منذ ما يزيد عن ثلاثة عقود، وخلال رحلتي من الإيمان (الوراثي) الظني، إلى الإيمان (العلمي) اليقيني، وخلال عدة لقاءات مع أئمة وعلماء الفرق الإسلامية المختلفة، عن حجية ما يدّعون أنها (السنة النبوية)، كنت أطلب منهم النص القرآني، الدال على حجية هذه (السنة)، غير آية (النساء ١١٣)، وآية (الأحزاب ٣٤)، وذلك رحمة بهم، لعلمي أن استنادهم إلى هاتين الآيتين، يدخلهم دائرة (الشرك) بالله تعالى، لأنهم يفترون على الله ورسوله الكذب، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا!!
وعندما كان يسألني أحدهم: ولماذا تشترط هذا الشرط، كان الجواب:
ألم يحذر الله رسوله، والذين آمنوا معه، من (الشرك)، إذا هم تفرقوا في الدين، فقال تعالى:
«مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)» – «مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا ۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»
ألم يتفرق المسلمون في الدين، بعد (الفتن الكبرى)، وأصبحوا فرقا ومذاهب متخاصمة متقاتلة، وكل فرقة تدّعي أنها (الفرقة الناجية)، في الوقت الذي أمر الله رسوله أن (يتبرأ) من هؤلاء الذين فرقوا دينهم، فقال تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا (لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ»؟!!
فهل يُعقل، أن تصبح (السنة النبوية)، التي هي (حقيقة قرآنية)، فقط في عصر التنزيل واكتمال الدين، وأن تصبح مرويات (مذهبية)، إن صحت عند فرقة، لا تصح عند أخرى، وإن صحت عند مذهب من مذاهب الفرقة الواحدة، لا تصح عند باقي المذاهب، فإذا أردنا أن ننقب عن المرويات الصحيحة، ونكتشفها، سند هذه المهمة إلى (الجهابذة) من علماء كل فرقة؟!!
هذا بالنسبة لحال أتباع الفرق والمذاهب المختلفة، الذين انقلبوا على أعقابهم بعد وفاة النبي!!
أما بالنسبة لحجية (السنة النبوية)، التي هي المحور الأساس، في هذا الموضوع، فلا يوجد (مطلقا) في القرآن، دليل واحد، يثبت أن هناك (أحاديث نبوية)، كانت تتنزل على النبي، لبيان وتفسير واستكمال ما نقص من أحكام القرآن، واجبة الاتباع، بعد وفاة النبي!!
فماذا عن الآيتين، (النساء ١١٣ – الأحزاب ٣٤)، اللتين لا يملك أنصار (الفُرقة والمذهبية) غيرهما، لإثبات حجية (سنتهم) المذهبية؟!
يقول الله تعالى في سورة النساء (١١٣):
«…. وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ (وَالْحِكْمَةَ) وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا»
ويقول تعالى في سورة الأحزاب (٣٤):
«وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ (وَالْحِكْمَةِ) إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا»
فما هي (الحكمة) المنزلة، التي أوحاها الله لنبيه محمد، عليه السلام، والتي كانت تتلى في بيوت نساء النبي؟!
إن الذي لا يملك منهجا علميا، يحمل أدوات لفهم (النص القرآني)، ولا دراية له بعلم (السياق القرآني)، ولا بمنظومة (التدبر)…، كيف سيفهم القرآن؟!!
إن من له أدنى دراية بعلم (السياق القرآني)، ويريد أن يفهم معنى كلمة وردت فيه، عليه أولا، وقبل أن يجتهد ويفتري على الله الكذب، أن يبحث عن هذه الكلمة، في القرآن كله، لعله يجد معناها!!
لقد وردت (الحكمة)، في السياق القراني، بأكثر من معنى، ولكن الذي يهمنا في هذا البحث، هو المعنى المتعلق بالحكمة (المنزلة)، و(المتلوة)!!
فإذا تدبرنا آيات سورة الإسراء، (٢٢- ٣٨) وجدناها تحمل بعض أحكام الشريعة، ثم عقب الله بعدها بقوله (٣٩):
«ذَٰلِكَ مِمَّا أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ (الْحِكْمَةِ) – وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ (إِلَٰهًا آخَرَ) – فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا»
فالحكمة المنزلة، والمتلوة، التي أوحاها الله لنبيه محمد، هي أحكام الشريعة (الحكيمة)، التي وردت في كتاب الله، ولذلك جاءت (من) التبعيضية (مِنَ الْحِكْمَةِ)، في هذا السياق، لبيان أنه أحكام سورة الإسراء، ليست هي كل أحكام الشريعة المنزلة، فهناك أحكام أخرى في باقي السور!!
إن عطف (الحكمة) على الكتاب، في سورة النساء: (الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)، وعطف الحكمة على الآيات في سورة الأحزاب: (آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ)، هو ما يُعرف في (علم السياق) بعطف الخاص (أحكام الشريعة) على العام (الكتاب) كله!!
لقد دعا إبراهيم، عليه السلام، ربه فقال: «رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ (الْكِتَابَ) وَ(الْحِكْمَةَ)…»، فهل كان إبراهيم يقصد، أن يعلم النبي محمد قومه، المصدر التشريعي الثاني، الذي وسمه أئمة الفرق المختلفة باسم «السنة النبوية”، والذي دوّنه (المحدثون) بعد وفاة النبي، بقرن ونصف قرن من الزمن، على أقل تقدير!!
هل كان إبراهيم، عليه السلام، يقصد، أن يعلم النبي محمد المسلمين، أتباع الفرق والمذاهب المختلفة، (الذين لم يولدوا بعد)، كيف يستخرجون (الحكمة) الصحيحة، من مرويات (السنة النبوية)، عن طريق (علوم الحديث)، حسب اجتهادات أئمة وعلماء الجرح والتعديل، والتصحيح والتضعيف، عند كل فرقة من الفرق الإسلامية؟!
إن (المذهبية) غشاوة على القلوب، تجعلها لا تفكر، لا تعقل، ولا تتدبر…، لذلك لا تتعجب، عندما ترى حال المسلمين المؤسف، بين سني وشيعي، معتزلي وأباضي، حنفي ومالكي…، إلى آخر عشرات الفرق، والمذاهب، والجماعات المتفرعة عنها، بما في ذلك التنظيمات الإرهابية، التي تسعى في الأرض فسادا..، وكل هذه الطوائف، تحمل راية التمسك بـ (الكتاب والسنة)، وتتخذ (مرويات السنة) دليلا على حجية توجهها (العقدي والتشريعي)، بدعوى أن هذه (المرويات) توافق القرآن، ولا تخالفه، حتى لو كانت عند المحدثين ضعيفة أو موضوعة!!
ولذلك لم تعد (المذهبية) غشاوة على القلب فقط، وإنما (ختم) على القلوب!!
«وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ – فَأَعْرَضَ عَنْهَا – وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ – إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ – وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا – وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ – فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا»