«طبعا، سيخرج علينا أنصار (الفُرقة والمذهبية)، رافعين سلاح (إنكار السنة)، مستندين إلى شبهة واهية تقول: إن مرويات (السنة)، هي التي جاءت بتفصيلات الصلاة، فإذا أسقطناها، أسقطنا ركنا رئيسا من أركان الإسلام..، وهي شبهة واهية».
بهذه الفقرة ختمت مقالي السابق: (السنة النبوية حقيقة قرآنية – في عصر النبوة).
لقد أمر الله المسلمين بإقام الصلاة، ولم يرد تفصيل لكيفية أداء الصلاة في القرآن، ولم يُبيّن الله تعالى أن العرب ورثوا هذه الكيفية عن إبراهيم، عليه السلام، فقد بُعث النبي في قوم، لم تكن لهم عبادة ولا تكليف ولا صلاة…، قال تعالى في سورة السجدة، وسورة يس:
«لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ» – «لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ»!!
إذن فالصلوات الخمس، التي يؤديها المسلمون، منذ عصر الرسالة وإلى يومنا هذا، لا شك أن النبي قد تعلم كيفية أدائها، ثم علمها لأصحابه، ونقلها عنهم المسلمون جميعا، دون أي خلاف حول كيفية أدائها، ولا حول أسمائها، ولا مواقيتها…، مع تفرقهم وتخاصمهم!!
فكم كان عدد المسلمين الذين صلوا مع رسول الله (الصلوات الخمس) في عصر الرسالة؟! ثم كم عدد المصلين الذين يُصلونها، على مستوى جميع الفرق والمذاهب الإسلامية، وهل لجأ أب أو أم إلى كتاب، يُعلم منه أطفاله كيفية الصلاة؟!
لقد تعلم المسلمون كيفية أداء الصلاة، بالتقليد والمحاكاة، عبر «منظومة التواصل المعرفي»، قبل أن تولد أمهات كتب (الأحاديث)، وقبل أن تظهر أمهات كتب (المذاهب الفقهية) المختلفة، لذلك كان من المستحيل، أن تُخترق هذه المنظومة الأممية التعبدية، عبر رحلتها من عصر النبوة، وإلى يومنا هذا!!
ولكن أنصار (الفُرقة والمذهبية)، وجميع المؤسسات والجماعات والأحزاب الدينية، التي قامت على أساس أن مرجعية الإسلام (كتاب وسنة)، وأن مرويات (السنة)، هي الوحي الثاني المبين والمكمل لأحكام القرآن…، هؤلاء يستحيل أن يتخلوا عن هذه (المرويات)، وإلا سقطت توجهاتهم العقدية والتشريعية من قواعدها!!
لقد ذهبوا يرفعون سلاح التكفير، في وجه كل من تسول له نفسه إنكار مروياتهم (المذهبية)، واجتهاداتهم الفقهية، بدعوى أن هذه (المرويات) هي التي أتت بكيفية أداء العبادات، وعلى رأسها الصلاة، فمن أنكرها أنكر الصلاة، وخرج من ملة الإسلام!!
فهل فعلا هذه (المرويات) هي التي جاءت بتفصيلات الصلاة، فإذا أسقطناها أسقطنا الإسلام؟!
أقول:
أولا: إن كل ما أجمله (النص القرآني) من أحكام العبادات، وأجمع المسلمون على كيفية أدائه، عبر (منظومة التواصل المعرفي)، واجب الاتباع، وما عداه فهو من مباح، ولا يصح أن يكون محل خلاف بين المسلمين، ما لم يخالف نصا قرآنيا، أو مقصدا من مقاصده، كأصول الصلاة، من قيام وركوع وسجود…، التي لا تصح الصلاة إلا بها.
ثانيا: إن كيفية الأداء العملي للصلاة، ليست فى ذاتها نصاً تشريعياً مستقلاً عن النص القرآني (أقيموا الصلاة)، وإنما هى الصورة العملية، لما أجمله هذا (النص) من أحكام، تعلمها المسلمون (جميعا) بالتقليد والمحاكاة، وليس بدراسة أمهات كتب (الحديث) المذهبية، أو بـ (التواتر العملي) المذهبي، وتفصيل ذلك في كتب الفقه المقارن!!
