلك لم نجد أن الله جعل المتقين منازل، أعلاها (إمام المتقين)!!
لقد أردت أن أبيّن هذه المسألة، لأن هناك من يدّعون، (ويتبعهم الآلاف)، أن التقوى تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
التقوى (الفردية): وتتعلق بالعبادات – التقوى (الاجتماعية): وتتعلق بالأخلاق – التقوى (التشريعية): وتتعلق بالالتزام بالقانون ضمن حدود الله!!
ولماذا ذهبوا إلى هذا التقسيم؟! والجواب: لتصنيف أحكام الشريعة حسب هواهم، ليصلوا في النهاية إلى فصل (أحكام الشريعة)، عن منظومة (الوحدانية)، التي لا تنفصل عنها مطلقا!!
ولذلك لا مانع عندهم أن يُغيّروا منظومة (المواريث)، ويعبثوا بمنظومة (العقوبات)، ثم يُدخلون من كفروا بنبوة رسول الله محمد الجنة….، وهم يظنون أنهم على (الوحدانية)!!
إن الذي أوقعهم في هذه (المصيبة)، أنهم ظنوا أن أحكام الشريعة التي تأتي في سياق الجملة الخبرية، (كآيات سورة الفرقان ٦٣-٧٤)، وتبدأ بقوله تعالى:
«وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا»
تختلف عن تلك التي تأتي في سياق الجملة التشريعية، (كآيات سورة الأنعام ١٥١-١٥٢)، وتبدأ بقوله تعالى:
«قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا…..»
وبناء على فهمهم هذا، قالوا: إذن، فأحكام الشريعة التي وردت في الجملة الخبرية، ليست من الفرائض التي يجب على جميع المسلمين العمل بها، ولكن من عمل بها، تعلو منزلته، ويكون إماما للمتقين، استنادا إلى (الآية ٧٤) من سورة الفرقان، التي جاءت في سياق الحديث عن صفات عباد الرحمن، وقد جاءت كلها بصيغة خبرية، فقال تعالى:
«وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا»
إن (الإمامة)، في السياق القرآني، إمامة (هداية)، و(اقتداء)، وليست منصبا دينيا، يعلو به صاحبه على (المتقين)!!!
ولقد بيّن الله السبيل لنيل هذه المنزلة، فقال تعالى في سورة الأنفال (الآية ٢٩):
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن (تَتَّقُوا) اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ (فُرْقَانًا) وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ…»
وقال تعالى في سورة الحديد (الآية ٢٨):
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ (نُورًا) تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ»
تدبر قوله تعالى في الأولى: «يَجْعَل لَّكُمْ (فُرْقَانًا) وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ (وَيَغْفِرْ لَكُمْ)…»
وفي الثانية: «وَيَجْعَل لَّكُمْ (نُورًا) تَمْشُونَ بِهِ (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ»
ودرجة (التقوى) في الآيتين واحدة!!
إن من صفات عباد الرحمن، ما ورد في (الآية ٦٨) من سورة الفرقان:
«وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ، وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا» – «يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا»
فهل لأن الله تعالى جعل هذه الصفات (خبرا)، يصبح الالتزام بها على سبيل الاستحباب، فمن عمل بها تعلو منزلته، ويكون إماما للمتقين، ومن لم يعمل بها، يكون من أهل الجنة، ولكن في منزلة أقل؟!!
هل الذين (يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ)، و(يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّه)….، هل هؤلاء سيشمون رائحة الجنة أصلا؟!
والحقيقة التي يعلمها من له أدنى دراية بالمنهجية العلمية لتدبر القرآن، أنه لا فرق بين أحكام الشريعة، التي تأتي بصيغة خبرية، وتلك التي تأتي بالأمر الصريح، فهؤلاء الذين وصفهم الله بـ (عباد الرحمن)، يستحيل أن ينالوا هذه الصفة، إلا بعد أن التزموا أصلا بأحكام الشريعة القرآنية كلها، كفريضة واجبة الاتباع، على المسلمين جميعا!!
«أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا»
«أفلا تعقلون» – «أفلا تتفكرون» – «أفلا تفقهون»
«أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ – أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا»