نحو إسلام الرسول

(342) 30/5/2015 (هل الطاعة للرسول، أم للمحدثين؟)

إن حُجية الرسالات الإلهية، لا تقوم على الادعاء، وإنما على البرهان الإلهي المثبت لصدق هذا الادعاء. ولقد بعث الله خاتم النبيين محمدا بـ «آية قرآنية»، تثبت صدق «نبوته»، وبلاغه عن الله، وهذه (الآية) هي كتاب يُتلى بين الناس، قام (النبي) بتفعيله في عصر الرسالة، وكان من الطبيعي أن يأمر الله المعاصرين لـلنبي أن يطيعوه، لأنه القائم على تنفيذ أحكام هذا الكتاب بينهم.

فهل كانت المرجعية المدونة في عصر الرسالة، التي تستمد منها أحكام الشريعة الإلهية، والتي أمر الله المؤمنين بطاعة الله ورسوله فيها..، هل كانت كتابا واحدا، هو القرآن الذي بين أيدينا اليوم، أم كانت كتابين: القرآن، و(الأحاديث النبوية)، الموزعة اليوم بين أمهات كتب الحديث، الموجودة عند أتباع الفرق والمذاهب المختلفة؟!

إنه لا خلاف على وجوب (طاعة الرسول) في حياته، فهو المبلغ عن الله رسالته، وإنما الخلاف حول مفهوم (طاعة الرسول) بعد وفاته، فتعالوا نتعرف على حقيقة هذا المفهوم، في السياق القرآني.

لقد جاء الأمر بـ (طاعة الرسول)، في السياق القرآني، على النحو التالي:

الأول: «(أَطِيعُوا) اللَّهَ وَالرَّسُولَ»، فالله تعالى هو منزل الكتاب، والرسول المبلغ لآيات الكتاب.

الثاني: «(أَطِيعُواْ) اللّهَ وَ(أَطِيعُواْ) الرَّسُولَ»، فالله تعالى هو منزل الكتاب، والرسول هو القائم على تنفيذ أحكام الكتاب، يقول الله تعالى في سورة النساء (٥٩):

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ …».

إنه يجب التفريق بين طاعة (الله) المشرع، وطاعة (الرسول) القائم على تنفيذ شريعة الله، وذلك على النحو التالي:

المرجعية التشريعية: «أَطِيعُوا اللَّهَ»، وتعني الإيمان والتصديق بحجية (كتاب الله) على العالمين.

والمرجعية التنفيذية: «وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ»، وتعني القائمين على تنفيذ أحكام الكتاب.

ونلاحظ عدم إضافة الطاعة لـ (أولي الأمر)، لأنهم تابعون للرسول في إدارة شئون البلاد، باعتبارهم الجهة التنفيذية والرقابية.

ولذلك عند التنازع، يكون الرد إلى الله، لأنه سبحانه المشرّع، (وَالرَّسُولِ) لأنه القائد العام، القائم على تنفيذ شريعة الله، ولم يقل (وإلى الرسول)، حتى لا يُفهم أن للرسول شريعة مستقلة عن شريعة الله، يُطاع فيها!!

الثالث: «(وَأَطِيعُوا) الرَّسُولَ»، يقول الله تعالى في سورة النور (٥٤):

«وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ»

هذه هي الآية الوحيدة، التي أمر الله فيها بـ (طاعة الرسول) وحده، وذلك لأن السياق الذي

وردت فيه، يتحدث عن موقف المنافقين من رسول الله، وهذا ما نفهمه من قوله تعالى:

«وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ»

فقال تعالى (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ)، ولم يقل (ليحكما بينهم)، لبيان أن المنفذ لأحكام الشريعة الإلهية، على أرض الواقع، هو رسول الله!!

والسؤال: هل يستوي تحقق (طاعة الرسول)، وهو يعيش بين قومه، والتي يتوقف عليها إسلام المرء أو كفره..، مع طاعة الرواة و(المحدثين)، فيما نقلوه من (مرويات) الفرق والمذاهب المتخاصمة، كل حسب ثقافته ومعارفه وتوجهاته العقدية والتشريعية؟!

إن الأمر بـ (طاعة الرسول)، في السياق القرآني كله، يخص المعاصرين للرسول، هؤلاء الذين كان بإماكانهم (السماع) منه، وتنفيذ أمره، تدبر قوله تعالى:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ»

إن قوله تعالى: «وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ»، هو البرهان القاطع، على أن الأمر بطاعة الرسول خاص بمن عاصروه، لأنه لا يُعقل أن يكون المقصود: وأنتم تسمعون الرواة والمحدثين!!

ثم يقول الله تعالى في الآية (٦١) من سورة النساء:

«وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً»
إن قوله تعالى: «إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ»، يحصر موضوع الطاعة في «المنزل»، أي في القرآن، لأنه لا دليل في كتاب الله، يثبت أن الله تعالى أنزل على رسوله كتابا غير القرآن.

وقوله تعالى: «وَإِلَى الرَّسُولِ»، يشير إلى (السلطة التنفيذية) القائمة على تنفيذ أحكام الكتاب بين الناس، كما يشير إلى أن (طاعة الرسول) طاعة حضورية، وهذا ما بينه قوله تعالى بعدها (الآية ٦٣): « فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ »!!

فكيف يُعرض رسول الله عن المنافقين بعد وفاته؟! وكيف يكون المعرض، أو المنكر لـ (الأحاديث) التي نسبها رواة الفرق المختلفة إلى الرسول، يكون معرضا أو منكرا أو عاصيا لأمر الرسول في حياته؟!