ثالثا: لقد بلغت (مرويات الصلاة) فى مسند الإمام أحمد (ت 241هـ) 1749 رواية!!
وبلغت في جامع الأصول لابن الأثير، (ت 606هـ) 1140 رواية!!
وفي كنز العمال، لابن حسام الدين الهندى، (ت 975هـ) بلغت 4701 رواية.
فلاحظ تاريخ الوفاة، والتباين فى عدد الروايات، والذي يعني أن هذه (المرويات) المذهبية، قامت على مدارس الجرح والتعديل، والتصحيح والتضعيف، عبر القرون…، فهل هذه هي (السنة النبوية) التي يكفر منكرها؟!
إن الرواية الوحيدة، التي يعتبرونها حجة في بيان كيفية أداء الصلاة، هي رواية (المسيء في صلاته)، والغريب أنها جاءت لتنصر مذهبا فقهيا على مذهب آخر، فالمذهب الحنفي يرى عدم وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة، والمذاهب الأخرى ترى وجوبها، فجاءت هذه الرواية لتنصر المذهب الحنفي…، فهل هذه هي (السنة النبوية)، التي يكفر منكرها؟!
إذن فأين نجد (السنة النبوية)، المبينة لأحكام الصلاة، وسط هذه الصراعات والخلافات والفتاوى الفقهية التكفيرية، إلا إذا كان النبي، عليه السلام، قد وزع حديثه على المحدثين، والفقهاء، وأعطاهم حرية التعامل معه، واختيار ما يوافق توجه كل واحد منهم، (العقدي والتشريعي)!!
إن كل مرويات (الصلاة)، عند جميع الفرق والمذاهب المختلفة، ما هي إلا أخبار استفاضت بين رواة هذه الفرق، خلال ما لا يقل عن قرن ونصف قرن من عصر الرسالة، حتى جاء عصر التدوين، بعد أن ظهرت المذاهب الفقهية المتخاصمة المتقاتلة، والفتاوى التكفيرية للمخالفين للمذهب!!
لقد سأل ابن تيمية (في كتاب الفتاوى):
* عن أقوام يؤخرون صلاة الليل إلى النهار لأشغال لهم من زرع….، إلى آخره؟!
– فأجاب: يجب قتلهم عند (جمهور العلماء)، بعد أن يستتابوا، فإن تابوا والتزموا أن يصلوا فى الوقت ألزموا ذلك، وإن قالوا لا نصلى إلا بعد غروب الشمس، لاشتغالهم بالصناعة أو الصيد أو غير ذلك فإنهم يقتلوا.
* وعن رجل جار للمسجد، ولم يحضر مع الجماعة الصلاة، ويحتج بدكانه؟!
– فأجاب: «فإن كان لا يصلى فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل».
* وعن رأيه فى من خالف مذهبه الفقهى، فى مسألة صلاة السفر؟!
– فأجاب: «يستتاب قائله، فإن تاب وإلا قتل».
أنا لست مع تأخير الصلاة عن موعدها، ولا مع الانشغال بغيرها عنها، ولكن الله تعالى لم يرتب على ذلك عقوبة دنيوية!!
ثم انتقل ابن تيمية إلى دائرة أوسع، فحكم بإراقة دم الداعى إلى (البدع فى الدين)، فعند حديثه عن الجهاد قال:
«ومن لم يندفع فساده فى الأرض إلا بالقتل، قُتل، مثل «المفرق لجماعة المسلمين»، و«الداعي إلى البدع فى الدين»!!
إن هذه الفتوى، هي مستند كل من اعتقدوا أنهم (جماعة المسلمين)، وأن إمامهم هو إمام المسلمين، وأن مذهبهم هو المذهب الحق، وأن فرقتهم هي (الفرقة الناجية)…، من المؤسسات والجماعات والأحزاب الدينية، (الجهادية وغير الجهادية)، فكلها تسعى إلى هدف
واحد، هو تحقيق حلم الخلافة الإسلامية في الأرض!!
لذلك إذا تمكنت إحدى هذه الجماعات من حكم بلد من البلدان، ستسارع باقي الجماعات إلى الانضمام إليها، وإلى نصرتها، ثم تبدأ أزمة التخاصم والتكفير المذهبي تسري في دمائهم، وتشتعل الطائفية بينهم، وتُسفك الدماء بغير حق، كما حدث من قبل في أفغانستان!!
عندما تعتقد كل جماعة أنها (جماعة المسلمين)، وغيرها من الجماعات تستحق القتل، يصبح الصراع ليس صراعا سياسيا، من أجل الوصول إلى كرسي الحكم، وإنما لعدم تمكين المخالف في المذهب من حكم البلاد، وما يحدث اليوم في العراق، وسوريا، وليبيا، واليمن…، خير شاهد على ذلك!!
أما عن قتل «الداعي إلى البدع فى الدين»، فهذه هي (الشماعة) المذهبية، التي تعلق عليها (السلطة الدينية) الحاكمة للبلاد، على مر العصور، مبرراتها لاضطهاد وتعذيب وقتل المخالفين لها في المذهب..، واقرؤوا جيدا تاريخ المذاهب الفقهية، لذلك يستحيل أن تتنازل هذه (السلطة الدينية) عن مروياتها، ولا عن الأحكام الفقهية المستنبطة منها، وإلا سقطت!!
إن منظومة الأحكام الفقهية، التي قامت على مرويات السنة (المذهبية)، حملت أحكاما ما أنزل الله بها من سلطان، وعقائد مقدسة لا أصل لها في كتاب الله، وكلها تأويلات باطلة لبعض آيات الذكر الحكيم، محكومة بمرويات هذه (السنة)، وبفتاوى أئمة المذاهب الفقهية!!
إن عقيدة المهدي المنتظر، وبعثة عيسى، والجهاد من أجل عودة الخلافة الإسلامية (بحكمها العضود)، ورجم الزانية والزاني، وقتل المفارق لجماعة المسلمين، والتفجيرات الانتحارية في مساجد المخالفين للمذهب، كما يحدث اليوم، وغيرها من مئات الفتاوي التي ما أنزل الله بها من سلطان…، خطوط حمراء يحرم الاقتراب منها!!
طبعا، سيخرج علينا أنصار (الفُرقة والمذهبية)، رافعين سلاح (إنكار السنة)، ولكن هذه المرة ليس بسبب (حجة) الصلاة، وإنما بسبب هم أنفسهم لا يعلمونه، ذلك أن (المذهبية) غشاوة على القلب، لا تجعل صاحبه يُبصر الحق!!
لذلك أقول: سواء دوّن المحدثون (مرويات الصلاة) في أمهات الكتب، أم لم يدوّنوها..، وسواء دوّن فقهاء المذاهب المختلفة أحكام الصلاة أم لم يدوّنوها..، فإن المسلمين كانوا يُصلّون، كما صلى رسول الله وصحبه، وسيُصلّون إلى يوم الدين!!
«هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا – إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ – وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ»
معلومات:
* منظومة التواصل المعرفي: أقصد بها، المعارف، وكيفيات الأداء العملي، والخبرات …، التي تواصلت حلقاتها عبر العصور، من غير خلاف ولا انقطاع بين المسلمين جميعا، بشرط وجود نص قرآني مجمل، يُحيلنا على هذه المنظومة.
* التواتر العملي: ليس تواصلا (أمميا)، وإنما تواصل (مذهبي)، بين أتباع فرقة من الفرق، أو مذهب من المذاهب، كمسألة رفع اليدين في الصلاة..، وكل أحكام الصلاة التي تواترت مذهبيا، فهي محل خلاف بين المحدثين والفقهاء!!