إن جميع (الأحاديث) المنسوبة إلى الرسول، والمدونة في أمهات الكتب، كان مصدرها الرئيس، هو (الرسول وصحبه)، ثم عندما جاء عصر التدوين، بعد قرن ونصف قرن من وفاة النبي، لم يكن هذا المصدر موجودا، ليراجع هذه (الأحاديث)، ويحذف منها ما افتراه الرواة على الله ورسوله!!

إذن فكيف يدّعي (المحدثون) أن تعالوا «إِلَى الرَّسُولِ» تعني تعالوا إلى (المحدثين)، وأمهات كتب (الحديث)، و(الجرح والتعديل)، للفرق والمذاهب المختلفة!!

ثم تعالوا نتدبر هذه الجمل، التي وردت في سياق الآيات (٦٢- ٦٥):

« ثُمَّ جَاءُوكَ »، « فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ »، « وَعِظْهُمْ – وَقُلْ لَهُمْ »، « وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ »…، ثم قال تعالى بعدها:

« فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً »

هل يمكن أن تحل مرويات (المحدثين)، محل شخص الرسول، المخاطب في هذا السياق القرآني؟!

هل يمكن أن يمتد ضمير الخطاب (يُحَكِّمُوكَ)، و(قَضَيْتَ)…، ليشمل الحكم الذي قضي به (المحدثون)، بصحة أو عدم صحة (الأحاديث)، حسب مذاهبهم في الجرح والتعديل؟!!

ثم كيف يتحقق قوله تعالى: « وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً »، أمام هذا الكم الهائل من (المرويات) المنسوبة إلى رسول الله، التي إن صحت عند فرقة، لم تصح عند أخرى!!

لقد أراد أئمة الفرق والمذاهب المختلفة، أن يُوظّفوا الأمر بـ (طاعة الرسول)، لخدمة توجهاتهم العقدية والتشريعية، وأن يعطوا قدسية لـ (المحدثين)، بدعوى أن الأمر بـ (طاعة الرسول)، هو أمر بـ (طاعة المحدثين)، لأنهم هم الذين نقلوا عن الصحابة (الأحاديث)، فإذا كانت (طاعة الرسول) من (طاعة الله)، فكذلك طاعة (المحدثين) من طاعة (الرسول)!!

ولكن الذي غاب عن أئمة الفرق والمذاهب المختلفة، أنهم أصلا يعيشون داخل دائرة « الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً »، فهل يمكن أن نقبل، أن تكون مصادرهم التشريعية، هي التي حملت (الأحاديث النبوية) واجبة الاتباع، والتي يكفر من ينكرها…، وقد أمر الله رسوله، أن يتبرأ « مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً »، فقال تعالى:

«إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ)، إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ»؟!

إننا إذا عدنا إلى عصر الرسالة، وإلى السياق القرآني، فسنجد نصا قرآنيا يُبيّن أن معصية الله ورسوله، (كفر)، يخلد صاحبها في النار، وقد جاء هذا البيان، في سياق بيان أحكام (المواريث)، فقال تعالى في سورة النساء:

«وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ»!!

إذن، فطاعة الله ورسوله، من أصول الدين، التي يتوقف عليها إسلام المرء أو كفره، الأمر الذي لا يتحقق بالنسبة لـ (طاعة الرسول) إلا في عصر الرسالة، وهذه هي الحقيقة التي تجاهلها (المحدثون)، حتى تصبح مسألة الطاعة والمعصية في أيديهم، هم الذين يقررون متى تكون (طاعة الرسول)، ومتى تكون (معصيته)، حسب مذاهبهم في الجرح والتعديل، والتصحيح والتضعيف!!

إن تفعيل (النبي)، للنص القرآني، كان قطعي الثبوت، قطعي الدلالة، عن (النبي)، في عصر التنزيل، ولا يُعقل، أن يتحول ما كان قطعي الثبوت عن (النبي)، إلى ظني الثبوت عن (الرواة)، ثم يأتي (المحدثون)، ويتخذوه مصدرا تشريعيا إلهيا ثانيا، يكفر من ينكره!!

ومجمل القول: إن علماء المسلمين جميعا، لا يملكون دليلاً قطعي الثبوت عن الله تعالى، يثبت أنه عز وجل أنزل على رسوله كتابا تشريعياً ثانيا، يستكمل به ما نقص من أحكام القرآن!!

إن مسألة (طاعة) الرسول، أو (معصيته)، يتوقف عليه إسلام المرء أو كفره…، لذلك يستحيل أن تكون لها فاعلية إلا في حياة (النبي)، أما بعد وفاته، فإن الفاعلية تكون في اتباع (النور) الذي أُنزل معه، وبرهان ذلك قوله تعالى:

« فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ »

معلومات:

* أمهات كتب الحديث: مصطلح يُطلق علي كتب (الأحاديث)، التي دوّنها أئمة كل فرقة حسب مذاهبهم في الجرح والتعديل، والتصحيح والتضعيف، والتي اشتهرت، وتأثر بها، أتباع الفرقة إلى يومنا هذا!!

* عصر التدوين: هو العصر الذي سمحت فيه الخلافة الإسلامية، بتدوين التراث الديني، الذي لا يخالف توجهها العقدي والتشريعي، بعد أن نقل الرواة والإخباريون مادته شفاهة، خلال ما لا يقل عن قرن من الزمن، من وفاة النبي.

أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى